كانت أحراش البردى تملئ وادى النيل ودلتاه من مستنقعاتٍ وأراضٍ، بسيقانه الطويلة ذات المقطع المثلثي، وأزهاره الخيمية الشكل، وكان أن خبر المصرى القديم خواصه منذ ما قبل الأسرات، واستفاد منه فى أغراض كثيرة، فجدَّ فى قطع أعواده من الأحراش والحقول المزروعة، وربطها حزماً صنعت منها القوارب، وكانت الأجزاء السفلية من سيقانه مادة للطعام، يقبل الناس على مصها (مثل قصب السكر)، كما صنعت منه الحبال، وأشرعة القوارب، والحصير، والسلال، والأحذية، بينما صنع من نخاعه الليفى ورق أبيض لدن لا يمتص الرطوبة ولا يصفَّرُ إلا قليلاً بمرور الزمن، وذلك بعد أن يُشقّ ساقه طولياً إلى شرائح رقيقة مستعرضة، ثم تفرد هذه الشرائح فى طبقتين متداخلتين عمودياً وأفقياً، وتُدَق أو يترك ثقل فوقها، لإزالة المياه والرطوبة منها، ولكى يحدث تماسك وتلاصق بينهما، ويكون الناتج صفحة بيضاء صالحة للكتابة عليها، قد تلف فى صورة لفافة. وكان بالإمكان لصق عدة لفافات معاً، أو إضافة عدة صفحات ملحقة إليها. ولأن صناعة البردى كانت احتكاراً ملكياً، فقد سُمى البردى فى مصر القديمة بـ Papuro أى الملكي، ومنها اشتق الإغريق اسمه Papayrus والذى اشتقت منه بالتبعية الكلمة الإنجليزية الدالة على الورق Paper.
بردية قصة "نجاة الملَّاح" - متحف الهيرميتاج فى روسيا
عُثر على الكثير من اللفافات البردية فى المقابر المصرية، تحوى رسومات فنية أو تصميمات زخرفية، أو مكتوب عليها نصوص دينية مقدسة، أو نصوص علمية، رياضية أو طبية، أو نصوص أدبية، ومنها هذه البردية، ذات القيمة الأثرية والأدبية فريدة. عثر عليها العالم الأثرى الروسى "فلاديمير جولينشيف Golenischeff Vladimir عام 1880، وهى محفوظة الآن فى متحف الهيرميتاج بمدينة سان بطرسبرج (ليننجراد) فى روسيا. وكان من الممكن أن يكون مصيرها التفتت والضياع مثل غيرها من اللفافات البردية التى كان يعثر عليها فى المقابر والمواقع المصرية القديمة، والتى انهكها الزمن، وأوهنها التلف، ولم تلق الاهتمام أو العناية بها وبما فيها، إلا أن هذه البردية كان من حسن طالعها أن وقعت فى يد عالم خبير، يقدِّر الأثر، ويعى ما قد يحمله من دلالات تاريخية وعلمية وأثرية، فكان أن عكف على دراستها وترجمتها، ولفت الانتباه إليها، فدرسها من بعده العالم الألمانى "أدولف إرمان Adolf Erman " والإنجليزى "ألن جاردنر Alan Gardiner" والفرنسى "ماسبيرو Maspero".
وتأتى أهمية هذه البردية من كونها تحمل قصة من روائع الأدب المصرى القديم، ليس فى موضوعها، وأحداثها فحسب، بل فيما يتجلى فيها من قوام عمل أدبى رفيع، من خيال خصب، وبناء فنى محكم، يلتئم آخره بأوله فى دائرة متكاملة منسابة السرد، محكمة النسج، ولعلها أول قصة فى الأدب العالمى تعتمد على ما يعتمد عليه الفن السينمائى الآن من استرجاع للأحداث فيما يعرف بالـ "فلاش باك Flash back"، ناهيك عن أنها تلقى الضوء على حياة المصريين القدماء فى فترة تاريخية مميزة من تاريخهم الطويل، وتحمل بين طياتها العديد من المعانى النبيلة، والقيم الإنسانية الراقية، مثل: التفاؤل والتمسك بالأمل حتى النهاية، وعدم اليأس والقنوط، الثقة بالنفس، والصحبة، والوفاء، وأن يتسلح الانسان بالحكمة، وأن لكل مشكلة حل، وأن العسر يعقبه دائماً اليسر، وأن سعادة الإنسان فيما يفعله وفيما ينطق به لسانه. وكان لهذه القصة صداها فى بعض الأعمال الأدبية العالمية قديماً وحديثاً، حيث نجد صداها واضحاً فى قصة السندباد البحري، ضمن قصص ألف ليلة وليلة، وفى قصة "روبنسون كروز" التى كتبها البريطانى "دانييل ديفو" أوائل القرن الثامن عشر، وقصة "جزيرة الكنز" للأديب الأسكتلندى "روبرت لويس ستفنسون" أواخر القرن التاسع عشر وغيرها من القصص.
تعرف القصة باسم "نجاة الملاح" وهو الاسم الأقرب إلى مضمونها عن اسم "الملاح الغريق"، الذى تشتهر به. وتنسب إلى عصر الدولة الوسطى (2055-1650 ق.م تقريباً)، وهى الدولة التى قامت على أنقاض عصر الاضطراب والانحلال الأول الذى أعقب الدولة القديمة، وضمت الأسرتين الحادية عشرة والثانية عشرة.
وتحكى القصة أن ملاحاً قد كلَّفه الملك بالسفر إلى بلاد "بونت" (الصومال حالياً)؛ ليحضر بعض البضائع والأشياء النفيسة، غير أنه لم يوفق فى مهمته ولاقى فى طريقه أهوالاً عظيمة. وكان فى سبيل عودته بطريق النيل وعندما اقتربت سفينته من العاصمة أتاه مساعده يهنئه بسلامة العودة دون أن يفقد أحد ملاحيه، ويصف له فرحة رجاله، ولكن الملاح كان مهموماً حزيناً يتخوف من عاقبة فشله وعقاب الملك؛ لأنه لم يوفق فى مهمته وتنفيذ ما كان مطلوباً منه على الوجه الأمثل، فأخذ هذا التابع يسرِّى عن سيده، ويقص قصة حدثت معه ليطيب خاطره ويهوِّن عليه، فقد مرَّ هو الآخر بظروف صعبة وأهوال مثل التى مروا بها وانتهت بنجاته، فقد رحل مع مجموعة من البحارة، على ظهر سفينة ضخمة، إلى المناجم، لتتعرض سفينتهم إلى عاصفة قوية أغرقتها، ولم ينج من العاصفة سواه، بعد أن تشبث بلوح من الخشب، لتلقيه الأمواج على شاطئ جزيرة، وجد عليها المأوى والغذاء وثعبان ضخم غريب يتحدث بلغته، لتصير بينهما صداقة، ليقص على الثعبان قصته، ويقص الثعبان عليه بالتبعية قصته، وهكذا تدخلنا القصة فى تواتر قصصى سردي، تنتهى بعودة الملاح التابع هذا إلى بلاده وقد حمل معه من خيرات هذه الجزيرة وجواهرها الثمينة مودعاً صديقه الثعبان وعائداً على وطنه وأهله، وها هو يحاول أن يسرِّى عن سيده بهذه القصة، والذى لا يزال يستولى عليه القلق ويتملكه الخوف من عاقبة فشله فى مهمته وعدم إنجازها على الوجه الأكمل، لتكون النهاية السعيدة فيعفو عنه الملك بل ويكافئه.
توجد هذه البردية الفريدة ضمن المجموعة المصرية فى متحف الهيرميتاج فى روسيا، وهى مجموعة ظهرت فى روسيا مع ظهور متحف الهيرميتاج إلى الوجود عام 1852م. توجد المجموعة ضمن قسم الفن الشرقى فى المتحف، وتحتل قاعة كبيرة فى الطابق الأرضى على الجانب الشرقى من قصر الشتاء. يصل عددها إلى 5500 قطعة أثرية، تشمل مجموعة كبيرة ومتنوعة من الآثار المصرية، تغطى فترات تاريخية ممتدة من تاريخ مصر، منذ ما قبل الأسرات وحتى القرن الثانى عشر الميلادي.
كان "فلاديمير جولينشيف" (1856-1947م)، الذى عثر على هذه البردية، وقام بترجمتها، أول عالم مصريات روسى بدأ العمل فى متحف الهيرميتاج فى سبعينيات القرن التاسع عشر، وكان قد جمع مجموعة مصرية خاصة، من خلال أعماله الحفرية ورحلاته الاستكشافية فى مصر، التى شملت: وادى الحمامات، ووادى فيران، والواحات؛ بحثاً عن كنوز الحضارة المصرية القديمة، منها البرديات (بردية ملحمة الإسكندرية، وبردية نبوءة نفرتى عن فترة انهيار الدولة القديمة والثورة الاجتماعية فى اعقاب الدولة القديمة)، والمنحوتات الصغيرة، وعدداً من وجوه "بورتريهات" الفيوم كان قد اشتراها من تاجر آثار فى الأقصر، وغيرها من المقتنيات، التى قدرت بنحو ستة آلاف قطعة أثرية مصرية، منها ما وجد طريقه إلى متحف الهيرميتاج فى سان بطرسبرج، ومنه ما وجد طريقه إلى متحفى بوشكين والفنون الجميلة فى موسكو عام 1909م.
وبعد قيام الثورة الروسية عام 1917، لم يعد "فلاديمير جولينيشف" إلى روسيا، وعاش بقية حياته فى شبه استقرار، أو تنقل ما بين القاهرة، ومدينة "نيس" فى فرنسا، إلى أن توفى فى نيس عام 1947م. ولم تقتصر علاقة "فلاديمير جولينيشف" بالآثار المصرية على ما قام به من كشف أو اقتناء، أو ترجمة، فقد أسس فى جامعة القاهرة كرسى علم المصريات (الذى صار قسم الآثار المصرية بكلية الآداب فيما بعد)، وتولى إدارته فى الفترة من عام 1924 إلى عام 1929. وعمل أيضاً فى المتحف المصرى بالقاهرة، حيث قام بفهرسة البرديات الهيراطيقية، عمل طوال حياته على تأليف موسوعة "علم النحو فى اللغة المصرية القديمة" من 5 مجلدات وترك "جولينيشف" لنا مجموعة ضخمة من الدراسات والبحوث والترجمات، علاوة على مجموعة ضخمة من الصور عن مصر فى فترة إقامته بها موجودة فى 20 مجلداً ضخماً بموسكو وكان من أشهر تلامذته المصريين عميد الآثاريين المصريين سليم حسن صاحب موسوعة "مصر القديمة".