لم تدهشنا مشاهد الانسحاب الأمريكى من أفغانستان فتلك مشاهد مكررة تصدر دائما من جعبة أى محتل وطالما كانت أفغانستان ساحة مفضلة لبسط النفوذ وإعلان الولاية وهى ساحة تفوح بفصول صراع ممتد بين ثلاثى صنع التاريخ العالمى أمريكا وروسيا والصين حيث انتقلت أفغانستان بعد عقود من الرضوخ للأجندة الغربية بقيادة أمريكا وألمانيا إلى مرحلة جديدة من الرضوخ للوالى الجديد وهى الصين التى كانت أكثر دهاء فى مواجهة افتعال أمريكا لنموذج مشابه لـ "هونج كونج" فقد أثارت نعرة الانفصال لدى مسلمى الإيجور وهى منطقة حدودية مع أفغانستان ونسجت القصص والحكايات عن مآس إنسانية تجاه تلك المنطقة لكن الصين كانت تدرك الأمر فلم تقم علاقات دبلوماسية مع الحكومة العميلة التى نصبها الأمريكان وهو ما كانت تنظر إليه حركة طالبان بعين التقدير والامتنان والصين اليوم هى الأقرب لعلاقات طبيعية مع حكام أفغانستان الجدد لتغلق وللأبد بؤرة التوتر فى منطقة الإيجور.
لكن هذا كله مشهد أعاد إلى الأذهان مناظر حرق المجمع العلمى فى مصر وتحديدا فى ديسمبر 2011 وهو المجمع الذى أنشى فى 20 أغسطس 1798 بقرار من نابليون بونابرت وروج وقتها أنه أنشئ لإحداث التقدم المطلوب للمجتمع المصرى وكان مقره فى دار أحد بكوات المماليك فى القاهرة ثم نقل إلى الإسكندرية عام 1859 وأطلق عليه اسم المجمع العلمى المصرى ثم عاد للقاهرة.
ويذكر لنا التاريخ دائما أنه لا يمكن لأى احتلال أو محتل أن يأتى بالخير على أى أرض يغتصبها وكان الهدف الحقيقى لإنشاء هذا المجمع هو الوصول إلى الطريقة المثلى لاستغلال مصر وثرواتها وجمع كل ما يمكن من مخططات ووثائق تساعد المحتل على إتمام مهمته ليحترق المجمع فى 2011 على يد احتلال اخوانى شبيه باحتلال الفرنسيين ولم ينج من محتويات المجمع، البالغ عددها 200 ألف وثيقة كانت تمثل ذاكرة مصر منذ عام 1798 إلا القليل.
لكن ما الرابط بين الأمس واليوم.. إن الربط بين إحراق المجمع العلمى وحرق أفغانستان وإغراقها فى فجوة زمنية تعيدها إلى عصور الظلام بعد عقود من محتل أمريكى حمل الأمانى والأوهام تحت شعار مساعدة أهلها يؤكد لنا أنه لا تقدم حقيقيا ولا نمو حقيقيا يمكن أن يؤخذ على محمل الجدية إلا بصنع أبناء البلد وفى وجود من الدولة الوطنية المستقلة القوية القادرة.
وكما كان المجمع العلمى فى نشأته الأولى رمزا لاستغلال محتل إلا أنه كان درسا استوعبته الدولة المصرية والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها وهنا تذكرت قيمة الوطن وأهمية أن يكون على رأسه قيادة تدرك ماضيها وتستوعب منه الدروس لبناء المستقبل.
وقفز إلى ذاكرتى تأسيس أول مجمع علمى وطنى يتمتع باستقلال تام فى النشأة والهدف فى تاريخ مصر المعاصر حيث أعلن الرئيس عبد الفتاح السيسى عنه خلال جلسة مبادرة التحول الرقمي، ضمن فعاليات اليوم الثانى من مؤتمر الشباب السابع حيث أعلن عن مشروع "عقل جامع لبيانات الدولة" يحتوى على منظومة ضخمة من الخوادم فى مكان ما تحت سطح الأرض وهو مجمع معلوماتى يتمتع بأعلى درجات التأمين لا يخترق ولا يحترق.
هذا هو الفارق بين التجربتين مهما تباعد الزمن بهما فالأولى محاولة لص استعمارى فهم ابعاد غنيمته واستنزافها والثانية محاولة قائد وطنى مخلص يريد أن يصنع الأجمل لأهله فيضع بين صانع القرار ما يمكنه من التحرك المسبق لأى أزمات أو طوارئ وإن وقعت لا قدر الله يتحرك الوطن بكامل مؤسساته تحركا جماعيا فعالا يمحو الازمة ويرفع الكرب لتعمل الدولة بأسرها فى تناغم ويسر كفيل بأن يحفظ لها ولأهلها مقدراتها وثرواتها من أى محاولات عبث أو نسيان أو تقصير.
من هنا وجب علينا ونحن نتذكر مشاهد حرق المجمع العلمى أن نفهم جيدا أن محاولة حرقه لم تكن لمجرد الرغبة فى رؤية جدران مهدمة أو أسقف منهارة لكن كان الهدف هو تعمية أهل مصر وحجب المعلومات عنهم ليضيع الوقت ومن ورائه الأمل.
ووجب علينا أيضا أن نشعر بالفخر والامتنان بل والأمان من أن مصر قادرة أن تستفيد من الدروس المؤلمة بل تحولها إلى طاقة جديدة تدفع على الأمام فلم تعد خبراتنا ومعلوماتنا كنوزنا وأرقامنا وتصوراتنا عن الغد كلأ مباحا لكل راتع بل باتت حصنا حصينا يقع فى عقل جامع مؤمن فى مكان سرى وبعمق 14 مترا لتمتلك مصر معلومة حاضرها وخطط مستقبلها بعيدا عن كيد الخائنين.