رواية "العزبة" هي رواية جديدة صدرت للروائي والمترجم يوسف نبيل عن دار أفاق للنشر والتوزيع، وقد شاركت في معرض القاهرة الدولي للكتاب هذا العام وتقع أحداثها في 119 صفحة.
تبدأ الرواية وتنتهي عند نقطة واحدة فاصلة وهي "دمار عزبة أبو دقه"و قبل البداية يحاول الكاتب إشراك القارئ معه في حكايته، فيسأل "من أين نبدأ حكايتنا"وكأنه يحث القارئ أن يبحث بنفسه عن ماهية الأحداث، ثم يستلهم مقولة ل ليف تولستوي عن "السبب والنتيجة" في تمهيد رائع لخطوط قصته وبالطبع أختار تولستوي لتأثره الشديد به في ترجمة يومياته.
"عزبة أبو دقة" المكان المعلوم للأحداث على عكس الزمان الذي لم يُذكر، وأظن أن الكاتب فضل ألا يحدد زمن بعينه لمطابقة الأحداث على كافة الفترات الزمنية فالموت والدمار والألم والفساد والعنف الأسري شيمة من شيم الحياة لن تختفي أبدًا.
"كومباوند وندرفول " تجمع سكني للأثرياء يتم بناؤه بسرعة مذهلة بجانب عزبة أبو دقه، تصدعات بنائية وانفجارات في المجاري والمياه، رشاوي وفساد إداري وأخلاقي يحول دون أمان "أبو دقه" حتى يأتي اليوم الأسود وتنهار رأسا على عقب ساحقة معها آلاف الأرواح من البشر المُهمشين الذين كانوا يحلمون يومًا ما بالابتعاد عن هذه العزبة الموبؤة بالأمراض والبلطجة والفقر؛ لكن حياتهم البائسة تأبى ذلك فتنتهي بشكل أكثر مأساوية تحت أنقاضها.
في وسط الضجيج والصراخ وهرولة المنقذين والأمن والسقوط المُريع يسلط الكاتب الضوء على مجموعة من حكايات هؤلاء المنسيين في الأرض، طفل كان يحلم بحذاء جديد وظل ينتظره بلهفة الأطفال وفي اليوم الذي أشتراه والده راحوا ضحية الدمار، وهناك أم عجوز كل مقتنياتها أسورتين من الذهب تخبئهم جيدًا ليكون ميراث وحيدها وأطفاله وسفينة نجاة من فقرهم المدقع، أم تفقد حياتها بعد إنجابها طفلها المنتظر من سنوات، وممرضة طيبة القلب تغطيها الأنقاض حتى تفقد حياتها، حكايات وصور من موقع الحادث يجسدها يوسف نبيل ببراعة منقطعة النظير، يجسد الألم في الحكاوى ويجعل القارئ يهبط معه تحت الأنقاض ويغضب ويثور لهؤلاء البؤساء ونهايتهم المؤسفة.
من حين لأخر يتعرض الكاتب لحكاية شخصين فقط هما "نظير ثابت و مراد عبدالعظيم" ، لم أفهم وقتها لماذا تحديدًا لكن في النهاية اكتشفت خط وطريق واحد يجمعهما بأختلاف الوجه؛ نظير ثابت رمز لأب متسلط ذكوري متدني الطباع والفكر حطم حياة أسرته وكان سببًا في موت أخيه، بفساده وتركيبته الفكرية المنحطة، وعلى الجانب الأخر كان مراد عبدالعظيم ضحية من ضحايا العنف الأسري، ضحية أبيه الذي فضل أخوه عليه لمجرد عدم رغبته في إنجابه، ضحية أخيه الأناني وصمت أمه المُخجل العاجز.
مما أثار إعجابي في الرواية أن الكاتب يناقش قضية العنف الأسري بمختلف أشكاله بداية من نظير ثابت كأب متسلط مجرم في حق أولاده وزوجته، مرورًا بوالد مراد، نهاية بوالد الفتاة التي أحبها مراد فيما بعد وهي "سهام" التي يتاجر بها والدها من أجل قطعتين من الذهب لا يتجاوز ثمنهم العشرة ألاف، يناقش أيضًا الكاتب فساد بعض رجال الدين ويقارن في مشاهد معينة مظاهر هذا الفساد، فمثلًا حين يذكر عناء نظير ثابت في الحصول على موعد مع أسقف مدينته وشكل مكتبه وسعر الحلوى المُقدمة له وكذلك موديل سيارة الأسقف بينما يتبرع الفقراء والمُهمشين دائمًا بأعوازهم!
في نفس السياق يرصد يوسف نبيل قضية التحرش والفساد الأخلاقي في الوسط الكهنوتي من خلال مأساة "دميانة" أبنة نظير ثابت، الذي أختار أبيها الطريق الخانع من آجل الخلاص من مشكلة أبنته غير مُباليًا بالمجرم نفسه، كما يعكس نقطة أخطر وهي الصورة الذهنية لدى الناس في تقديس رجال الدين وعدم تصديقهم أي سوء عنهم وأي كلمة تقال أمام كلمتهم خاسرة بالطبع.
نظير ثابت هذا الاب الذي أخضع زوجته بشكل مُرعب وتلخصت أحلامه في زواج أبنته والخلاص منها وفي إيجاد فرصة عمل لأبنه "الصايع"- كما يلقبه - في الخليج، سلوكه غير المشروع، فساده الفكري والأخلاقي، أنانيته تجاه أخيه الذي ساعده، كل هذا جعله يقترب شيئًا فشيئًا من دمار عزبة "أبو دقه" أو بالأحرى من تعريته أمام ذاته للأبد.
تعاطفت بكل مشاعري مع قصة مراد عبدالعظيم، هذا الشاب الذي عانى كل أنواع العذاب في حياته بداية من والده ثم حبه وشغفه بالفن والرسم الذي ولد من ألامه ومعاناته؛ حتى في الرسم متعته الوحيدة كان مطاردًا من أبيه، مرورًا بخيانة أخيه وسلبية أمه وحتى إرهاقه البدني في العمل الشاق وأخيرًا حين وقع قلبه صريع الحب، لم يمُت مراد عبدالعظيم تحت أنقاض "أبو دقه" لكنه مات عشرات المرات وهو على قيد الحياة، الألم الذي تجسد في قصة مراد كان يكفي للإشارة على واقعه البائس الذي لم يخدمه في شيء أبدًا سوى قراره بهجران منزل أبيه بعد موته وبداية حياة جديدة وحين تحطمت هي الأخرى نازع عند تعرضه للاغتيال من آجل توثيق قاتليه في لوحاته الفنية.!
يمشي نظير ثابت ومراد عبد العظيم بخطوات متقابله نحو العزبه ولكن الأثنين بقلوب مختلفه وفكر مختلف وليسوا نفس البراءة والانسانية في مشهد يعيد بداية الرواية وهي انهيار العزبة ومحاولتهم إنقاذ الأطفال والأهالي.
الرواية رصدت العديد من القضايا رغم صغر حجمها لكن مهارة الكاتب في توصيف وتوصيل معانيه كانت أسرع وأشمل وأكثر شاعرية حتى في الألم، "العزبة" رواية تجعلك تعايش عوالم أخرى ربما لم تعرفها عن قرب قبلًا ولن تشعر بالملل منها أبدًا.