«مصر كانت أفضل منا فى الخمسينيات».. هذه الكلمات جاءت على لسان سفير كوريا الجنوبية فى القاهرة فى سياق حوار طويل أجرته معه صحيفة المصرى اليوم.. كلمات سفير سيول تستوجب وقفة موضوعية، فهذا الرجل ليس مصريًا ولا هو ناصرى ولا خرج من أحضان الاتحاد الاشتراكي، حتى تنبرى الأصوات المعروفة لكيل الاتهامات له، ومن ثم فهو يدفعنا إلى التساؤل عما أوصلنا إلى الحالة الراهنة التى بتنا نستورد فيها نحو سبعين بالمئة من احتياجاتنا، ووصل بنا الأمر إلى حد استيراد أربطة الأحذية!!.. من واجبنا إذن أن نلقى نظرة موضوعية على الخمسينات وما تلاها حتى عام سبعين، أى رحيل جمال عبدالناصر..
كنا فى تلك الأيام نرفع شعار «من لا يملك قوت يومه لا يملك حرية قراره»، كنا نمتلك قرارنا، فقلنا «حانبنى وادى احنا بنينا السد العالي» كنا نغنى للتصنيع التقيل، «بس نضاعف إنتاجنا، أضعافا أضعافا، وندبر مهما احتجنا ونحارب الإسراف، وبقرش الادخار، نتحدى الاستعمار ونقيم جدارا جبارا، يحمى حياة العاملين» ..هذا مجرد مثال على «الحالة» المصرية آنذاك والتى جعلتنا نتقدم على كوريا الجنوبية التى أصبحت من أهم دول العالم، وننافس الهند، القوة الكبرى، ونكون قبلة دول العالم الثالث المتطلعة إلى الحرية والانعتاق من ربقة الاستعمار والاستغلال.. وحيث إن «عين العدو مش حاتنام» فقد أدى ذلك كله إلى حرب يونيو عام سبعة وستين، وعندما خرجنا بالملايين مساء التاسع من يونيو وهزمنا الهزيمة العسكرية وخضنا حرب الاستنزاف المجيدة، التى وصفتها إسرائيل، بأنها، أطول وأشرس وأوجع حرب خاضتها تل أبيب مع العرب، لجأت القوى المعادية بوتيرة مسعورة لإحياء، كل عوامل تحقيق المخطط الشيطانى «فرق تسُد» ، وقد احتاج ذلك إلى محورين، أحدهما ثقافى بنشر ثقافة ظلامية متخلفة، هبت رياحها الصفراء من الصحراء العربية، مستغلة فى ذلك «رجال دين أو دعاة» اقتصر خطابهم على إصدار كل ما من شأنه تغييب العقل وتأجيج الكراهية لكل من يختلف عنهم أو معهم، أو من لا ينصاع إلى مشروعهم الهادف إلى تفتيت الوطن العربى إلى دُويلات عرقية وطائفية، وذلك بتعميق الفجوة بين أبناء الوطن الواحد، تماما مثل المحور الثانى، «الانفتاح» الذى وسع الهوة، بين الغنى والفقير، بصورة لا نظير لها، حتى فى عز أيام الإقطاع، ناهيك عن تشويه الهوية المصرية، بتفشى الفساد تحت إلحاح الحاجة، والارتفاع الفاحش للأسعار، فى بداية الأمر، ثم طمعا فى الثراء السريع بعد ذلك.. ولمن يتحدثون الآن عن مصالحة مع الإخوان، يكون الرد الواقعي، فى تقديري، أن الرئيس الأسبق أنور السادات، لم يكتف بعقد مصالحة، مع الإخوان بل تحالف معهم وفرض رؤيتهم ومخططهم على مناهج التعليم ووسائل الإعلام، حتى أصبح لهذا التيار، الذى قال أحد أقطابه «طظ فى مصر واللى فى مصر،أنا ما يهمنيش واحد ماليزى يحكمنى ما دام مسلم!!!» انتشار واسع، وجاء بهم السادات من الدول التى فروا إليها هربا من محاسبتهم على جرائمهم، ومع ذلك قتلوه، لأنهم لا يقبلون، سوى بحكم المرشد واتباع مبدأ السمع والطاعة.. لقد صال وجال، الدعاة الجدد، وحققت لهم الفضائيات النجومية والثراء الفاحش أحيانا، وأخذوا فى إقامة فرز طائفى فى الشارع المصرى، بتحديد العقيدة الدينية وفقا للزي!!.. وتزامن مع ذلك نشاط غير مسبوق فى منهج التكفير، وتوزيع الكفر والإيمان بواسطتهم، وكأنهم آلهة جدد اكتظ بهم الوطن.. وتدرج الأمر حتى وصلنا إلى حرق الكنائس وتفجيرها وتهجير المواطنين المسيحيين من مساكنهم، وللأسف الشديد، تحت سمع وبصر الحكومة، وكأننا فى دولة تخضع لحكم الدعاة الجدد ولكل منهم تفسير مختلف للإسلام.. لقد تابعنا فى الأيام القليلة الماضية الضجة التى صاحبت قيام أحد رجال الدين بتكفير أصحاب الديانتين السماويتين، المسيحية واليهودية، وكيف أن مصيرهم جهنم، وكأن مصر قد استعادت بل وتخطت المكانة التى كانت تحتلها فى الخمسينات بشهادة سفير كوريا الجنوبية فى القاهرة، بأضعاف مضاعفة، ولم يعد من مشاكل أمامها، سوى تكفير جزء من مواطنيها، ومن ثم التحريض على قتلهم وإشعال حرب أهلية فى البلاد، والغريب أن ترتفع أصوات تطالب بالامتناع عن إدانة مثل هذه الفتاوى وتجاهل تداعياتها، بدعوى عدم تضخيم رأى فردى، وكأن الرجل قد أسر بما سمعناه وأفزعنا، فى بيته أو فى سهرة مع أصدقاء له، وليس عبر شاشات قناة تلفزيونية، صوت وصورة... إنها نفس نظرية تبرير الجرائم الطائفية بأنها «حالات فردية» وهى نظرية ثبت فسادها كما شاهدنا فى أحداث تفجيرات بعض الكنائس، والأهم مواصلة استهداف أفراد الجيش والشرطة بجرائم إرهابية، مما يؤكد أنه مخطط، فرق تسُد، وهو المخطط الذى انحدر بأحوالنا بعدما كنا ننافس دولا، أصبحت كبري، فى العالم.. والخلاصة، أن نترك تحديد إيمان المرء أو كفره، للخالق، لأنه وحده، يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور، ونعود لحكم القانون، الذى لا يفرق بين البشر، والذى به وحده تتفجر الطاقات فى ظل المساواة وعدم التمييز إلا بالعمل..