السبت 23 نوفمبر 2024

مهرجانات الأقنعة والكرنفالات طقوس تقليدية رمزية فرحا واحتفالا بالحياة

  • 20-5-2017 | 12:57

طباعة

د. محمد محمد الخطابي - كاتب ومترجم مغربى ، عضو الأكاديمية الإسبانية - الأمريكية للأدب والعلوم فى بوجوتا ( كولومبيا )

 تنظم في كثير من مناطق العالم خلال الثلاثة أشهر الأولى من كل عام احتفاليات كبرى، تقليدية طقوسية رمزية، متوارثة تُعرف ب"الكرنفالات". ومن أشهرها في العالم كرنفال البرازيل الذي تكون مدينة "ريو دي جانيرو" الساحرة مسرحا له، ويعتمد أساسا على استعراض مواكب عربات مزكشة كبرى، وارتداء أقنعة، ومشاركة أجواق موسيقية تسير كلها خلال هذه الاستعراضات الضخمة التي تتميز بموسيقى السامبا الصاخبة المدوية، وبالإضافة إلى الشوارع الفسيحة التي تسير فيها هذه الموالكب المبهرجة تقام استعراضات كبيرة كذلك في "امسو درومو" وهو مكان يتم تشييده خصيصا في ريو دي جانيرو لهذه الغاية بالذات.

ومن أشهر الكرنفالات كذلك كرنفالات مدينة "برا نكييا " الكولومبية، وجزيرة "ترينيداد وطوباغو" وكثير من بلدان أمريكا الجنوبية الأخرى، فضلا عن كرنفالات "ماردي جراس" في "نيو أورليانز الأمريكية" وهي احتفاليات كبرى تستعرض فيها أجمل العربات المزدانة، فضلا عن ارتداء المشاركين فيها أغرب ما يمكن أن يصل إليه الخيال في عالم الأقنعة و"المتوجهين" وهم لابسُو الوجوه والأقنعة المستعارة. ويُعتبر مهرجان مدينة "البندقية" الإيطالية من أشهر الاحتفاليات الكبرى التي تقام في هذا القبيل وما يتخلله من عروض وأزياء غريبة، وأقنعة مثيرة، ورقص مقنع، وحفلات تنكرية، وموسيقى وغناء وبهرجة لا حدود لها، ويعود تاريخ بداية تنظيم وانطلاق هذا المهرجان الفريد في بابه إلى القرن الحادي عشر الميلادي.

ومن الكرنفالات الشهيرة كذلك في إسبانيا على وجه الخصوص، تلك التي تقام في الأرخبيل الكناري (جزر الخالدات) خاصة في جزيرتي "تينيريفي" و"جران كاناريا"، وهذه الجزر تابعة لإسبانيا اليوم ومحاذية لسواحل المغرب الجنوبية، وتختلط في هذه الكرنفالات الكنارية بعض تقاليد المناطق الاستوائية بالعادات الشعبية الأوروبية في مجال الرقص والغناء. كما تنظم مدينة "قادس" الإسبانية مهرجانا كرنفاليا كبيرا، ومدينة قادس هي مسقط رأس الشاعر الإسباني الكبير الذائع الصيت رفائيل ألبرتي.

ويقام في مدينة "بلنسية" الإسبانية مهرجان احتفالي آخر كبير ذو طابع خاص يُسمى "فاياسْ"، تُصنع خلاله العشرات من المجسمات والأقنعة والصور من الخشب أو الكارتون المقوى ثم تلون جميعها بألوان وصور زاهية مزكشة جميلة، وعند نهاية هذا المهرجان الصاخب تُحرق جميع القطع التي صُنعت وقدمت أثناء العرض باستثناء قطعة واحدة فقط تنجو من لهيب النار، وهي التي تحظى بالعفو عليها من طرف لجنة فنية خاصة خلال هذا العرض المثير.

لا مجال في هذه المهرجانات والاحتفالات والكرنفالات للحزن، والشجن، والشكوى، والأنين، أو للعزلة والوحدانية، والانزواء والانطواء، فقد استمرت هذه التقاليد قائمة حتى في أحلك وأقسى الظروف التي مرت بهذه البلدان باستثناء حالة إسبانيا على وجه الخصوص، حيث كان محظورا على عهد الجنرال فرانسيسكو فرانكو إقامة هذا النوع من الاحتفاليات.

وتعتبر البرازيل بدون منازع من أكبر بلدان العالم احتفالا بالكرنفالات، وأصبح هذا التقليد الاحتفالي في هذا البلد الشاسع المترامي الأطراف، عادة لصيقة بحياة كل مواطن برازيلي. وكرنفال ريو دي جانيرو عالم آخر صاخب متعدد الألوان والأطياف والموسيقى والألحان، والهرج والمرج والصخب، والدأب، تمتزج فيه كل أنواع البشر، ومختلف أصناف الأعراق، والأجناس على تباينها، فضلا عن ضروب الأزياء الفاخرة الملونة والمزكشة والمثيرة، كما يتميز هذا الكرنفال بارتداء المشاركين فيه لكثير من الأقنعة على اختلاف صورها ورموزها وأبعادها وأشكالها، في بلد خلاسي ومولد ينحدر سكانُه من كل جنس وعرق.

وتستمد هذه الاحتفاليات الفنية والشعبية أصولها من تقاليد عريقة متوارثة ضاربة في القدم، وتنحدر لغويا كلمة "كرنفال" في اللغة اللاتينية السوقية (عامية القرون الوسطى) من مصطلح يتركب من شقين اثنين وهما "كارني وليفار" التي تعني: اهجر أكل اللحم؛ وذلك بسبب الاحتفالات المبالغ فيها، حيث كانت تقدم فيها جميع أنواع المأكولات ببذخ كبير خاصة اللحم. في تواريخ كان محظورا فيها أكل اللحم عند المسيحيين خلال (الكواريسما). وقد انتقلت عدوى الاحتفالات بالكرنفالات من البرازيليين وغيرهم من شعوب أمريكا اللاتينية إلى بعض الشعوب الهندية، والمولدين الذين ينحدرون من أصول إفريقية أو أسيوية أو من مناطق أخرى من العالم.

الأقنعة في مصر الفرعونية

استعملت الأقنعة والوجوه المستعارة في الحضارة المصرية القديمة منذ أقدم العصور، وحسبنا أن نشير في هذا الصدد إلى دراسة قيمة مستفيضة حول هذا الموضوع تحت عنوان "الأقنعة واستخداماتها في مصر القديمة" كان قد أعدها بعناية فائقة، الباحث المصري أسامة فريد مصطفي عثمان لنيل درجة الماجستير في الآداب من قسم التاريخ تخصص تاريخ فرعوني قديم في كلية الآداب جامعة المنوفية. ويسجل الباحث في هذه الدراسة الرصينة أن "القناع اسم يشير إلى غطاء الرأس من أجل التنكر لحماية من يرتديه وهو يلبس عاليا ليخفي هوية لابسه. وقد استخدم القناع كوسيلة للتخفي في جميع أنحاء العالم، وطوال العصور التاريخية منذ العصر الحجرى القديم". ويضيف: "ويلاحظ أن المادة الأثرية والنصية الخاصة بالقناع في مصر الفرعونية ضئيلة جدا، ووجود القناع في الآثار المصرية أمر يمكن استنتاجه وليس متفقا عليه بشكل صريح، إلا أن ذلك لا يمنع من وجود الأقنعة واستخدامها في مصر منذ عصور ما قبل التاريخ، وحتى نهاية التاريخ الفرعونى. وهذا ماحاولت الدراسة إثباته". وتتناول فصول هذه الدراسة المواضيع التالية: يعالج الفصل الأول المفردات الدالة على القناع في اللغة المصرية، ويبحث الفصل الثانى في أسباب ودواعي استخدام الأقنعة واستعمال الوجوه المستعارة وتميزها من خلال مناظر المقابر والمعابد، وأما الفصل الثالث فيتناول موضوع استخدام الأقنعة في مجالات الصيد، (ربما يقصد القنص والطرد)، كما يستعمل في طقوس السحر، ويعالج الفصل الرابع إشكالية استخدام الأقنعة في الاحتفالات، ويسلط الفصل الخامس والأخير الأضواء على استخدام الأقنعة في الأغراض الجنائزية وطقوس الموت. وقد نشرت هذه الدراسة المهمة جامعة المنوفية تحت إشراف الدكتور أحمد عبد القادر الصاوي أول يناير  2011.

 استعمال الأقنعة والكرنفالات

تُعتبر الأقنعة من أولى الوسائل التي يتم استعمالها في الاحتفالات بهذه الكرنفالات، ولقد وجد الإنسان منذ أقدم العصور في العديد من مناطق العالم في هذه الأقنعة والكرنفالات وسيلة تعبيرية أثيرة، ومتعة مثيرة لما يختلج في نفسه من مشاعر ورغبات وتطلعات، وذلك عندما يخفي وجهه إما للدفاع عن نفسه، أو لإحياء عادات متوارثة، باحثا عن تفسير أو تبرير لما يساوره من شكوك، وما يعتمل في نفسه من خوالج وتخوفات.

ويأتي ظهور الأقنعة أيضا في العديد من الحضارات والمجتمعات القديمة للتوصل إلى إمكانية تجسيد صور وموجودات أخرى كانت في غالب الأحيان بالنسبة للإنسان القديم بمثابة رموز ذات قدرات هائلة، وهو بواسطة ذلك يفرض سيطرته على المحيطين به. ومن ثم نجد في مختلف الثقافات والحضارات القديمة أن "القناع" كان يعني رمز القوة والسلطة لإثارة الرعب والهلع في الآخرين. ولم تكن قيمة الأقنعة - التي كانت تستعمل في الرقصات وبعض الطقوس القديمة - تكمن في حد ذاتها كأقنعة، بل فيما كانت تقدمه أو تجسده. وما زالت هذه التقاليد الشعبية المتوارثة حاضرة، ومنتشرة في معظم بلدان أمريكا اللاتينية، إلا أن معناها الرمزي تحول إلى مظاهر احتفالية.

وقد احتلت الأقنعة التي ارتبطت باحتفاليات المهرجانات والكرنفالات في مختلف مراحل تاريخ الحضارات القديمة السابقة للوجود الكولومبي في القارة الأمريكية مكانة مرموقة، وبخاصة في مجال الفنون الشعبية، مثل الرقص، والغناء وبعض المظاهر التي ترجع أصولها إلى فجر التاريخ.

ويتفنن كل بلد من بلدان أمريكا الجنوبية في صنع أشكال عديدة متباينة من الأقنعة التي لها صلة بتاريخه، وبالأحداث التي تعاقبت عليه، وقد أصبحت هذه الأقنعة اليوم تشكل جزءا أساسيا من التراث الثقافي والحضاري لهذه البلدان.

وهذه الوجوه المستعارة هي من الغنى والتنوع، مما يبعث على الإعجاب والحيرة، إذ ثمة آلاف الأشكال والأحجام ذات الرموز والإيحاءات المتعددة، وتعكس كلها عادات وتقاليد السكان الأقدمين لهذه المنطقة، وقد خضعت هذه الأشكال لتأثيرات واضحة بعد اكتشاف أمريكا، وتظهر فيها قوة الإبداع لدى السكان الأصليين وعفويتهم، وهي تعبر عن إحساس مرهف بالتعامل مع الطبيعة ومحاولة فهمها، وتفسير كنهها، واستكناه رموزها، واستغوار أو استبطان أسرارها.

الأقنعة وأدوارها في المجتمعات القديمة

إن المسرحيات والمهرجانات التي عرفتها الحضارة الإغريقية القديمة وكذا مناطق في آسيا خير دليل على مدى أهمية هذه الوسيلة في المجتمعات الغابرة، وقد استعمل سكان أمريكا هذه الأقنعة كذلك في المعارك والحروب والمواجهات التي كانت تنشب فيما بينهم، كما استعملها السحرة والمشعوذون في التطبيب وطرد الأرواح الشريرة. وهناك أساطير تحكي أن الحكام في المجتمعات الهندية عندما كانوا يصابون بمرض أو أذى أو علة كانت تُغطى وجوهُهم بأقنعة معينة معروفة عندهم، ولا تُنزع إلا إذا مات حاملها أو شفي من علته، كما كانت لديهم أقنعة خاصة بالمراسيم الجنائزية، حيث كانوا يدفنون موتاهم من علية القوم بها.

وكان المحاربون الذين يخرجون للدفاع عن القبيلة أو الجماعة يرتدون بعض الأقنعة التي تحمل صور الصقور أو النمور وبعض الحيوانات المفترسة لإثارة الرعب والذعر، والفزع في قلوب خصومهم، ذلك أن ضراوة تلك الحيوانات كانت معروفة عندهم. وكان هؤلاء المحاربون في أحيان أخرى لا يكتفون بوضع الأقنعة وحسب، بل كانوا يتسربلون بجلود هذه الحيوانات وريشها. وكان النمر الأرقط يحظى بأكبر نصيب.

وبعد أن استقر الإسبان في القارة الأمريكية أصبحت الأقنعة تستعمل في الاحتفالات والمهرجانات التي تقدم فيها الرقصات التي تذكر بالصراعات والمواجهات القتالية سواء بين السكان أنفسهم أو بينهم وبين الحيوانات المفترسة، وصارت هذه الأقنعة شيئا فشيئا تكتسب أشكالا جديدة استقدمها المكتشفون معهم من عالمهم العتيق ونشروها بواسطة المبشرين، ومن هذه الأقنعة والأردية تلك التي كان يرتديها الإسبان خلال الاحتفالات التي تجسد مواجهات وحروب "المسلمين والنصارى" أيام الحملات الاستردادية التي خاضها الإسبان ضد معاقل المسلمين في شبه الجزيرة الإيبيرية في آخر عهودهم بها، وتُعرف هذه المظاهرات باحتفالات (موروس إي كريستيانوس) والتي ما زالت تقام حتى اليوم في المنطقة الشرقية من إسبانيا وبخاصة في مدينتي بلنسية وألكُويْ وسواهما من المدن الأخرى خاصة في مدريد التي استحدث بها هذا التقليد للمرة الأولى عام 2002 خلال احتفالات هذه العاصمة بعادات وتقاليد المدن الإسبانية الأخرى، وانتقل هذا التقليد مع الإسبان إلى معظم بلدان أمريكا الجنوبية التي أصبحت هي الأخرى تقيم هذا النوع من الاحتفالات حتى اليوم في المهرجانات الشعبية.

أنواع الأقنعة

أدخلت على أشكال الأقنعة التي استقدمها الأوربيون إلى هذه البلدان إضافات عدة حيث طبعت بطابع كل بلد وما تمليه تقاليده ومعتقداته وحضارته. وقد انتقلت هذه الأشكال الجديدة من جيل إلى جيل. ويتسابق، أو بالأحرى يتفنن الصُناع التقليديون في صُنع هذه الأقنعة التي ما فتئ الإنسان "المتحضر" يستعملها هو الآخر حتى اليوم في حفلاته التنكرية التي تضرب أصولها في التاريخ القديم. وخلال الحفريات الأثرية في مختلف بلدان أمريكا اللاتينية عثر على أنواع متعددة من هذه الأقنعة المصنوعة من مختلف المعادن كالذهب والفضة والنحاس، والأحجار البركانية والأحجار السوداء الزجاجية، والجزع وهو نوع من العقيق، والمحارات، والصدف واليشم الذي كان يُستعمل كثيرا في تزويق وتنميق مختلف هذه الأقنعة. وبالإضافة إلى وظيفته الجمالية والطقوسية كان القناع يحظى عند السكان الأصليين باحترام كبير.

وهناك ضروب أخرى من الأقنعة الخفيفة التي يحملها أصحابها في المهرجانات الشعبية، وهي مصنوعة من الورق المقوى المبلل الذي يمكن طيه بسهولة وإعداده بمختلف الأشكال المطلوبة، ثم يوضع في مكان حار ليجف وأخيرا يلون حسب نوعية الحفلات أو الرقصات أو المناسبات، وتجتهد القرائح الشعبية في صُنع أغرب الأقنعة والأردية والتي يكون لها وقع وتأثير في الجماهير، وتُصنع أقنعة وقبعات عريضة مزينة بريش الدواجن والجوارح، والطيور النادرة. وقد اعتاد السكان في كثير من المناطق على طلاء أبدانهم بخطوط ملونة، وتغطية وجوههم بأقنعة حيوانية، ويبدأون في خوض غمار معركة حامية الوطيس بين قوى الخير والشر، حيث تكون الغلبة في الأخير للجانب الخير على الجانب الشرير فتشيع السعادة جميع الحاضرين.

    وهناك نوع آخر من الأقنعة التي لا توضع على الوجه بقدر ما تستعمل في بعض الحفلات والرقصات حيث يتم وضعُها للزينة، وهي تصنع من جذوع الشجر ولحائها، ويقوم الفنان بنحتها بمختلف الأشكال المتفاوتة بين الفرح والحزن، والملهاة والمأساة، والدعة والعنف. وما زال هذا النوع من الإبداع الفني مُستعملا بكثرة في مختلف بلدان أمريكا الجنوبية، كما تصنع من جذوع الشجر كذلك تماثيل كاملة لأناس في أوضاع مختلفة (صياد، إسكافي، عازف على القيثار..إلخ) وقد اعتاد سكان هذه المناطق على لمس اللحى والشوارب التي تُصنع لهذه التماثيل حيث يعتقدون أن في ذلك مجلبة للسعد وحسن الطالع.

وهناك أقنعة تصنع خصيصا لتقديم رقصات في مواسم معينة تؤرخ لأحداث مشهورة في تاريخ هذه الشعوب كالاحتفالات التي تقام للشمس، والأهرام، أو البحر، أو لبعض تقاليد الصيد، والقنص والطرد، حيث تُستعمل في مثل هذه الحالات رؤوس الحيوانات المحنطة مثل الأيل، أو النمر، ثم تلبس هذه الأقنعة على رؤوس الراقصين الذين يقومون بدور الحيوانات التي تركض في أعداد هائلة في مختلف الاتجاهات مذعورة محاولة الفرار من سنان الرماح والنبال التي تطاردها وتنثال عليها من كل جانب، ثم تذعن أخيرا وتخر أمام الضربات الفاتكة وتهلك في تشنج عضلي وارتعاش، وتذكرنا هذه الصورة بالبيت العربي الطريف الذي يقول:

تكاثرت الظباءُ على خداش / فما يدري خداشٌ ما يصيدُ.

    أخبار الساعة

    الاكثر قراءة