الأمر ليس على ما يبدو عليه بشكله المباشر، فليست هذه المساحة رثاء تلميذ لأستاذ أمهر، أو أخ أصغر لأخ أكبر.. بل رصد لحالة فكرية تنويرية وإطلالة إنسانية براقة، لم يظهر لها بديل، حتى الآن على الأقل.
رجل ليس كمثل الرجال.. واقعيا، إنسان ليس ككل البشر.. فعليا، مفكر لم تجود الأيام بشبيه له كثيرا، صحفي شهد له الغريب قبل القريب.. جديا.
يعتصرنى الوجع، وأنا أكتب رثاء عنه، فالصورة الذهنية لم تضعه بعد في خانة الراحلين، حتى بعد مرور كل هذه السنوات، خاصة أن الألم يتضاعف، لأنه من مفارقات حياتى، أن رحيل عبدالله لا يفصله عن رحيل أبي كمال سوى عشرة أيام وفوقها عشرة سنين، وكأنها رسالة ما، فالأب الكبير والأب الصغير، رحلا بشفرة رقمية، لها ارتباطها ومدلولها، التى لا يفهمها سوى من يعرف علاقة الوالد الحاج كمال والإبن الأكبر الأستاذ عبدالله، الذي كان يتمناه مهندسا يرث أعماله، لكنه قرر أن يكون صحفيا، رغم إنه مجموعه في الثانوية العامة كان يؤهله بسهولة للهندسة، وكان هذا بمثابة تحول درامى كبير في أسرتى، ورغم ذلك قدر الأب الصارم قرار الابن الأكبر ودعمه.. وهذا نموذج من نماذج علاقتهما غير التقليدية، التى تكتب فيها مسلسلات وأفلام، بكل حق.
كل كلمة في ملف عبدالله كمال الشخصي والعام، مليئة بالشجن والألم، ما بين مكشوف، وغير ذلك، وما بين خاص وغير ذلك.
ويكفينى أنه رغم كل هذه السنوات، لايزال الكل يتذكره في كل الدوائر الشخصية والمهنية والسيادية، والعبارة التى تتكرر على مسامعى دائما في كل مكان، لو كان أخوك عايش كان سيكون كذا وكذا، فهو مفكر كبير ورجل دولة فقدت الدولة المصرية قلمه غير التقليدى في ملفات عديدة، فلم يستطع أحد أن يملأ فراغ العبدالله كمال، وفق شهادة الجميع، وليست هذه شهادتى المجروحة فيه بالطبع، فهناك أسماء كبيرة تهاتفنى لتسألنى عن تصورى، ماذا كان رأى الأستاذ في الموقف الفلانى، داخليا وخارجيا..ولا يمكننى التحدث بإسم مفكرنا الكبير، وأحيل السائل إما لمقال كتبه عبدالله كمال في موقف مشابه، أو أقول له أنت تعرفه أكثر منى، لأخرج من الموقف بهدوء، ولا أتحدث بإسمه، فكانت هذه قاعدة أو ميثاق إتفاق بينا منذ بداية دخولى المهنة، أنت أنت وأنا أنا، وأحافظ على العهد حتى الآن، إكراما للأستاذ.
لدى الكثير لأقوله لكن يبدو إنه لم يأت الوقت شخصيا وعاما، لكننا على الدرب سائرين، وبالطبع لكل كلمة ميعاد، كما لكل أجل كتاب.
كان من أحلامى للأستاذ، التى قصرت فيها لأبعاد عدة، هى مؤسسة عبد الله كمال الثقافية، لكن الحلم لايزال يراودنى، ولن أتركه بسهولة، مهما كانت ضربات القدر، وأصدرت عائلته كتابا جامعا لكل مقالاته يحقق قراءات كبيرة، وطبع في عدة طبعات، ويباع داخليا وعربيا بشكل واضح، بتوقيعات إبنتيه زينة وعالية، وكان هذا الكتاب أول ما كشف عن حقيقة إنه كاتب عامود نيوتن الفعلى بجريدة المصري اليوم، وكان بمثابة وثيقة في الأزمة الأخيرة الشهيرة مع صلاح دياب، ولاتزال الأحلام ممكنة في هذه المؤسسة وأمور أخرى لن أتحدث عنها الآن.
يحاول قلمى أن يقنعنى بالولوچ لزوايا ما، لكنى سأركز على الأبعاد الإنسانية أكثر هذه المرة، وأركز في مناسبات أخرى، على الأبعاد المهنية والسياسية والثقافية وغيرها، ومن أجمل رسائل عبد الله كمال من بعيد المستمرة حتى الآن، إن رحيله كشف الكثير من الوجوه الحربائية، والكثير من الحقائق الصادمة، لكننا قادرون على المواجهة وماضون بإذن الله.
وما يهمنى الآن أن تتذكروا رجاء عبدالله كمال في دعواتكم وصلاتكم، رحمك الله يا أستاذى وأخى وصديقي.