الإثنين 25 نوفمبر 2024

ثقافة

أحمد فضل شبلول يكتب: «أنا خيرٌ منه»

  • 12-7-2021 | 18:52

أحمد فضل شبلول

طباعة
  • أحمد فضل شبلول

لم تتخلف الرواية العربية عن معايشة ومتابعة ما يحدث في عالم الإرهاب، وخاصة الذي يتخذ من الدين ستارًا له، وكما نعرف فإن الدين هو أضعف نقطة في الإنسان يمكن الدقُّ عليها وتوجيهها واستثمارها خاصة إذا كان هذا الإنسانُ بسيطًا ومحتاجًا وضعيفًا وجاهلاً، "فالناس لا يحبون إلا دينًا أو دنيا" هنا تظهر بعض القوى الرجعية لتعزف على هذا الوتر في محاولة منها لتجنيد هذا الإنسان سواء كان رجلا أو امرأة، بل إنها تستطيع بسهولة أن تخترق عالم الشباب والطفولة لتجنيد مَنْ تراه مناسبا لأداء المهام وتنفيذ الأجندات التي تضعها وتخطط لها الجماعات الإرهابية.

ويُلفتنا الجاحظ – في القرن السابع الميلادي أو في العصر العباسي - إلى أن "الخطأ في الدين أضرُّ من الخطأ في الرياضة والصناعة والفلسفة والكيمياء، وفي بعض المعيشة التي يعيش بها بنو آدم". وقال عمر بن الخطاب: "تفقَّهوا قبلَ أن تسودوا".

وسَبق لبعض الكتَّاب المصريين والعرب أن تعاملوا مع هذا العالَم الإرهابي الذي لم يكن منظورا قبل السبعينيات بهذه الحدة والفهم الساطع، وصولا إلى العصر الذي نعيشه حاليا. لقد ازداد وعي الأدباء والمثقفين بعامة والروائيين بخاصة بالأفكار المدمرة التي يروجها بعض من يعيشون بيننا لاقتلاعنا من جذورنا إذا لم ننتظم في ركابهم وفي مواكبهم الدامية.

وسَبق لي أن تعرضتُ لبعض هذه الروايات التي فضحت وكشفت عن عالم الإرهاب منذ منابعِهِ الأولى، وكيفية تجنيد عناصره لتكون في مواجهة المجتمع عند اللزوم والطلب.

ومن هذه الروايات كانت رواية "خبز وشاي" للكاتب الأردني أحمد الطراونة، حيث يكون الشقيقان أحمد وخالد في مواجهة واحدة، وعلى الأرض نفسها أو في البلد نفسه. 

وهذه الرواية تحلل الأسباب التي أدت إلى أن ينتمي أحمد إلى التنظيم الإرهابي، من خلال تصوير حال الأسرة الفقيرة التي تكتفي في معظم الأحيان بوجبة "الخبز والشاي". إنها بيئة صالحة لإنبات الإرهاب خاصة بعد رحيل الأب.

وأيضا نذكر رواية "إرهابيس أرض الإثم والغفران" للكاتب الجزائري عز الدين ميهوبي وهي رواية سياسية فانتازية، نلتقي فيها بأعتى المجرمين والطغاة والإرهابيين والثوريين بدءا من هتلر وستالين وبول بوت وفرانكو وغيفارا وصولا لصدام حسين والقذافي وبن لادن وأيمن الظواهري. وقد اعتمد الكاتب على حقائق تاريخية ووقائع محددة وملفات إجرامية تخصُّ العالم كله وليس منطقة معينة منه، مزجها بخيال الروائي والفنان، فجاءت هذه الخلطة السحرية لرواية "إرهابيس" التي سارت في اتجاه واحد منذ أن وطئت هذه المجموعة من البشر تلك الأرض الجديدة، وحتى نهاية الأحداث.

وتأتي رواية "أنا خيرٌ منه" للروائي المستشار بهاء المري، لتسير في موكب إدانة الإرهاب باتباع مراحله منذ طفولة الشاب مصعب الذي ولد لأبوين مصريين يعملان في المملكة العربية السعودية، فيتشبعان بالأفكار الوهّابيّة الرجعية "لا نأكل بملاعق. تعودنا على ذلك في السعودية"، ويربيان ابنهما على هذه الأفكار التي تكّفر المجتمع وتحاول التخلص مِنْ مَنْ هم ضد تلك الأفكار، سواء كانوا أفرادا أو مؤسسات حكومية. ومن خلال الرواية نستطيع أن نقول إن المؤلف نجح في رسم شخصية مصعب الذي تحول من صديق لحمزة وجار له إلى إرهابي في نهاية الرواية بتفجيره لمعسكر تابع للجيش المصري كان يعمل فيه حمزة الذي تربى معه منذ الصغر، والذي قاده قدرُه للعمل في سيناء ضابطا مهندسا ليستشهد بدلا من زميله مينا الذي فاجأه المرض وألمَّت به الحمَّى في تلك الليلة الموعودة، فيطلب منه حمزة الذهاب ليستريح، ويقف هو على باب الوحدة العسكرية التي جاء مصعب مُلثمًا ليقتحمها متمنطقًا بحزام ناسف "شيء عريض ملفوف حول وسطه، تقدم في مواجهة حمزة قاصدا المعسكر". 

لو قرأ مصعب كتب أصحاب العصبيَّة وحَمِيَّة الجاهليّة، على حد تعبير الجاحظ، وحضر مجالس الجماعة الإرهابية، وتشرَّب أفكارها، وخاصة عندما التحق بكلية العلوم جامعة الإسكندرية، ومن قبل كان أبوه وأمه يغذيان هذا الفكر، لذا كان من السهل انقياده لسلطة أمير الجماعة الذي لا رادَّ لكلمته ولا نقاش معه.

وينطبق عليه قول الشاعر القديم عَبدة بن الطَّبيب:
لا تأمَنوا قومًا يَشِبُّ صبيُّهم ** بين القوابِلِ بالعَدَاوةِ يُنْشَعُ
وتأتي شخصية حمزة لتكون الوجه الآخر في الرواية، فهو شخصية مثقفة مرحة مقبولة من الجميع باسمة، تخفِّف كثيرا على القارئ جهامة مصعب وشطحاته وأفكاره التكفيرية، فأفكار حمزة هي الأفكار الإنسانية الطبيعية أو المعتدلة التي يؤمن بها معظم المصريين دون تزمت أو تغول للأفكار المعاكسة التي تواكب الفكر المنحرف الذي هو بطبيعته ضد السوية الإنسانية والفكر المعتدل.

لذا لا نرى سقطات كثيرة للشاب حمزة، في مسيرة حياته التي تعهدتها أخته زيبت بالرعاية والتربية الصالحة المتسامحة، والتثقيف المستمر. لقد أجَّلت زينب كل أحلامها في الزواج والعيش الهادئ المستقر في بيت الزوجية حتى يتخرج أخوها الصغير حمزة من الجامعة ويعمل ويتزوج، ثم تفكر هي في نفسها، وكانت عند وعدها لأبيها الذي رحل في سن مبكرة فأوصاها بأخيها الوحيد لتكون له أما وأختا. وفي المقابل لم يخذلها حمزة، سوى مرة واحدة قاده فيها أصدقاؤه في الكلية للاحتفال بعيد ميلاد زميل لهم، فكانت سهرة حمراء، اجتمعت فيها الحسناوات مع الخمر والمخدرات، ولم يستطع حمزة بشبابه الفوّار أن يقاوم، وعاد إلى أخته قرب الفجر بعد أن أخذتها كلُّ الظنون عدا أن يكون أخوها في سهرة حمراء، ولكنه يفيق من سكرته ويعلن ندمه وتوبته ويصارح أخته بالحقيقة المرة. عدا ذلك كان حمزة مثالا للشاب الخلوق حسن المنظر جميل العبارة مهندسًا شاعرًا أديبًا خطيبًا مفوهًا.

ولعل المؤلف أراد بذلك أن يكشف لنا أن الحياة لا تدوم على وتيرة واحدة، وكما أن هناك عالم المثال في الحياة هناك عوامل أخرى رمادية، وهناك شباب آخرون ضائعون رغم عالم الرفاهية الذي يعيشون فيه.

فبين عالم مصعب وعالم حمزة هناك عوالم أخرى لا تقل خطورة عن عوالم الإرهاب، تنجب لنا شبابا ضائعا بين اللذة والسكر والعربدة والليالي الحمراء. مع رسالة أخلاقية يلمِّح بها مؤلفنا أن حياة الرفاهية إذا لم تقم على أسس أخلاقية صالحة وعلى أسرة متماسكة، فعنوانها الضياع والانحراف، وبعض شباب هذه الطبقة عندما يفيقون من ضياعهم وانحرافهم يلجأون إلى النقيض تماما، وهو الارتماء في أحضان الجماعات الإرهابية التي تؤكد لهم أنهم يمتلكون مفاتيح المغفرة والتوبة والعودة إلى معالم الطريق. وهذا ملمح آخر يقدمه لنا المؤلف يكشف فيه عن منابع الإرهاب وكيفية تكوينه في صفوف الشباب.

وتكشف الرواية عن التراتب البشري في سلم الجماعة الإرهابية، وهو ما يذكرني بقصة كاتبنا الكبير نجيب محفوظ "التنظيم السري" التي صدرت عام 1984، في مجموعة قصصة حملت العنوان نفسَه، والقصة نفسُها وقعت في حوالي 20 صفحة. وبذلك يكون نجيب محفوظ من أوائل الذين تحدثوا إبداعيا وقصصيا عن ظاهرة التنظيمات السرية، وكان ذلك بعد اغتيال الرئيس السادات عام 1981.

ويقول وزير الثقافة السابق الكاتب الصحفي حلمي النمنم عن تلك القصة: "إنها تقدم لنا طريقة تجنيد الأعضاء في الخلايا السرية، وعمل تلك الخلايا أو الأسر؛ وعدد كل أسرة خمسة، وبواسطة هذه الأسر يمكن للقائد الأعلى للتنظيم أن ينفذ أي عملية في أي مكان.

وقُبض على أحد أفراد إحدى الأسر؛ وفى السجن اعترف بكل شيء، ووجد في اليوم الثاني مسموماً داخل الزنزانة، عقاباً له من التنظيم، ويعلن في الأسرة: «هذا عقاب من لا يصون السر». في تلك الفترة المبكرة نبهنا المبدع الكبير إلى ما بات يعرف بيننا الآن باسم «الخلايا النائمة»، في كثير من المواقع ويتم تحريكها في الوقت الذي يراه زعيم التنظيم لتنفيذ عملية ما.
ويبدو أن كل التنظيمات الإرهابية تعمل بالمنظومة نفسها أو ما يشبهها لأن هذا ما وجدته معمولا به أيضا في رواية المستشار بهاء المري، ولكن الفارق بين ما كتبه نجيبنا المحفوظ والمري، أن محفوظ كتب عمله أو قصته من واقع تأملاته في المجتمع وملاحظاته الذكية بشأن التحولات والتغيرات والتبدلات التي يمر بها هذا المجتمع خلال سنوات وعقود، بينما المري عاين بنفسه ومن خلال عمله – حسبما أعتقد – ومن خلال ملفات القضايا التي تُعرض أمامه وينظرها بروح القاضي والكاتب الفنان الذي استطاع أن يبلور هذه القضايا ويبسطها أمامنا بأسلوب سهل مُبين، كاشف متدرج في صناعة الأحداث صعودًا بها من الصعيد وصولاً بها إلى الإسكندرية، عن طريق الرواي العليم الذي استطاع بسط هذه الرواية بين أيادينا.

لقد حاولت زينب أن تنجو بأخيها من قضية ثأر ورثته عائلتها في الصعيد، رغم أن أباها كان هو عمدة البلدة التي يعيشون فيها، ولكن في عالم الثأر لا تفرقة بين عمدة ومزارع أو عامل بسيط، فلجأت إلى أعمامِها الذين يعيشون في الإسكندرية واستطاعت الانتقال والعيش في الإسكندرية بدءًا من منتصف سبتمبر عام 1997 والحصول على عمل في إحدى المدارس وكافحت في الحياة من أجل تربية أخيها الوحيد، ولكن يبدو أن حمزة خلق للموت (هو ابن موت)، فإذا كان قد نجا من الموت ثأرًا، فإنه لم ينج من الموت إرهابًا، وعلى حد قول زينب: "الثأر والإرهاب وجهان لعملة واحدة"، ففي حين نجا حماه أو والد خطيبته فيروز الدكتور محمد سعد من اعتداء إرهابي بعد أن ألقى إحدى المحاضرات التي أوضح فيها حقيقة الإرهاب، فإن حمزة لم ينجُ من الأيادي الآثمة، فقتل أو استشهد وهو على بوابة معسكره بالعريش.

ولعل مشهد وداع حمزة في قريته هو من أكثر المشاهد تأثيرا في القارئ، أنا شخصيا بكيت عند قراءة هذا المشهد المؤثر المرسوم بحرفية عالية ومؤثرة.

ونتوقف عند عتبة العنوان التي تم استيحاؤها من الآية القرآنية الكريمة رقم 12 في سورة الأعراف "قالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ. قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ"، والتي لم يرد ذكرها صراحة داخل متن الرواية، ولكنها تحمل كل دلالة العمل، حيث يرى أعضاء الجماعات الإرهابية أنهم خيرٌ من غيرهم في المجتمع، إنها نفس فكرة "شعب الله المختار"، و"الأغيار" عند اليهود، حيث تتبدى النزعة المتطرفة في التمييز الحادّ والقاطع بين اليهود كشعب مختار أو كشعب مقدَّس – من وجهة نظرهم - يحل فيه الإله من جهة والشعوب الأخرى التي تقع خارج دائرة القداسة من جهة أخرى.

إن رواية "أنا خير منه" جاءت في وقتها تماما لتكشف وتعرّي وتفضح ممارسات الجماعات الإرهابية في مجتمعنا المعاصر وبقلم أحد شهود العيان الذين اطلعوا على آلاف الصفحات في نصوصها الأصلية من خلال المحاضر والاعترافات والأقوال والتحقيقات فضلا عن التحليل النفسي الذي تقدمه في بعض صفحاتها، وهي بالإضافة إلى ذلك رسالة اجتماعية واقعية أدبية فنية موجهة لشبابنا بأسلوب يتناسب مع أعمارهم المختلفة والمتدرجة، ومما زاد من واقعية الرواية واجتماعيتها وورد أسماء أشخاص بأعينهم موجودين بيننا مثل الدكتور مدحت عيسى بمكتبة الإسكندرية، فضلا عن ورود أسماء أماكن وكافتيريات ومحلات وشوارع بأسمائها الحقيقية في الإسكندرية، مما يوغل في واقعية الرواية، رغم إعمال الخيال في مساحات كثيرة ضمن فصولها الخمسة والثلاثين، ذلك أن الواقعية ليست نقلا مباشرا من الواقع، ولكن الواقعية هي الواقع + الفن. وهي المعادلة التي استطاع أن يحققها بنجاح كبير كاتبنا المبدع المستشار بهاء المري.

 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة