الإثنين 10 يونيو 2024

الكابتن غزالي وأنشودة "أولاد الأرض"

21-5-2017 | 11:03

أنور فتح الباب عبد العال - كاتب مصري

عرفت الكابتن غزالي بشكل مباشر للمرة الأولى وعمري 20 عاما، من خلال أنشطة لجنة مناصرة الشعبين اللبناني والفلسطيني إبان غزو إسرائيل للبنان عام 1982، وطوال هذه المدة كنت أعجب لهذه القدرة الآسرة لهذا الرجل قليل الجسم قصير القامة قدرته وصبره وشخصيته الساخرة البسيطة طبعا وبحكم انتمائي إلى السويس كنت قد سمعت الكثير عن "الكابتن" كما كنا نناديه وخاصة في فترة التهجير من السويس (1967 ـ 1974) وخاصة أغنيته التي جابت شهرتها الآفاق:

فات الكتير يا بلدنا

ما بقاش إلا القليل

وعضم إخواتنا نلمه.. نلمه

نسنّه نسنّه

ونعمل منه مدافع.. وندافع

ونجيب النصر هدية لمصر

   عرفنا الأغنية عبر صوت المطربة ذائعة الصيت وقتها "فايدة كامل" والتي كان أداؤها فيها آليا يشبه الأناشيد المدرسية، كذلك فإن محمد منير عندما غناها لم يعطها نفس أداء "أولاد الأرض"، تلك الفرقة التي أنشأها غزالي عقب عدوان 5 يونيو 1967 والتي تشعر فيها بفنية مد إيقاع الكلمات مع لحن آلة السمسمية في أداء يشبه المد والجزر، في حركة الأمواج معبر عن أمل الوصول للحظة النصر.

   الكابتن محمد أحمد غزالي (10 نوفمبر 1928 ـ 2 أبريل 2017) ولد في أبنود بمحافظة قنا في جنوب مصر، وفقا لتقليد صعيد يقضي بأن يولد الابن "البكري" في مسقط رأس الأسرة. عاش "الكابتن" حياته الأولى في حي السلمانية، الحي الرئيسي في السويس في عشرينيات القرن العشرين، حيث ميناء السويس الأساسي في هذه الفترة.

    درس في مدرسة الصنائع الخط والزخرفة وعاش في السويس ذات الطابع "الكوزموبوليتاني" وقتها والتي تضم الجاليات الأجنبية من إنجليز وفرنسيين وطليان ويونانيين وهنود بالإضافة إلى أهل المدينة ومعظمهم نازحون من الجزيرة العربية أو قادمون في موجات بشرية من صعيد مصر بوجه خاص والوجه البحري وخاصة الشرقية، ويعملون في الصيد وشركات البترول والأسمدة أو عمال في هيئة قناة السويس أو "بمبوطية" وهم من يقدمون الخدمات والبضائع للسفن المارة في قناة السويس أو في المعسكرات الإنجليزية المعروفة باسم "الكامبات".

    برع "الكابتن" في الألعاب الرياضية وخاصة الجمباز والمصارعة التي تعلمها في الأندية الأجنبية التي كانت تعج بها السويس آنذاك، وخاصة النادي اليوناني، وقد أسر لي أكثر من مرة في أحاديث متعددة أن تعلم الرياضة والمنافسة فيها كان نوعا من إثبات الذات الوطنية أمام تفوق الأجانب، وظل يمارس اللعبة حتى صار مسؤولا عن قسم الجمباز في الاتحاد الخاص به عن شرق الدلتا.

    وبحكم الوجود الإنجليزي في السويس شهد "الكابتن" المد الوطني الواسع في السويس في الأربعينيات عبر الأحزاب السياسية (الوفد والسعديين والكتلة الوطنية ومصر الفتاة والإخوان المسلمين والشيوعيين) وخاصة مع ازدياد هذا المد مع حرب فلسطين 1948، وتصاعد النضال الوطني مع إلغاء مصطفى النحاس معاهدة 1936، وتصاعد حركة الكفاح المسلح ضد الوجود البريطاني وخاصة في السويس وارتباطها بمعركة كفر أحمد عبده (نوفمبر 1951 ـ يناير 1952) والصدام مع القوات البريطانية التي أزالت المنطقة من الوجود مما أحدث وقتها ضجة دولية تبعها سحب حكومة الوفد للسفير المصري عبد الفتاح عمرو من لندن.

    وسط هذا الفوران الوطني تكونت الخلفية السياسية للكابتن غزالي، وانفجرت مع قيام ثورة 23 يوليو 1952 التي عكست اهتماما واسعا بالسويس تمثل في زيارات جمال عبد الناصر للسويس وتقديره لها والحب الجماهيري الجارف له. وتوسع حكومة الثورة في الاهتمام بالسويس وإنشاء الجامعة الشعبية التي تطورت لقصر ثقافة السويس ضخم المبني، والمعهد الاشتراكي الذي كان يعمل في التثقيف السياسي للشباب، واستمر الوضع علي هذا المنوال مدينة صغيرة يعرف أهلها بعضهم البعض، وتزخر بحركة رياضية واسعة وأندية ثقافية وندوات فكرية تلقي فيها القصص والأشعار والأزجال ونبغ فيها أدباء الستينيات مثل محمد شطا ومحمد رمضان وفتح الباب عبد العال وعبد الرحمن أبوخنفور وأحمد مصطفي حافظ ومحمد عبد الرحمن وتوفيق حبيش وإلى جانبهم شبان واعدون كغزالي وكامل عيد ومحمد الراوي ومصطفي نجا وحجازي غريب. وتنفجر موهبة غزالي الزجلية فضلا عن نجوميته الرياضية ومهاراته في الخط والرسم إلى أن تقع الواقعة بقيام حرب 5 يونيو 1967 حيث تنقلب حياة أهالي السويس ومدن القناة حين يفاجؤون بتقهقر الجيش المصري مع بدايات الحرب، وتستقبل المدينة الجنود العائدين لتقدم لهم المأوي والعلاج والطعام، وتبرز القيادات العفوية للناس أمام تراجع الأجهزة الناصرية التي انهارت عقب النكسة سواء في التنظيم السياسي الوحيد "الاتحاد الاشتراكي العربي" أو الأجهزة الأمنية. ويلعب الناس دورهم في ظل قياداتهم المستقلة والناشئة إلى أن يستعيد النظام توازنه ويحاول إعادة بسط سيطرته مرة أخرى واستيعاب هذه القيادات العفوية في أجهزة الدفاع الشعبي لحراسة المنشآت الأساسية. ومع تطور الأمر تقرر الأجهزة تولي الأمر بنفسها وإقصاء هؤلاء الشبان، ومن ثم تنبعث فكرة إنشاء فرقة "ولاد الأرض" كما كان ينطقها غزالي لتلعب دورا في رفع الروح المعنوية للناس بعد الهزيمة، ولتنبعث في أغنيات رافضة للهزيمة والاستسلام:

مش ح نسلم..لا لا..لأ

رأي الشعب..صاحب الحق

رأيه قاله عالي..عالي

يوم 9،10 يونيو

دفع تمنهم غالي.

   وتشارك الفرقة الجنود الغناء على الجبهة وفي منطقة بورتوفيق المواجهة لجبهة سيناء، في وقت كان العدو الإسرائيلي يظهر استهزاءه بالمصريين بتعليق مكبر صوت على الضفة الشرقية للقناة لبث الأغاني والسخرية من المصريين حيث ينزل المجندون والمجندات للسباحة في القناة، ويقوم أبناء الأرض بالغناء للجنود باعثين فيهم روح النخوة والمقاومة في مدينة اعتادت أن تلعب هذا الدور منذ عصر الأسرة الخامسة في مصر القديمة (2494 ـ 2345 قبل الميلاد) حين كانت السويس قلعة لصدّ غارات البدو المغيرين، ويغني أولاد الأرض:

ولا عمر راية النصر..هتفارق جبينك.. يا وطن

إحنا فداك

ولا عمر دقة كعبنا..فوق أرضنا

تفارق خطاك

دا الشعب..هو البندقية..والمدافع..والرصاص

إحنا السوايسة الفدائية..جند المقاومة والخلاص

ولا عمر راية النصر هتفارق جبينك

   عُرفت فرقة غزالي الأولى باسم "البطانية" لأن أعضاء الفرقة كانوا يفترشون بطانية أمام دكان غزالي ومرسمه ومكتبته، ثم حصل على "خندق" اتخذه مقرا لفرقته. كانت مزارا لكتاب ومثقفين مصريين وعرب مثل أمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي ومحمود درويش والفنانة محسنة توفيق وصلاح جاهين ود. محمد أنيس أستاذ التاريخ وأمين الدعوة والفكر في الاتحاد الاشتراكي، ورجاء النقاش ومحمد عدة وأحمد بهاء الدين ونشأت التغلبي الكاتب السوري. ومع صعود حركات المقاومة الشبابية في العالم واستلهام تجارب كفاح شعب فيتنام الذي كان يناضل ضد الإمبريالية الأمريكية يرتفع صوت الغناء والتغني بالمقاومة والتحرير:

 غنّي يا سمسمية

لرصاص البندقية

ولكل إيد قوية

حاضنة زنودها المدافع

غني لكل دارس

في الجامعة والمدارس

لمجد بلاده حارس

من غدر الصهيونية

   وينضم إلى أولاد الأرض شعراء السويس كامل عيد رمضان وعطية عليان وعبد العزيز عبد الظاهر مقدمين أشعارهم ومنشدين. وفي 28 سبتمبر 1970 يتوفي الرئيس جمال عبد الناصر فيرثيه غزالي وأولاد الأرض:

ناصر مامتش

وحي بسمة في النجوع

لأ وألف لأ.... م ترضي بلدي بالرجوع

كلنا جمال....

نشيدنا يا رجال

حي على الكفاح يا بلدي..

وامسحي الدموع

وقولوا لأ

   والمتابع لحركة أولاد الأرض يلاحظ أن التجربة نشأت في رعاية أجهزة الدولة سواء الاتحاد الاشتراكي العربي أو التوجيه المعنوي للقوات المسلحة رغم الانتقادات التي كانت توجهها الأغاني لممارسات الأجهزة والصحافة لكنها ظلت بعيدة عن غضب النظام الناصري أو رفضه.

   أتي الصدام مع تولي الرئيس السادات الحكم وبداية التململ الشعبي والطلابي من تصريحاته إزاء الحرب والاستعداد لها خاصة فيما عُرف باسم عام الضباب (1972) وهو إعلان السادات أن ذلك العام هو عام الحسم أي «الحرب» لتحرير الأرض.. واقترب العام من نهايته ولم يحدث حسم فانفجر الغضب الطلابي والعمالي، وبدأ الصدام حيث التحمت فرقة أولاد الارض مع الزخم العام الغاضب بتقديم حفلات في الجامعات والنقابات المهنية ومعسكرات التهجير ساخرة من سياسات النظام وتوجهاته، وقدم غزالي أشد انتقاداته حدة وهي قصيدة "حلانجه بلانجه":

 فتحنا قلوبنا

 وآدي زنودنا

 ويلا يا عم نمدّ خطانا

 ونبدأ نبني.. سنيننا.. الجاية

وهات يا أماني

قولي يا أغاني

خلو شعار الرحلة الجاية

علم وإيمان وألف حكاية

وهات يا لف.. وهات تنطيط

هو يزمر.. وإحنا نزيط

أتاري آخر الزمر طيط

وطلعنا هُبل.. وهو عبيط

   ومع ازدياد لغة النقد للنظام ألقي القبض على غزالي في 9 مارس 1973، ونُقل للإقامة الجبرية في المكان الذي هُجرت له أسرته وهي قرية السرايا قرب بنها، وبذلك حُرم "الكابتن" من حضور معركة أكتوبر التي حلم بها وكان أحد المبشرين والممهدين لها. ومع عودة المهجرين إلى السويس بعد العبور يعود الكابتن غزالي ليخوض غمار معارك سياسية ضد الفساد وسياسات النظام، ويترشح للمجلس المحلي في السويس ضمن مجموعة من المرشحين الديمقراطيين المهاجمين للفساد الفاضحين له، حتى تنفجر انتفاضة يناير 1977 حين تحاول الأجهزة الأمنية زج اسمه هو ومجموعة من مثقفي السويس في قائمة الاتهام بالتحريض على الأحداث، وتفشل محاولتهم. ويظل غزالي يؤدي دوره الوطني في كل المناسبات والأنشطة الوطنية راعيا هو والأديب الراحل محمد الراوي ندوة الكلمة الجديدة في السويس متفاعلين مع الأجيال الجديدة فاتحين مكتباتهما وقلوبهما لأبناء مدينة مقاومة كانوا هم أحد صناع أسطورة بقائها واستمرارها.

    الاكثر قراءة