لا يزال العالم يراقب في دهشة السقوط السريع لكل ما أسسته الولايات المتحدة في أفغانستان، ففي ساعات قليلة دخلت قوات حركة طالبان العاصمة الأفغانية كابول من كل الاتجاهات ووصلت للقصر الرئاسي، والتقط قادة طالبان الصور لأنفسهم وهم جالسون بغرف القصر يستمتعون بما تحقق .
توالت الأسئلة نتيجة هذه الدهشة العالمية هل وصلت قوة طالبان إلى حد غير مسبوق فجأة؟ فمنذ فترة وجيزة كانت كل عناصر طالبان مختبئة في كهوف جبال أفغانستان الشاهقة ويقومون بعمليات من حين لآخر ضد القوات الأمريكية ولا يمكن لميزان القوة أن يتحول لصالح طالبان بهذه السرعة.
أم ضعفت الولايات المتحدة إلى الحد الذي جعلها تهرب بهذه السرعة لتترك أفغانستان كهدية لطالبان تفعل بها ما تريد؟ رغم الاضطراب الذي يسيطر نوعًا ما على القرار الأمريكي بسبب تحولات داخلية أمريكية عميقة إلا أن افتراض وجود هذا المستوى من الضعف الأمريكي غير مقبول.
الحقيقة أن أسئلة الدهشة يجب أن تتوارى أمام الحسابات في لعبة القوى العظمى فلا طالبان امتلكت قوة مفاجأة ولا الولايات المتحدة وصلت إلى هذا المستوى من الضعف لأن السؤال الذي يجب أن يُسئل بعيدا عن الدهشة هل كان ما يدور في العاصمة القطرية الدوحة منذ العام 2018 بين الولايات المتحدة وطالبان هي بالفعل مفاوضات أم عملية تسليم وتسلم لخدمة هذه الحسابات؟.
للإجابة على هذا السؤال الرئيسي يجب العودة إلى خريف عام 2001 عقب أحداث سبتمبر عندما ذهبت الولايات المتحدة إلى أفغانستان لمطاردة تنظيم القاعدة وزعيمه أسامة بن لادن الذي يعيش هو وتنظيمه في حماية حركة طالبان، دمرت الآلة العسكرية الأمريكية كل ما له علاقة بالقاعدة وطالبان على الأرض الأفغانية، وظلت تطارد بعدها بن لادن حتى قضت عليه في الأراضي الباكستانية بعد عشر سنوات، كان يمكن في تلك اللحظة للولايات المتحدة أن تترك أفغانستان وتعلن إنهاء المهمة بالقضاء على عدوها اللدود بن لادن المسئول هو وتنظيمه عن مقتل 3 آلاف أمريكي في أحداث سبتمبر الإرهابية.
استمر الوجود الأمريكي في أفغانستان بعد مقتل بن لادن لعقد آخر في ظل إدارات جمهورية وديمقراطية لم تر في مقتل بن لادن نهاية الوجود العسكري في كابول، هذا الاستمرار والإصرار على التواجد الأمريكي يعود لسبب آخر أن الولايات المتحدة بدون أحداث سبتمبر أو بوجودها كان يجب عليها الدخول إلى أفغانستان نتيجة لحسابات القوى العظمى التي تحكم القرار الأمريكي وليس مطاردة عناصر تنظيم إرهابي وحركة أفغانية تتبنى أفكارًا من العصور الوسطى.
في نفس هذا الخريف قبل 20 عامًا فى 2001 كان المستعرب ورجل الدولة الروسي ألكسي فاسيليف يلقي محاضرة في القاهرة عن تداعيات أحداث 11 سبتمبر على العالم، ألقى الرجل بظلال من الشك حول هذه الأحداث ومن ورائها ولكنه أشار إلى حتمية ذهاب الولايات المتحدة إلى أفغانستان بسبب حسابات بعيدة تمامًا عن بن لادن وعصابته وطالبان وأفكارها المتحجرة.
علق فاسيليف على الغزو الأمريكي بأن كل ما تفعله الولايات المتحدة ما هو إلا محاولة لتعطيل ظهور القوة العظمى القادمة لمنافسة الولايات المتحدة وهي الصين لأنه خلال عشرين عامًا سيصبح الاقتصاد الصيني هو الأكبر في العالم ومعه تنطلق الآلة العسكرية الصينية.
طوال عقدين من التواجد فى أفغانستان ظلت الولايات المتحدة تكافح من أجل تحقيق هذا التعطيل من الأرض الأفغانية لمنع التمدد الصيني في المنطقة، لكن كان التنين الصيني يقود قطار التقدم واحتلال منصة القوة العظمى بأقصى سرعة ممكنة وفي كل يوم تكتسب الصين حلفاء جدد ينضمون لها بعد إطلاق مبادرتها المليارية اقتصاديًا والمؤثرة سياسيًا، مبادرة الحزام والطريق أو طريق الحرير في العام 2013 فانضم حليف مؤثر للصين وهي باكستان الراعي الرسمي لطالبان منذ نشأتها.
كأن المصائب لا تأتى بمفردها بالنسبة للسياسة الأمريكية فغير فقد الحلفاء وفشل محاولة التعطيل عاد لها عدو قديم إلى الساحة ظنت أنها قضت عليه وعلى نفس الأرض الأفغانية بواسطة "المجاهدين" الأفغان تحت عباءة الفاشيست الإخوان المتحالفين مع واشنطن.
عاد الاتحاد السوفيتى باسم روسيا القوية التى تعمل بجد على استرداد مقعدها فى نادى القوى العظمى بقيادة بوتن بعد سنوات من الضعف لينضم إلى حلفاء التنين الصينى وبدلا من أن يحقق العم سام أهدافه فى أفغانستان وجد نفسه بين مطرقة الدب الروسى العائد بقوة وسندان التنين الصينى المصر على احتلال مقعد رئيس مجلس إدارة العالم.
أمام هذا المأزق بدأت الولايات المتحدة تعيد حساباتها وخاصة مع هدفها الرئيسى الصين والتالى روسيا، قبل "مفاوضات" الدوحة انطلقت آلة الدعاية الأمريكية بكامل طاقتها تروج لقضية الأيجور المسلمين بأقليم شينجايج الصينى وما يتعرضون له من اضطهاد حسب الدعاية الأمريكية وبالتأكيد ليست مفارقة أن أقليم شينجايج يشترك فى الحدود مع أفغانستان عند نقطة هى الأصعب جغرافيًا فى العالم تسمى ممر واخان وأيضًا ليس مفارقة أن "الحزب التركستانى الإسلامى" المطالب بإخراج إقليم شينجايج من تحت السيطرة الصينية يتواجد عدد كبير منه مع حركة طالبان أو تم تدريب الكثير من أفراده عسكريًا فى سوريا بالمناطق التى تخضع للنفوذ الأمريكى والجماعات الإرهابية.
تستمر المفارقات فمع انطلاق قوات طالبان للسيطرة على أفغانستان تترك كل الأهداف الرئيسية وتذهب إلى الحدود الأفغانية ـ الصينية الوعرة وتحكم السيطرة عليها لتصبح طالبان على الحدود الصينية فهل كان هذا الاستيلاء ضمن شروط عملية التسليم والتسلم أو "المفاوضات" التى تمت فى الدوحة؟ .
عندما نعود "لمفاوضات" الدوحة التى بدأت فى العام 2018 وانتهت بتوقيع اتفاق بين الولايات المتحدة وطالبان فى فبراير 2020 سنجد أن الاتفاق ليس له علاقة بين ما يحدث على الأرض الأفغانية كأن هناك اتفاقًا معلنًا وآخر تم فى الكواليس ينهى هذه الدهشة التى انتابت العالم من التقدم السريع لطالبان وصمت الولايات المتحدة.
تم التحضير لهذا الانطلاق السريع لطالبان أو عملية التسليم والتسلم خلال فترة العامين والشهور الماضية تحديدًا قبل سقوط كابول.
أطلقت الحكومة الأفغانية التابعة للولايات المتحدة كافة عناصر طالبان المعتقلة عندها ويقدر عددهم بـ 15 ألف عنصر.
قامت الحكومة الأفغانية خلال العام الماضي وبموافقة أمريكية بإجراء تغييرات واسعة في صفوف قيادات القوات المسلحة الأفغانية ووضعت ضباط من عرقية البشتون التى تتشكل من أغلبها عناصر طالبان، ولم تكتف بقيادات الجيش بل استبدلت أيضا قيادات قوى الأمن الداخلي ومحافظي الولايات الأفغانية بنفس المنتمين لعرقية طالبان.
مع بداية انسحاب القوات الأمريكية وحلف الناتو صدرت الأوامر من الحكومة الأفغانية للقيادات الجديدة بعدم الصدام مع طالبان فى تقدمها وتم توزيع مبالغ مالية ضخمة على القيادات الجديدة والمتعاونة من أجل إطاعة الأوامر، ولم تدفع الولايات المتحدة شيئًا من هذه الأموال التى وصلت لجيوب القيادات الأفغانية، بل كان مصدر الأموال خليجيا.
سمحت الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية لطالبان بالتقدم فى الشمال والغرب الأفغاني تحت حمايتها لأن فى هذه المناطق أعراق مناهضة لطالبان وهى ما شكلت المقاومة ضد طالبان أثناء فترة حكمها الأولى لأفغانستان فى التسعينات، وظلت هذه المناطق غير خاضعة لسيطرة طالبان أثناء حكمها حتى سقطت مع الغزو الأمريكى فى 2001 أما المناطق الجنوبية والشرقية فى أفغانستان فبها البشتون.
تم منع السلاح وإحكام السيطرة على كافة العناصر المؤثرة والمناوئة لطالبان بل تم تسليم بعضهم إلى طالبان أثناء تقدمها كما حدث مع إسماعيل خان فى مدينة هرات الذى سلمته القوات الأفغانية لطالبان، وتركت المدينة بعدها وكانت ذروة المشهد فى عملية التسليم والتسلم عند أبواب مدينة مزار شريف الاستراتيجية والهامة فى إحكام السيطرة على أفغانستان، فالقيادات الجديدة للجيش الأفغاني فتحت أبواب المدينة لطالبان وسلمتها مزار شريف دون أي مقاومة وهو نفس المشهد النهائي فى سيناريو عملية التسليم والتسلم بسقوط العاصمة الأفغانية كابول فى يد طالبان ووصول قواتها إلى القصر الرئاسي بعد رحيل الرئيس الأفغاني أشرف غنى على طائرة خاصة هو وعائلته عقب انتهاء عملية التسليم والتسلم.
أثناء انشغال العالم فى دهشته ومتابعة دراما سقوط كابول أو عملية التسليم والتسلم فى أفغانستان والصمت الأمريكى أمام دوى انفجار داخل باكستان استهدف أتوبيسا يقل عمال ومهندسين صينيين من العاملين فى مشاريع مبادرة الحزام والطريق التى تربط بين إقليم شينجيانج الصينى وميناء جوادر البكستانى يعتبر مشروع الميناء أحد اهم الأهداف الصينية من هذه المبادرة.
تشير الدلائل إلى أن وراء العملية عناصر جماعة التركستانى الإسلامى المناوئة للصين فى إقليم شينجيانج وهى نفسها المتواجدة على الأراضي الأفغانية متحالفة مع طالبان، عندما شعر التنين الصينى بالخطر لوح لطالبان بصفقة تقدر بـ 30 مليار دولار من أجل إعادة إعمار أفغانستان كدفعة أولى بالتأكيد بعد تخليها عن الشروط الخفية التى وافقت عليها فى عملية التسليم والتسلم فى الدوحة.
أما الدب الروسى وحليفه الإيرانى فهما فى حالة استنفار قصوى خوفا من امتداد فوضى وأفكار طالبان الدموية داخل حدودهم وتبدأ أسماء الجماعات الإرهابية والتفجيرات تدوى فى أراضيهم.
الحقيقة أن الولايات المتحدة غزت أفغانستان لتحقيق أهداف معينة لصالحها وعندما فشل الغزو قررت أن تحقق نفس الأهداف بالانسحاب وصفقة التسليم والتسلم، أما حركة طالبان فهى بندقية للإيجار فى لعبة الأمم والقوى العظمى.