الحاكمية
عام 35 هجرية؛ قتل الخليفة عثمان بن عفان الأموي في مدينة رسول الله، وجاء بعده خليفة على المسلمين الإمام علي بن أبي طالب الهاشمي .
رفض الأمويين بيعة علي بن أبي طالب وطالبوًا بدم عثمان، وانتزي معاوية بن أبي سفيان الأموي بالشام التي كان حاكمًا عليها من أيام الخليفة عمر بن الخطاب، وفصلها عن الدولة الإسلامية.. وإثرًا علي ذلك احتدم الصراع بين علي ومعاوية في حرب كان آخر فصولها معركة "صفين" عُرفت بالفتنة الكبرى عام 41 هجرية.
نجح الأمويون في تصفية علي بن أبي طالب وتحييد الهاشميين وأسسوًا لأول ملكية في الإسلام لا تقوم علي نظام البيعة الشرعية، ليوطد - ومن بعده سائر الخلفاء - أركان مُلكه أسس لفكرة فلسفية قديمة ألا وهي "الحاكمية" التي نادي بها الخوارج في وجه علي بن أبي طالب، فكرة تعود إلي مصر القديمة التي تقدس الفرعون وتجعله إله، وتم استخدامها وتوظيفها في أوربا في القرون الوسطي المعروفة بالحق الإلهي للملوك أن الخليفة - في الواقع الملك الحاكم - ظل الله علي الأرض، يستمد شرعيته من الله، قال معاوية بن أبي سفيان "الأرض لله .. وأنا خليفة الله .. فما أخذت فلي وما تركته للناس فبفضل مني".
وفي موقعة الزاب 132 هجرية، دمر العباسيون الدولة الأموية وأقاموًا الدولة العباسية، وحكموًا المسلمين بذات المنطق أيضًا الذي تم دحرهم به قبل تسعون عامًا قامت دول صغري وكبري فمن داخل الخلافة العباسية مثل الدولة الفاطمية، الأيوبية، الزنكية، المماليك، وجميعهم يحكموًا بذات منطق "الحاكمية"، بعد أن نقل فقهاء السلطة الفكرة من نظم الحكم الأوربية وقيفوها مع الإسلام، فجاءت آرائهم في صالح الخلفاء وساحقة للناس ، تبرر الاستبداد وتمحو السياسة ومبدأ الشوري .
في الفترة التي تلت نهاية دولة المماليك دخلت الأمة العربية الإسلامية في نفق مظلم سببه أمران هو التردي السياسي والفكري أيام المماليك وما فعله العثمانيون فيما بعد من حجب سبل الحضارة علي الأمة العربية، ثم الاحتلال الأجنبي للبلاد العربية من العراق إلي المغرب، فكان من المنطقي أن تختفي فكرة الحاكمية ؛ لأنه باختصار لا يوجد كرسي للحكم يتم شرعنة الجلوس عليه أو الوصول له .
بيد أنه مع ظهور المقاومة الوطنية وفكرة القومية في البلاد العربية والتي بدأت في مصر، عمد الاحتلال إلي حيلة خبيثة جدًا بثّها المستشرقون في أدمغة قادة الاحتلال، ألا وهي إحياء فكرة الحاكمية من جديد، واستدعاء مشهد معركة صفين من جديد بعد تأجيج أوجه الصراع بين الكفر والإيمان .
وقد كان بالفعل فتم دعم جماعة الإخوان المسلمين التي عبّرت عن مناهضة الأفكار العلمانية كما تم الزعم عنها لحزب الوفد، وأنه ضد الدين، فكان الاشتباك في المظاهرات بين الوفد والإخوان ولم ترمى حجارة واحدة على الإنجليز من جانبهم كما كان الوفديون والفدائيون فيما بعد .
فكرة الحاكمية ولد من رحمها تيار الإسلام السياسي، وتم تحويره وتطويره مثل الفيروس المميت، ليتم اختراع الجانب الجهادي منه؛ لأن الحاجة العالمية تستدعي ذلك، مناهضة للأنظمة القومية، ومحاربة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان .
ثم يأتي الفاصل الأخير من تشظي قنبلة الحاكمية متغيرة المعالم ، ليظهر لنا شكل جديد منه هو تنظيمي القاعدة، وداعش.. لا زال العالم يعاني من أثر الفكرة التي سممت بئر السلام وحرقت غصون الديمقراطية .