السبت 18 مايو 2024

الفقراء والشمول المالى ودفتر توفير البريد

10-5-2017 | 13:10

بقلم – د. سلوى العنترى

فى السابع والعشرين من شهر أبريل الماضى أطلق الجهاز المصرفى المصرى حملة استمرت لمدة أسبوع تحت شعار “الشمول المالى”، البنك المركزى أعلن أن الحملة تستهدف توصيل الخدمات المصرفية لكل فئات المواطنين أينما كانوا بطرق سهلة وبسيطة التكاليف، وأن ذلك يتضمن الاهتمام الأكبر بالفقراء ومحدودى الدخل، مع توجيه اهتمام خاص للنساء، والوصول إلى الأفراد والمشروعات الصغيرة والمتوسطة.

كبار المسئولين فى البنوك أعلنوا السماح للمواطنين بفتح الحسابات المصرفية مجانا ودون اشتراط حد أدنى للمبالغ المودعة فى تلك الحسابات، طوال مدة الحملة، كما حرصوا على تأكيد المشاركة فى إرسال مندوبين لمناطق التجمعات الحرفية والمشروعات الصغيرة، وأماكن التسوق والجامعات والتجمعات الشبابية فى المحافظات كافة، فضلا عن تكثيف الوجود فى المناطق النائية والمهمشة، خاصة الصعيد والقرى والنجوع، والأماكن التى لم تحظَ حتى الآن بالخدمات المصرفية.

ونبادر إلى القول بأن السعى لإتاحة الخدمات المالية المختلفة لكافة فئات المجتمع، بما فى ذلك محدودى الدخل وساكنى القرى والنجوع، يمثل تحولا مهما فى توجهات البنوك المصرية، والتى ظلت إلى وقت قريب تعتبر التعامل مع هذه الفئات أمرا غير مربح وغير مبرر من الناحية الاقتصادية، لن أنسى حوارا دار منذ سنوات عديدة فى بنك مصرى عملاق، عندما أصر رئيس مجلس الإدارة على تحميل صغار المودعين بمصروفات سنوية على حساباتهم ووضع حد أدنى للمدخرات التى يمكن احتساب عائد لهم عنها. المسئول المصرفى الكبير أعلن صراحة أنه لا يريد هذه الشريحة من العملاء.. وأن عليهم أن يتوجهوا لدفتر توفير البريد.

الحقيقة التى ربما اكتشفها مؤخرا هذا المسئول المصرفى، هى أن البسطاء فى مصر يعرفون قيمة القرش الأبيض فى اليوم الأسود.. يحتاطون للزمن، فى حدود إمكانياتهم، ويدخرون. بيانات الجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء توضح أن رصيد إجمالى المدخرات فى دفتر توفير البريد قد بلغ نحو١٠١ مليار جنيه بالتمام والكمال، وذلك فى نهاية يونيو ٢٠١٦. هذه المليارات من الجنيهات تم إيداعها من عامة الشعب فى القرى والنجوع والشريحة الدنيا للطبقة المتوسطة فى بر مصر، والحقيقة التى قد لا يعرفها الكثيرون هى أن مدخرات هؤلاء البسطاء تمثل أحد المصادر الرئيسية لتمويل الحكومة وهيئاتها العامة وشركاتها القابضة بجلالة قدرها، سواء من خلال بنك الاستثمار القومى أو من خلال اكتتاب هيئة البريد مباشرة فى أذون وسندات الخزانة.

دفتر توفير البريد لايزال يمثل الوعاء الادخارى الأساسى للفئات التى ظلت البنوك، حتى وقت قريب، تتكبر على التعامل معها، جاذبية دفتر توفير البريد للبسطاء لا ترجع فقط إلى أنه أقدم وعاء ادخارى بالجنيه المصرى، يرجع العهد به إلى عام ١٩٠١، وأنه يتمتع بضمان الحكومة للودائع وفوائدها، ولكن أيضا لانتشار شبكة مكاتب البريد فى سائر أنحاء البلاد بما فى ذلك أصغر القرى والنجوع، أى الأماكن التى ترى البنوك بمعايير التكلفة والعائد أنه من غير المربح الذهاب إليها وفتح فروع فيها، عدد مكاتب البريد حاليا يصل إلى نحو ٤٠٠٠ مكتب، الانتشار الكبير لتلك الشبكة جعلها منفذا رئيسيا لصرف معاشات يبلغ إجماليها نحو ٥٦ مليار جنيه.. بعض مكاتب البريد يقدم أيضا خدمات الحوالات الخارجية الواردة للأفراد بالنقد الأجنبى.

تطوير مكاتب البريد وربطها إلكترونيا ونشر ماكينات الصارف الآلى التابعة لها، وتسهيل إجراءات التعامل على حسابات المودعين من أى مكتب، وتطوير الخدمات والأوعية الادخارية المتاحة للمتعاملين والإعلان الجيد عنها والتوعية بها، يمكن أن يلعب دورا ضخما فى زيادة تعبئة المدخرات فى مصر فضلا عن تحويلات المصريين العاملين فى الخارج، الحكومة تعلن أنها تقوم بالفعل منذ سنوات باستكمال مشروع ضخم لتطوير الهيئة القومية للبريد وتحديث مكاتبها وربطها الكترونيا، طبعا كل ذلك جميل، إلا أن تفعيل دور منظومة البريد فى تعبئة المدخرات يتطلب أيضا نظرة من الحكومة على أسعار الفائدة الممنوحة لأصحاب دفاتر توفير البريد.

هل تعرفون معدل أسعار الفائدة حاليا على الأموال المودعة فى دفتر توفير البريد؟ إنه لا يتجاوز ١٠.٢٥٪ سنويا! هذا المعدل يقل كثيرا عن مستويات أسعار الفائدة السائدة على حسابات التوفير فى البنوك والتى تتراوح بين ١٢.٢٥٪ و١٣.٢٥٪، يعنى باختصار أن المتعاملين مع البنوك يحصلون على عائد أعلى مما يحصل عليه البسطاء الذين يتعاملون مع مكاتب البريد!

الحكومة هى المستفيد الرئيسى من حصيلة دفتر توفير البريد، ومع ذلك فهى تتعامل مع أصحاب تلك الأموال باعتبارهم لا حول لهم ولا قوة.. تتزايد الفجوة بين ما يحصلون عليه من عائد وبين معدلات التضخم وتتآكل القيمة الحقيقية لمدخراتهم ويتم التعامل مع الأمر باعتباره قدرا محتوما، ففى النهاية أين سيذهبون بمدخراتهم؟ أما كبار المدخرين الذين يتعاملون مع البنوك فلا توجد لديهم مشكلة، المجالات المفتوحة أمام مدخراتهم متعددة، بدءا من بناء العمارات إلى المضاربة على الأراضى والمعادن النفيسة والتعامل فى البورصة.. حتى إيداعاتهم فى البنوك تحصل على عائد مميز باعتبارهم من كبار العملاء.

يقولون لنا إن الشمول المالى للفئات محدودة الدخل يساعد على رفع معدلات الادخار وتعبئة الموارد اللازمة للتنمية ووضعها تحت تصرف المؤسسات المالية الرسمية، إذن فلتكن أول خطوة حقيقية على هذا الطريق هى رفع جاذبية الوعاء الادخارى الرئيسى لتلك الفئات المستهدفة، والذى تعد الحكومة المستفيد الأول من حصيلته، لتكن نقطة البدء هى التزام الحكومة بمنح مودعى توفير البريد عائدا مساويا لما يحصل عليه عملاء البنوك فى الأوعية الادخارية المماثلة إن لم يكن هذا من أجل العدالة الاجتماعية، فليكن من أجل اجتذاب حصيلة أكبر لسد عجز الموازنة العامة للدولة!

 

    الاكثر قراءة