الأربعاء 3 يوليو 2024

عين الشرق .. رواية تضرب في جذور دمشق وحكاياها المستورة

22-5-2017 | 13:33

علاء الدين العالم - ناقد فلسطيني

  في مثار الأسئلة المثارة حول هوية وبنية الأدب السوري الصادر في زمن الثورة، يبرز تساؤل مهم حول الدور الموكل للأدب الذي استقى من زمن الثورة مادته وموضوعه. بمعنى آخر، كيف سيقدم هذا الأدب الملحمة السورية للقارئ في كل أنحاء العالم؟ وإلى أي مدى يمكن للأدب بأجناسه المختلفة أن يحفر عميقا في إرهاصات الانفجار السوري؟

   إحدى الأماكن الخصبة في الأدب السوري المعاصر، تلك التي يتردد صدى الأسئلة السالفة في جوانبها، رواية إبراهيم الجبين "عين الشرق" الصادرة حديثا عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر. يختار الجبين دمشق ملعبا لسرده، ويبتلي راويه بداء "هايبرثيميسيا 21". يجعله الحالة الواحدة والعشرين لهذا المرض الذي يجعل من صاحبه تاريخا شفويا حيا لا ينسى أبدا. كذلك، تحمّل الرواية ــ من المطلع ــ ذاتها مسؤولية تقديم أزمان عين الشرق، دمشق، التي تقف اليوم في عين العاصفة السورية.

   قال إخاد: جدتي هي خانم المغنية بنت يحوز لاطي، كانوا يطلقون عليها "الموسوية العثمانية". يمكنك أن تعثر على اسمها في وثائق محاكم الشام التركية. من سكان محلّة اليهود بالشام. كانت جدتي تغنّي، ولم تكن عاهرة أو كما يشاع عن نسائنا من أنهن ينسجن الخيوط حول رجالكم للإيقاع بهم وإبعادهم عن دينهم أو إلهائهم عن تجارتهم وصناعتهم. هذا تخريف. بالمناسبة، هل استمعت إلى صوت فيروز السورية اليهودية؟ هذه كانت قبل فيروز المعروفة.

ـ نعم استمعت. فيروز الحلبية.

ـ هل تعرف إلى أين ذهبت فيروز؟

ـ أعرف أنها تزوجت ضابطا تركيا وهاجرت معه.

ـ نعم فيروز ماميش. ابنة حي الجميلية الحلبي. الله.. كم كان رائعا نشيدها "شاهدت الشمس وقد بزغت، فعجبت لمنظرها الحسنِ، وسألت البدر لمن يعشق؟ فشـكى وبكى حب الوطن". غنته للملك فيصل في سنة عشرين لما زار حلب. كان عمرها آنذاك خمسين عاما.

   على الحافة بين الواقعي والمتخيَّل يسير الجبين في الرواية، الكشف أداته الأشد في سرده، ترد الشخصيات باسمها الحقيقي، تقترب الأحداث من الواقع حد الالتصاق حينما تأتي على ذكر "أدونيس، أو كامل أمين ثابت (كوهين)، يوسف عبدلكي...وآخرين"، وتبتعد عنه منعتقة نحو المخيال الواسع في زيارات الراوي لابن تيمية في سجنه داخل قلعة دمشق. في الحالتين، ما تسعى إليه الرواية هو الكشف، الكشف كأداة أحفورية في تاريخ دمشق وحاضرها. لا تكف الرواية عن النبش في الشبكات المكوِّنة لمدينة دمشق. فكريا، تستحيل الحوارات المتعددة للراوي مع ابن تيمية، إلى عملية مكاشفة بين الراوي وابن تيمية مباحة أمام القارئ.

   "من لا يعرف دمشق مثلما عرفتها، لن يدرك سر شخصية ابن تيمية الغاضبة، بالطبع سيسارع إلى اتهامه بالتعصب كما فعل كثيرون منهم، متدينون وغير متدينين، هؤلاء سرقوا ابن تيمية. جعله السلفيون مرجعا لهم وجعله الطائفيون مرجعا لطائفيتهم، وجعله العلمانيون تمثالا وجهوا إليه سهامهم دون أن يدرسوه ويقرؤوا ما كتبه". حوارات ابن تيمية تتعدى الروائي نحو التوثيقي، ولا يكشف فيها عن جذور فكر ابن تيمية جزافا، إنما بتوثيق المعلومات المذكورة على لسان العلامة.

    يتجاوز النص الأحكام القطعية. تُردم الهوة بين القارئ وابن تيمية. "جلست على الأرض الحجرية قبالتي قضبان زنزانة القلعة جلست أنظر نحو الرقعة الجلدية التي كان يحملها الشيخ المكبل بالحديد، كان يكلمني ويعود إلى جموده، يتحدث قليلا ثم يصمت، قطع صمتي بصوته العريض:

ـ أنا هنا لأني رفضت التخلي عن دمشق

ـ أعلم

ـ غيرك لا يعلم، قالوا إني رفعت شعار التكفير

ـ صرت أيقونة للتكفير لا رافعا لشعاره فقط

ـ كتبت في رسالتي (قاعدة أهل السنة والجماعة في رحمة أهل البدع والمعاصي ومشاركتهم في صلاة الجماعة) إنه (لا يجوز تكفير المسلم بذنب فعله ولا بخطأ أخطأ فيه)

ـ قرأت هذا، نقلته عنك الباحثة الألمانية أنكه فون كوجلجن الأستاذة في جامعة برن للعلوم الإسلامية."

    وهكذا، يقدم النص دعوة للتأمل بالتراث الفكري العربي، ليس العودة إليه ــ كما الحالة الأصولية ــ بل الاستنباط منه، والبناء عليه في طريق القطيعة الابستمولوجية معه. من هنا كان حضور ابن تيمية هو حضور الإرث العربي الفكري قاطبا.

حفريات الجبين الروائية

   على مستوى آخر، تذهب الرواية إلى كشف أشد، كشف يطال البنى السياسية السورية منذ الاستقلال حتى اليوم. يحصل الكشف السياسي هنا عبر إعادة قضية الجاسوس الإسرائيلي كوهين "كامل أمين ثابت" إلى واجهة النقاش، تعمل الرواية في مسارها على تدمير الصورة المرسخة للجاسوس الإسرائيلي كوهين، بل يذهب الجبين ــ كما هي عادة حفرياته الروائية ــ إلى أبعد من هذه الصورة، باحثا في منشأ كوهين وآلية حياته في دمشق، ومحاكمته وكيفية نهايتها، وعن أهدافه الجاسوسية التي أكد كوهين قبل إعدامه أنه نفذها كاملة.

   هذه الصورة لا تكون في ذهن المتلقي، إلا بعد مسار موثق للرواية مع أقصوصة كوهين، مسار مفعم بالكشف عن أساسات في السياسة السورية أوصلت البلاد إلى ما هي عليه اليوم من احتلال وتهجير.

   "ــ إذا لتكن ساحة للأمويين، الكتل واقفة، لكنها تنحني إلى الأمام، تميل، كأنها تركع، باتجاه بيتي.

ــ بيتك؟

ــ ألم أقل لك إني سكنت إلى جوار قصر الرئيس بشار الأسد؟"

    كذلك دمر حزب البعث، بمهندسيه، المناظير الجمالية في دمشق، في الحوار السابق بين الراوي والمهندس المعماري "سنان"، تظهر الأسباب الدفينة لهذا التدمير الممنهج الذي اتبعه البعث بغوغائيته البنائية التي أحالت من دمشق الحديثة كتلا إسمنتية تحلق حولها أحزمة فقر عشوائية. كذلك، لا ينفك الجبين في روايته عن الكشف المستمر عما أصاب هذه المدينة في عصر البعث، حالها حال سورية كاملة، من تدمير وتخريب.

   ولم يكن الموت قدرا لهؤلاء الذين يسقطون فوقنا ونحن نسمع صوت ارتطام عظامهم بالحجر الحي على الطريق، كان خيارا بدوره، وكان خيارا لذيذا لليائسين، أعيد الآن كلمات صديقي الممثل السوري فارس الحلو، الذي كنت ألتقيه في بستانه في قلب دمشق، في منطقة العدوي، حيث كان يؤسس مسرحا ومشاغل للنحت والنشاطات الثقافية، وينتقل من البستان إلى البيت القديم في الوهدة خلف شجيرات التين، على بعد أمتار قليلة. كان فارس يفلسف لحظة الخروج في مظاهرة، ويبحث لها عن شرعية إنسانية، في فهمه لقرار الإنسان بالخروج عاري اليد والصدر أمام رصاص المخابرات السورية "الطلقة ليست مهمة، الرصاصة ليست هي القصة، وأنت إذا سمعتها، فهذا سيعني أنها تجاوزتك ولم تقتلك، لأن صوتها سيأتي بعد خروجها من فوهة البندقية، هذا خبر سار، وإن كانت الرصاصة ستقتلك فلن تتمكن من الشعور بها، لأنهم يستهدفون الرؤوس، والرصاصة التي تصيب الرأس لن تعطيه فرصة للشعور بالألم".

   السرد لا يستكين لطرف دون آخر في مساره المكوكي بين الواقع والخيال، لا تندرج الرواية بكليتها في الواقع وتستحال تاريخا، كذلك لا تغرد بعيدة في الخيال. تنساب الحكاية بين الطرفين معتلية مركب اللغة. لغة تضبط الوتر الفاصل بين واقع الرواية وخيالها، لغة تعي أنها تكتب عن مدينة نالها "خراب بطيء...ولعنة أبدية"، وتتبع، مع كاتبها، أنسابا أصيلة في الأرض السورية.

تعدد الأمكنة والأزمنة والأصوات

وإذا كان السرد قد حُد بثنائية حتمية، فإن بنية الرواية انفجرت لشذرات سردية، متقطعة، ومنثورة، حالها حال الذاكرة، عماد الرواية ومنطلقها، مشوشة، ومتقطعة، لكنها حاضرة. لا يهدأ السرد في موضوع واحد، ولا يركن لزمان، ينتقل ــ كما التذكّر ــ بسرعة وخفة، مخلفا وراءه ومضات لا تفتأ بددا، شذرات تنبع لذّتها من دوام حركتها. الأصوات هي الأخرى ليست أحادية في "عين الشرق"، أصوات الرواة متعددة، طورا يتصدر ابن تيمية المشهد، يغدو صوته صوت الراوي، وأطوارا تلتحم أنا الراوي والكاتب أو تكاد، فيما تتخذ حوارات الكاتب وإخاد شكل المونولوج الداخلي، حوار ذاتيٌ يطال فيه الكشف الذاتَ.

ـ علينا أن نغادر هذا المكان.

ـ لا.

ـ لماذا؟

ـ اختنقت.

ـ وأنا أيضا.

ـ لكن أنت تريد البقاء.

ـ لا أريد البقاء، عليّ أن أبقى.

ـ لماذا؟

ـ لأنني يجب أن أبقى هنا، أنت بوسعك أن تذهب، الباب مفتوح.

ـ لا أذهب وحدي، نذهب معا أو نبقى معا.

ـ إذا نبقى معا.

   زد على ذلك، صوتا خفيفا متقطعا، يظهر سريعا كما يختفي، صوت دكتاتور مقهور، صوتا مكتوما لطاغية يهجس: "كم أكرهك يا دمشق. علي الآن أن أعيش فيكِ، رغما عني، وعليك أن تكوني العاصمة المهزومة لمليك منتصر سأكونه أنا".

   دمشق كما تقدمها الرواية "ليست الدمشقيين، ولا المهاجرين الذين جاؤوا إليها في كل عصر، ومن كل مكان، هي قائمة بذاتها، وحدها، ولها روحها الآسرة، التي تعبر الأزمنة والبشر"، تلك هي دمشق، عين الشرق، ومنبع المشرق الذي يستقى منه أبدا أدبا، كان منه رواية "عين الشرق"، يهمس لك في صفحته الأخير، مازالت هناك أسرار لم تُكشف في "معمار الأسرار" المسمى دمشق.