الأربعاء 29 مايو 2024

أسمهان الإنسانة .. والفنانة

16-5-2017 | 09:43

للموسيقار فريد الأطرش

كانت أسمهان فنانة في كل شيء حتي في أكلها وشربها وملبسها وكانت تمضي عليها فترات تميل فيها إلي العزلة فتهرب من الناس وتبالغ في الهرب منهم وتتجنب لقاءهم حتي اعتقد البعض أنها متكبرة متعجرفة وكانت في بعض الأحيان تحب الحياة المليئة بالصخب والضوضاء وهذا حال الفنانين.

وقبل أن تعرف أسمهان في الحياة الفنية كانت تعيش في البيت حياة كلها هدوء وبساطة وكانت تمثيل إلي القراءة والاستماع إلي الموسيقى واستطيع أن أقول إن أسمهان كانت تحفظ عن ظهر قلب أكثر من عشرين ديوانا من الشعر العربي وعددا كبيرا من أبيات الشعر الفرنسي وكانت أحب رياضة إليها في تلك الأيام السير علي الأقدام لمسافات طويلة.

ولم تكن طفولة أسمهان تدل علي أنها ستصبح مطربة كانت تذهب إلي المدرسة لتتعلم كما تقضي تقاليد أسرتنا علي كل فتاة وكنا نلاحظ أنها تميل إلي الجلوس بجوار فونوغراف تستمع إلي قصائد أم كلثوم وأغاني غيرها من المطربات والمطربين ولم يخطر بذهن أحد أن أسمهان لها صوت جميل إلي أن حدث ذات يوم أن دعتنا أسرة صديقة تقيم في حلوان إلي تناول طعام الغداء وذهبنا جميعا إلي بيت هذه الأسرة وبعد تناول الغداء جلسنا نستمع إلي أغنية لأم كلثوم سجلتها علي أسطوانة وهي أغنية «إن كنت أسامح وأنسي الآسية» وكان إعجابنا كبيرا بهذه الأسطوانة الأمر الذي جعل صاحب البيت يعيد وضعها علي الفونوغراف عدة مرات...

وبعد ساعات قررنا العودة إلي البيت وفي الطريق فوجئنا باسمهان تغني الأغنية بصوت رخيم أثار دهشتنا وإعجابنا في آن واحد.

وفي ذلك اليوم عرفنا لأول مرة أن أسمهان تتمتع بصوت جميل وبدأ الصراع بيننا وبين تقاليد أسرتنا وانتهي بالنصر لنا وأصبحت أسمهان مطربة رغم أنف هذه التقاليد.

وكانت أسمهان كريمة إلي حد الجنون وقد سبب لنا كرمها متاعب ولكنها متاعب طريفة لا بأس من رواية بعضها هنا..

حدث أن كنا نقيم في حي جاردن سيتي وكانت اسمهان في هذا الوقت في سن السادسة عشرة وحدث في أول يوم من الشهر أن أعطيت أسمهان مبلغ عشرة جنيهات وهو قيمة إيجار الشقة التي نقيم فيها وطلبت منها أن تعطيها لوكيل صاحب العمارة التي نسكنها وتأخذ منه إيصالاً.

وعندما اجتمعنا للغداء ظهراً فوجئنا بزيارة وكيل صاحب العمارة يطلب الإيجار وقلت لأسمهان اذهبي واعطيه المبلغ ولكن اسمهان ارتبكت وظهرت عليها مظاهر الاضطراب فلما استوضحتها الأمر قالت أن إحدي صديقات الأسرة وهي زوجة صيدلي معروف، زارت بيننا في الصباح تسأل عن والدتنا فلما لم تجدها قالت لأسمهان إنها جاءت لتقترض مبلغ عشرة جنيهات لتنقذ بها سمعة زوجها المهدد ببيع صيدليته وانهمرت الدموع من عين هذه الصديقة فأخرجت اسمهان الجنيهات العشرة وأعطتها لهذه السيدة.. وأضافت أسمهان أنه فى إمكان صاحب البيت أن ينتظر ولكن في إمكان صديقتنا أن يشهر إفلاسه بسبب عشرة جنيهات وأضطررت إلي إخراج عشرة جنيهات أخري وأنا أمنحك من كرم أسمهان وكانت أسمهان تعطف علي الفقراء عطفا كبيرا وكانت الدموع تملأ عينيها كلما رأت متسولا يسير في الطريق مادا يده.

وحدت أن كانت تسير في الطريق وتقدم نحوها متسول يطلب إحسانا وفتحت اسمهان حقيبتها فلم تجد بها غير بضع أوراق مالية من فئة الخمسة جنيهات وأخرجت أسمهان ورقة منها وقالت للمتسول «خد .. نصيبك»

أما أسمهان المطربة فكانت ذات إحساس فني مرهف ومقدرة قوية علي فهم اللحن بعد سماعها له مرة واحدة وأروع خصائصها كمطربة - وأنا أتحدث عنها كملحن - أنها كانت تغنى بإحساس وكانت تحس بكل ما تقوله إحساساً عميقا صادقا وكانت كل قطرة دم في عروقها تهتز مع أحاسيسها لهذا كانت اسمهان مطربة لن يجود الزمان بمثلها.

وقد لمعت اسمهان لمعانا سريعا بعد ظهورها في دنيا الطرب.. ونجحت بسرعة شديدة واستطاعت أن تكتسب الإعجاب والتقدير إلي جانب الاحترام الكبير..

إن أسمهان بموتها قد تركت وأنا أقول هذا كمنتج سينمائي وفنان - تركت فراغا كبيرا في دنيا الموسيقي والغناء.

الكواكب 214 - 6 سبتمبر 1955