"لن تجعلوا من شعبنا شعبَ هنودٍ حُمرْ.. فنحنُ باقونَ هنا.. في هذه الأرضِ التي تلبسُ في معصمها إسوارةً من زهرْ فهذهِ بلادُنا.. فيها وُجدنا منذُ فجرِ العُمر فيها لعبنا، وعشقنا، وكتبنا الشعر مشرِّشونَ نحنُ في خُلجانها مثلَ حشيشِ البحرْ.. مشرِّشونَ نحنُ في تاريخها في خُبزها المرقوقِ، في زيتونِها في قمحِها المُصفرّْ مشرِّشونَ نحنُ في وجدانِها باقونَ في آذارها باقونَ في نيسانِها باقونَ كالحفرِ على صُلبانِها باقونَ في نبيّها الكريمِ، في قُرآنها.. وفي الوصايا العشر.." (نزار قباني). بالرغم من مأساوية الوضع الفلسطيني، إلا أن الإبداع الفلسطيني لم ينضب، وما زال في جعبة صناع السينما الفلسطينيين ما يقدموه للتعامل مع ذلك الوضع والتخفيف من قسوته وهجاء الإحتلال الإسرائيلي سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
وقد شهد عام ٢٠٢١ تقديم تجربتين أعتبرهما من أهم ما قدمت السينما الفلسطينية منذ سنوات، وهما فيلمي (غزة مونامور)، للأخوين طرزان وعرب ناصر، و(٢٠٠ متر) لأمين نايفة. تدور أحداث الفيلم الأول حول (عيسى)، وهو رجل ستيني يمتهن صيد الأسماك، ومحاولاته للتقرب من جارته الأرملة (سهام)، وصداماته مع سلطة حماس في قطاع غزة، على خلفية عثوره على تمثال اثري للإله الإغريقي أبولو أثناء إحدى رحلاته لصيد الأسماك. أما (٢٠٠ متر) فتدور أحداثه حول (مصطفى)، عامل يومية فلسطيني من عرب ٤٨، فرق الجدار العازل بين القرية التي يسكنها وبين التي تسكنها زوجته وأبنائه، ليصبح مجبراً بشكل يومي على المرور من الحواجز الأمنية التي تشرف عليها قوات الإحتلال، إلى أن يتسبب حادث في دخول إبنه المستشفى، لنتتبع بعد ذلك معاناته لعبور الجدار وزيارة إبنه بعد أن رفضت قوات الإحتلال تصريح مروره من الحاجز الأمني.
جودة الفيلمين لا تكمن فقط في قوة الحبكة لكل منهما، وإنما في قدرتهما أيضاً على تناول القضية الفلسطينية بشكل مختلف، وتوضيح جوانب مختلفة للقضية تركز على الأزمات المعيشية للإنسان الفلسطيني، فالفيلمين عمدا إلى تأطير معاناة المواطن الفلسطيني بشكل يتجاوز محلية الأزمة وينقل إلينا المعاناة السيزيفية التي يعيشها المواطن الفلسطيني كل يوم، فلم يعرضا لنا المشاهد المتكررة للصدام بين الفلسطينيين وقوات الإحتلال، وإختار كل من الاخوان ناصر في فيلم (غزة مونامور)، وأمين نايفة في (فيلم 200 متر)، الإختيار الأذكى والأقرب لمشاعر المتلقي، ألا وهو أن نطلع كمشاهدين بعيون فلسطينية على صعوبات الحياة في الداخل الفلسطيني، وهي صعوبات لا تقتصر فقط على الفترات التي تشهد تبادل الضربات بين المقاومة الفلسطينية وقوات الإحتلال، وإنما يمتد أثر تلك الصعوبات ليشمل الأيام العادية في حياة أي فلسطيني، فتصبح الحقوق الشرعية لأي مواطن خارج فلسطين رفاهيات لا يستطيع أن يتمتع بها المواطنين الفلسطينيين، لنرى بذلك كيف أن أبسط الأنشطة اليومية لأي إنسان خارج فلسطين -كالإنتقال من مدينة لأخرى او البحث عن عمل أو حتى الحب- هي أنشطة محفوفة بالمخاطر للمواطن الفلسطيني.
وفي عالم اصبحت فيه المشاكل السياسية تتصدر المشهد، ولا يخلو فيه أي منزل من مجموعة من القنوات الإخبارية متعددة التوجهات والتحيزات تعرض لنا بشكل يومي تلك المشاكل الدائرة في العالم بشكل عام وفي فلسطين بالأخص، إلى أن تاهت وإختلطت الأزمات في عقل المواطن العربي، وفقد الكثير منا بوصلته الإنسانية، يُحسب لسيناريو الفيلمين إعتزالهما الخوض في السياسة، وخلوهما من أي معالم للخطابية السياسية التي كانت سمة من سمات بعض الأفلام التي تناولت القضية الفلسطينية في السابق، حيث إكتفى الأخوان ناصر بالسخرية غير المباشرة من سلطة حركة حماس في قطاع غزة والتركيز على بعض المشكلات الإقتصادية لسكان القطاع وعلى قصة حب (عيسى) و(سهام) الناشئة بين مطرقة حماس وسندان الإحتلال.
أما في (٢٠٠ متر)، إكتفى نايفة بعرض يوم من حياة مواطن فلسطيني لا تشغله السياسة ولا تهمه وكأنه فقد الأمل فيها وإستسلم لقوة الأمر الواقع، ولا نرى منه إلا لمحات مشاعر وطنية مخلصة لفلسطين وفلسطين فقط دون أي إنتماءات أخرى، تمثلت في رفضه التام الحصول على الجنسية الإسرائيلية، والتي كانت ستسهل عليه عبور الحاجز ومواصلة عمله، في محاولة صادقة من الفيلم لتبرئة عرب ٤٨ من إتهامات التطبيع والخيانة التي توجه إليهم بشكل مستمر.
من نقاط القوة الأخرى التي تميز كلا الفيلمين، هي أن أي مشاهد حتماً سيستشعر صدق القصة، ففيلم (٢٠٠ متر) مأخوذ عن قصة حقيقية حدثت لمخرج الفيلم شخصياً، والتي قصها أمين نايفة في إحدى حواراته الصحفية مع جريدة الشرق الأوسط: "قصة الفصل العنصري هي قصة أمي، فقد نشأتُ في بيت جدي وجدتي وأخوالي ولأننا ننتمي لقرية من عرب 1948 فقد انفصلنا بعد إقامة الجدار، وبدا كأن أهلنا يعيشون في كوكب آخر، لذا أردت أن أحكي في فيلمي عن هذا الفصل العنصري، وسيطرت عليَّ الفكرة منذ عشر سنوات تقريباً، ولم أكن أعرف الطريقة المثلى لهذا الحكي، لذا كتبته ثماني مرات تطور خلالها السيناريو كثيراً حتى شعرت بالرضا عنه." كما أن (غزة مونامور) أيضاً ماخوذ عن قصة حقيقية حدثت في عام ٢٠١٣، حيث وجد صياد فلسطيني تمثالاً يجسد الإله الإغريقي أبولو أثناء إبحاره في سواحل قطاع غزة، إلا أن سلطات حماس صادرت التمثال ولم يعثر له على أي أثر حتى الآن، وهي الحادثة التي أثارت مخيلة الأخوين ناصر لينسجوا حولها خيوط قصة حب عذبة ندر تقديم مثلها في السينما العربية في وقتنا الحالي، قصة تحيلك إلى إحدى أهم كلاسيكيات السينما العالمية، (هيروشيما مونامور)، للمخرج الفرنسي (آلان رينييه).
تفوق في رأيي (غزة مونامور) على نظيره (٢٠٠ متر) فيما يتعلق بالجوانب البصرية والكادرات والموسيقى التصويرية، حيث عبروا بوضوح عن الحالة الشعورية لأبطال القصة، إلا أن ذلك جاء في بعض الأحيان على حساب السيناريو والحبكة ورسم الشخصيات، وهو العيب الذي إستطاع (٢٠٠ متر) تلافيه، فكان سيناريو (٢٠٠ متر) أكثر تماسكاً من نظيره (غزة مونامور)، إلا أن العيوب السابقة لا تمنع أنهما تجربتين من التجارب الرائدة في السينما الفلسطينية، وبعيداً عن الإشادة النقدية التي حظي بها كلا الفيلمين، أرى أنهما سيعيشان لفترة طويلة على المستوى الجماهيري أيضاً -خصوصاً بعد الأحداث الأخيرة التي شهدها حي الشيخ جراح والإعتداءات الإسرائيلية على قطاع غزة-، وذلك لكونهما فيلمين مقدمين في الأساس للمتلقي العربي، دون الجنوح لتقديم أفلام بالمواصفات القياسية لأفلام المهرجانات التي لا تهتم في أغلبها سوى بمخاطبة المواطن الغربي.
(غزة مونامور) و(٢٠٠ متر) تجارب تستحق المشاهدة عن جدارة، يكفى أن نعلم أن (غزة مونامور) هو الفيلم الروائي الطويل الثاني للأخوان ناصر و(200 متر) هو الفيلم الروائي الطويل الأول لأمين نايفة، وكلاهما ينبئ بحق عن موجة جديدة من صناع الافلام الفلسطينيين الواعين بحساسية القضية الفلسطينية وبكيفية تناول كافة جوانبها سينمائياً.