الأحد 24 نوفمبر 2024

مقالات

من روائع الآثار المصرية في المتاحف العالمية (27)

  • 7-8-2021 | 10:44
طباعة

الرأس الأخضر في بوسطن وفي برلين

تشير الفترة المتأخرة للإمبراطورية المصرية إلى الفترة التي تشمل حكم الأسرات المصرية من الـ 27 إلى الـ 31، (من 747 - 332 ق.م تقريباً).. خلال هذه الفترة تعرضت مصر لغزوين خارجيين لفترات وجيزة.. وعلى الرغم من ضياع السيادة المصرية لبعض الوقت، إلا أن الأعمال الفنية من تماثيل ونقوش وصور ومنتجات مختلفة، التي تم إنتاجها خلال هذه الفترة، كانت لا تزال مصرية الأصول، والملامح، والتقاليد، والغرض.

في هذا العصر المتأخر، ظهرت مجموعة من رؤوس التماثيل الصلبة، بالغة الدقة والجمال، رائعة في سماتها الفنية، اختلفت الآراء في تحديد تاريخها بدقة، وإن أجمعت على أنها ما بين القرنين الخامس والرابع قبل الميلاد.

 اتسمت هذه الرؤوس بالواقعية، التي تتبدى في بعض التجاعيد، التي تكسو صفحة الوجه، واتساع ما بين الأنف والشفة، وجميعها كانت رؤوس حليقة، صنعت من أحجار صلبة كالجرانيت أو من حجر الشت الأخضر، وأغلبها أنوفها محطمة.. وهي ظاهرة جديرة بالتأمل في التاريخ المصري القديم، وتعود الممارسات السائدة في إتلاف صور الإنسان المنقوشة أو التماثيل المنحوتة إلى بدايات التاريخ المصري..  وعلى الرغم من محاولة المصريين القدماء اتخاذ التدابير التي تكفل لهم حماية منحوتاتهم من التعدي عليها، بوضعها في المقابر أو المعابد إلا إنها لم تسلم من التعدي عليها وتخريبها على مر العصور.

 وإن كان الأنف باعتباره جزءاً ضعيفاً بارزاً من أجزاء المنحوتات والتماثيل الحجرية القابل للكسر إذا ما تعرض التمثال لأي حدث يتسبب في كسره، إلا أنه قد يكون هذا الكسر عملاً متعمداً وليس عارضاً، القصد منه إلحاق الأذى بصاحب التمثال نظراً للاعتقاد الديني الذي كان سائداً عند المصريين القدماء بأن الشخص يسكن الصورة التي تمثله، وبالتالي سيكون إلحاق الأذى بالصورة معادلاً للتعدي على الشخص ذاته.. ولما كانت وظيفة الأنف الرئيسة هي توفير الهواء ليتنفس الجسم، فإن تحطيمه يحمل رمزية تشير إلى قتل روح صاحب التمثال، بينما يشير تكسير الأذن إلى إلحاق العجز عن سماع الصلوات والدعوات، وقطع اليد اليمنى دلالة على حجب القرابين.

أشهر هذه الرؤوس، التي ظهرت في العصر المتأخر، الرأس الأخضر في متحف الفنون الجميلة في بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية، الذي يُعدُّ أحد الكنوز الأثرية المصرية في المتحف، وهو نموذج نحتي من أكثر النماذج النحتية القديمة واقعيةً وتعبيراً.. وهو عبارة عن رأس منحوت من الحجر الرملي الصلد المعروف باسم Graywacke يبلغ ارتفاعه حوالي 12 سم. وعرضه 9سم، وعمقه 11 سم، وقد تمَّ تحطيم أنفه بصورة عنيفة مشوهة، وتشير بقايا العمود الداعم في الخلف إلى أنه كان في يوم من الأيام جزءًا من تمثال أكبر، ربما كان واقفاً أو راكعاً. ولكن ما تبقَّى منه يشير إلى رجل ودَّع الشباب واستقبل الشيخوخة، ذي شفاه رفيعة، وعيون حزينة، وملامح مجهدة.

 أدرك علماء الآثار الذين اكتشفوا هذا الرأس في عام 1857 في سقارة، حيث مقبرة العاصمة القديمة "منف"، أنها تمثل صورة لكاهن مصري، على الأرجح من القرن الرابع قبل الميلاد، وربما اعتمدوا في ذلك على الملمح الوحيد المتبقي الذي يقودنا إلى هوية صاحبه ونعني به مظهره الجسدي أو رأسه الحلوق، حيث كان الكهنة في مصر القديمة يحلقون رؤوسهم من أجل طهارة الجسد قبل أداء الطقوس الدينية.

ولانتقال هذا الرأس من مصر إلى الشاطئ الآخر من الأطلنطي في مدينة بوسطن بالولايات المتحدة الأمريكية، قصة كانت موضوع الكتاب، الذي وضعه الكاتب الأمريكي لورنس بيرمان  Lawrence Berman بعنوان: "The Priest, the Prince, and the Pasha" أو "الكاهن، والأمير، والباشا". وتبدأ هذه القصة في عام 1850، عندما أُوفد عالم المصريات الفرنسي "أوجست مارييت" من قبل متحف اللوفر في باريس إلى مصر لزيارة الأديرة القبطية لجلب بعض المخطوطات، وبدلاً من ذلك، اتجه إلى البحث عن الآثار المصرية ليعود إلى فرنسا بعد أربع سنوات حاملاً معه حوالي ستة آلاف قطعة أثرية من التماثيل، والمجوهرات، والمنحوتات، والنقوش والأدوات الجنائزية وغيرها لتكون جزء مهما من قسم الآثار المصرية في المتحف اللوفر. ويعود مارييت إلى مصر ويحصل على تصريح بالحفر ويتقرب من الباشا محمد علي، وبعد وفاة الأخير عام 1849، تولى حفيده عباس حلمي الأول ولاية مصر، وفي عهد تم إيقاف تصريح الحفر لـ "مارييت" الذي وجد نفسه منفيًا من مصر حتى خلف عباس عمهُ محمد سعيد، ليعود مارييت مرة ثانية إلى مصر وشيئاً فشيئاً يصير مسؤولاً عن إدارة الآثار فيها

في ربيع عام 1858، أعلن نابليون جوزيف شارل بول بونابرت، ابن عم الإمبراطور نابليون الثالث المعروف باسم الأمير نابليون، عن نيته زيارة مصر، وكان الأرشيدوق النمساوي "ماكسيميليان" قد عاد مؤخرًا من رحلة على النيل مع مجموعة رائعة من الفن المصري القديم، وتطلَّع الأمير أن يتجاوز ما حصل عليه الأرشيدوق النمساوي من الآثار المصرية الفريدة.

 وكان محمد سعيد باشا والي مصر المؤيد لفرنسا، مصمماً على إرضاء ضيفه الإمبراطوري.. فكلَّف "مارييت"، مكتشف سرابيوم (سقارة) الشهير، مكان دفن ثيران أبيس المقدسة، بمهمة تجهيز مجموعة من الآثار المصرية.. ولتوفير الوقت، كان على مارييت استكشاف مسار الرحلة المقترح، والبحث عن الآثار، ثم إعادة دفنها، وبالتالي تسهيل إعادة اكتشافها من قبل الأمير.. وهناك تم اكتشاف تمثال الرأس الخضراء في سرابيوم سقارة.

 ومع أن الزيارة المتوقعة للأمير نابليون لم تتم، لكنه مع ذلك تلقَّى مجموعة مختارة من الآثار المصرية كتذكار للرحلة، كان من بينها ذلك الرأس الخضراء، أهداها له محمد سعيد باشا من أجل كسب ود فرنسا والحفاظ على مصالحه معها. قام الأمير نابليون بتجميع هذه الكنوز في منزل كبير يضم أرضية متحركة تخفي مسبحًا ساخنًا، ومسرحًا ونموذجًا مصغرًا لمعبد يوناني، وكان مقراً لعشيقته الممثلة الشهيرة في ذلك الوقت المعروفة باسم Rachel. لكن سرعان ما سئم الأمير نابليون من وسائل التسلية الفخمة، وتم تصفية المنزل ومحتوياته بين عامي 1866 و1868. اختفى الرأس الأخضر حتى أوائل القرن التالي، وتحديداً في عام 1904، عندما أرسله جامع متحمس يُدعى "إدوارد بيري وارين" إلى متحف بوسطن للفنون الجميلة،  وكان "وارين" سليل عائلة قديمة في نيو إنجلاند، وأنشأ منزلاً في جنوب شرق إنجلترا مليء بالفن، وكان على صلة بعالم الآثار "إدوارد روبنسون" في متحف بوسطن، وعلى مدار عقد من الزمان، أرسل مجموعة من الآثار تنافس المجموعات الموجودة في متحف اللوفر والمتحف البريطاني.. وهكذا وجد أحد أرقى الأعمال الفنية المصرية، الرأس الخضراء، طريقها إلى هذا المتحف لتجد لها موطنًا دائمًا فيه.

يكتسب هذا الأثر أهميته من جوانب عدة، لعل أهمها سماته الفنية والنحتية، وتميزه وتفرده في طابعه وملامحه.. ويتضح فيها ما اتصف به هذا العصر من سمات فنية نحتية جعلت من تماثيل الأفراد في سماتها الواقعية في مكانة لا تقل فيها عن تماثيل الملوك، ولعل هذه الواقعية تتجلى بوضوح في جمجمة الرأس ذات الشكل البيضاوي الحليق، وهي واقعية جعلت البعض يعتقد أنها تنتمي للفترة اليونانية لا المصرية، وهو ادعاء يدحضه مقارنة هذا العمل بأمثاله من الرؤوس والأعمال النحتية من هذا العصر، والأعمال الفنية المصرية المماثلة له السابقة عليه أو اللاحقة به، ففي الجزء الخلفي من الرأس، لا يزال الجزء العلوي من العمود الخلفي التقليدي الذي يوجد خلف التماثيل المصرية القديمة مرئيًا.

وعلى الرغم مما يكتنف هذا الرأس من غموض، وما تبقى من نقش على بقايا العمود الخلفي للرأس لا يفي بأية معلومة عن هوية صاحبه، فهو من أفضل المنحوتات المعروفة التي تصور صوراً شخصية من العصور القديمة، فعلى الرغم من صلادة الحجر، فقد أبدع الفنان في التعبير عن ملامح الوجه النابضة بالحياة والفردية، الرأس أملس أصلع لامع، العيون ناطقة، وإن كانت صامتة، تشير الخطوط المتموجة الخفيفة على جبهته إلى أخاديد جبينه، وتنم عن وجهٍ فارق الشباب وتوغلت فيه الشيخوخة، تمتد التجاعيد العميقة من أطراف أنفه إلى زوايا فمه، وتشع تجاعيد رفيعة من الزوايا الخارجية لعينيه. يتميز الجزء العلوي من أنفه بحافة عظمية واضحة، كما تضفي الشفاه الرقيقة والفم المنخفض تعبيراً عن القوة والتصميم. "النغزة" الطفيفة على خده الأيسر فريدة من نوعها في الفن المصري.

يتشابه هذا الرأس مع رأس أخرى (2119سم) في متحف برلين معروفة باسم الرأس الأخضر لبرلين The Green Head of Berlin، من حيث الروعة، والجمال، وأسلوب النحت، والتقنية العالية، والتفاصيل الدقيقة، والفترة الزمنية لكل منها، وكلاهما يعود لكاهن مصري قديم، إلَّا أن رأس متحف برلين من حجر الشست الأخضر Greenschist، أحد الأحجار المتحولة بفعل الحرارة والضغط الشديدين، ولذلك فهو حجر شديد الصلادة، تعكس حبيباته طيفاً منوعاً من درجات اللون الرمادي والأخضر؛ ولذلك تمت تسميته بـالرأس الأخضر أيضاً، وهو نفس الحجر الذي صنعت منه من قبل صلاية الملك "نعرمر"، التي يعود تاريخها إلى فجر الحضارة المصرية وتحديداً مع بداية الأسرة الأولى (حوالي 3100 ق.م.)، ولا يعرف على وجه الدقة شخصية صاحب هذا الراس أيضاً، لعدم وجود أية كتابات عليه تدل على اسم صاحبها أو ألقابه، بينما يعتقد البعض أن هذا الرأس لكاهن من العصر المتأخر، وإن قال البعض بأنه من العصر البطلمي، عثر عليه في وادي الحمامات في منتصف الطريق بين القصير وقنا في الصحراء الشرقية. تظهر على الوجه ملامح الوقار والهدوء والصرامة، وهو وجه رجل ذو مظهر مهيب تجاوز منتصف العمر.

يمثل كلا الرأسين نماذج فنية بارعة للفن المصري القديم في هذه الفترة المتأخرة من تاريخ مصر، والتي تغد امتداداً طبيعياً لتفرد وتميز وبراعة الفن المصري القديم عبر عصور مصر التاريخية القديمة منذ بداية الأسرات وحتى العصر المتأخر. 

أخبار الساعة

الاكثر قراءة