الثلاثاء 14 مايو 2024

بناء الدولة أولاً...وبناء المجتمع أيضًا

24-5-2017 | 14:25

بقلم: د.أحمد زايد

لقد تعرضت أركان الدولة المصرية لكثير من التهديدات على إثر الحراك السياسى بعد ثورة ٢٥ يناير وعلى إثر السلوك السياسى المتسلط لجماعة الإخوان المسلمين، الذين مالوا فى حكمهم نحو الشمولية المطلقة والعودة إلى حكم الفرد واحتكار السلطات، بل والعمل أحيانا على تفريق هذه السلطات وإدخالها فى صراعات تجعلها فى حالة إنهاك دائم وعدم قدرة على تحقيق أهدافها. ولقد كانت ثورة الشعب فى الثلاثين من يونيو ٢٠١٣ ثورة تصحيحية طالب بها الشعب وساندته فيها قواته المسلحة. ولقد أنتجت هذه الحركة ما عرف حينئذ “بخريطة الطريق” التى تستهدف إعادة بناء الدولة وتثبيت أركانها. ولقد كان اختيار الرئيس السيسى بإرادة شعبية كبيرة واحدا من الاختيارات الهامة لهذه الفترة، فقد أثبتت أحداث التحول الثورى فى ٣٠ يونيو قدرته الفائقة على إدارة شئون الدولة فى أصعب الأوقات، ولذلك فقد كان التفويض الشعبى له كبيرا وصريحا، كما كان اختياره رئيسا بإجماع كبير.

لقد وفق الرئيس خلال السنوات الثلاثة الأولى، من حصته السياسية الأولى، فى كثير من الأمور؛ فقد واجه الإرهاب بصرامة وحزم، وحفظ استقرار الدولة عبر المحافظة على الدستور الذى كان اللبنة الأولى فى خارطة الطريق، وأصبح البرلمان المصرى فى ثوبه الجديد حقيقة واقعة. ولقد كان لتطوير الاقتصاد وضخ الدماء فى العروق المتكلسة للاستثمار أولوية هامة تحقق فيها الكثير من الإنجازات عبر الشروع فى مشاريع عملاقة فى مجال التصنيع والإعمار واستصلاح الأراضى. وعلى الجانب الآخر تبلور الاهتمام بمشكلات الفقراء ومحدودى الدخل، ليس فقط بتوسيع مظلة التامين والتكافل “والكرامة”، ولكن من خلال تشجيع ودعم وتمويل المشروعات الصغيرة التى تخدم أكبر عدد من محدودى الدخل، والتوسع فى الإسكان البديل للمناطق العشوائية. ولقد تمت كل هذه الإنجازات عبر تطوير علاقة جديدة للشعب، علاقة تأنف من الاستعلاء والنخبوية وتميل إلى المصارحة وبث الثقة والتواضع والاهتمام بالأجيال الشابة والمرأة على وجه الخصوص. مع استخدام لغة بسيطة قريبة من قلوب الناس وأفئدتهم.

وأحسب أن الذى تحقق عبر هذه السنوات الثلاثة هو كثير، وأهمه أن مصر ما تزال دولة راسخة الأركان قوية البناء والإدارة؛ وأهمه أيضا أن أمامنا أبوابا مفتوحة للعمل والإنجاز فى مسارات اقتصادية عديدة نأمل أن تحدث نقلة نوعية للبلاد. ولكن المتخصصين فى علم الاجتماع من أمثالى يأملون فى المزيد، خاصة الالتفات إلى بناء المجتمع، أى بناء البشر القادرين على أن يحيطوا هذا النموذج بمزيد من العمل والإنجاز، وأن يدركوا بوعى أن مصر تعيش لحظة حاسمة من حياتها تحتاج إلى المسئولية المشتركة والعمل المشترك والإرادة المشتركة.

قد يكون فى إدراك المخاطر المحدقة بنا ما يدعونا إلى الالتفات إلى هذا الجانب الاجتماعى والثقافي، واعتباره ضرورة، وأولوية تتساوى مع أولوية التنمية الاقتصادية. فالمخاطر عديدة وجلها يصب فى المجال الثقافى والاجتماعى. إننا جميعا ندرك أن هذه الأمة أو هذا المجتمع قد ترك وشأنه عبر فترات طويلة من الزمن، ترك لينمو على نحو عشوائى فتكاثرت فيه صور العشوائية، وتحول إلى مجتمع يزخر بالتناقضات وأساليب السلوك التى قد تشكل عقبة فى سبيل التطور والتقدم. قد أذكر هنا بعض صور العشوائية والتناقض على سبيل المثال لا الحصر. تبدأ هذه الصور بعشوائية التعامل مع البيئة المحيطة بنا، الأرض والنهر والشوارع والطرقات، والتى نحاول اغتصابها وكأنها لا تشكل ثروة عامة أو ملكية عامة يجب الحفاظ عليها كالمحافظة على أرواحنا. وتتكرر العشوائية فى الإنجاب، فننجب وننجب ونتكاثر، فيتراكم البشر على البشر دون تعليم ودون تنظيم ودون ثقافة رفيعة، فتتحول الكتل السكانية العريضة إلى تراكمات من طاقة بيولوجية تكاد تنفجر فى أى لحظة، هذا إذا غضضنا الطرف عن انفجاراتها السلوكية اليومية ذات الطابع الفردي. وتتكرر العشوائية فى حياتنا فى السلوك اليومى عبر التفاعل والسير فى الطرقات وقيادة السيارات فتبدو الحياة وكأنها تسير على غير نظام. وهذه النماذج التى أشرت إليها تقل خطورتها أمام نماذج أخرى تتعلق بالسلبية والتساهل والإهمال والتباعد الاجتماعى بين طبقات المجتمع؛ واللاتجانس الشديد الذى مزق الطبقة الوسطى، ونقص رأس المال الاجتماعى كما يتبدى فى سيادة روح الشك والتوجس بدلاً من روح الثقة والإقدام والمبادأة؛ وعدم الالتزام بالقانون؛ وعدم وجود نية، لا من جانب موظفى الدولة ولا من جانب المواطنين، لإنفاذ القانون والالتزام بقواعد عامة ونظام للشفافية والعدل؛ وعدم وجود منظومات للقيم الإيجابية تحكم مجالات الحياة أو حقولها المختلفة؛ وشيوع ثقافة الامتعاض والرغبة فى الأخذ دون العطاء؛ وعدم الإحساس بالعدل وما يؤدى إليه من جرأة على الجور والظلم والتعدى واختراق القانون؛ وكثرة المزاعم والزعامات فى الحياة اليومية وفيما عداها من حقول مدنية وإعلامية وسياسية؛ والميل الشديد إلى التفسيرات الحادة الغليظة للدين واستخدامه استخداماً أدائياً وسياسياً لتحقيق مصالح حياتية قد تقف ضد المصلحة العليا للمجتمع أحياناً. وتلك الأمثلة وغيرها تجعل المتخصصين فى العلوم الاجتماعية يدركون بأن الأمر جلل، وأن ظرفاً كهذا يحمل فى طياته عنفاً مخزوناً، يمكن أن ينفجر فى أى لحظة، كما يحمل فى طياته بوادر فوضى، إن لم تكن فوضى حالة، يمكن أن تسرى فى عروق المجتمع وتنفجر فى وجهه يوماً. حقيقة أن المجتمع المصرى يملك مصدات حضارية كبيرة ضد كل ما يهدد وجوده واستقراره، من أهمها الإرث الحضارى القابع فى المجتمع، وكأنه آلية قصور ذاتى تدفع المجتمع إلى الاستمرار رغم ما فيه من متاعب وصعاب، ومن أهمها أيضاً قدرة البشر على التحمل والصبر والمساندة، خاصة فى الطبقات الفقيرة المهمشة التى تبنى الحياة – كل الحياة – بذاتها مع عون قليل من قبل الدولة. ومنها أيضاً هذا الجهاز البيروقراطى الضخم الذى يمسك بمفاصل المجتمع، ويثبته فى مكانه دون حركة كبيرة إلى الأمام. ولكن مثل هذه المصدات ليست آليات بناء، وإنما هى مجرد مصدات، بل إن بعضها يزيد من تعقيد الموقف الذى نحن بصدده، مثل التضخم البيروقراطى الثابت الآسن غير القادر على تطوير أساليب شفافة للأداء البيروقراطى والتنظيمي.

وعند هذا الحد يجب أن نقرر حقيقة مهمة مفادها أن كل هذه التعقيدات وكل هذه التناقضات لا ترجع بحال من الأحوال إلى نقائص فى الإنسان المصرى أو إلى سمات شخصية معينة فيه، فهذا كلام لا يستند إلى علم أو برهان. بل إن الشواهد كلها تدل على أن الإنسان فى هذا البلد إذا ما توفرت له ظروف، أو إذا ما خلق هو لنفسه ظروفاً خاصة، فإنه يبدع ويبهر العالم بإبداعه. فقد حقق مصريون فى الخارج وفى الداخل إنجازات عظيمة لأنهم إما أنهم عاشوا فى ظروف مغايرة أو خلقوا لأنفسهم ظروفًا وأساليب حياة خاصة.

وقد أصل هنا إلى نقطة الارتكاز التى أود إبرازها، وهى أن هذا الظرف قد نشأ من جراء عملية تحديث مبتور، مست القشرة الخارجية للمجتمع دون أن تمس الثقافة، وتوهمت أن تحقيق النمو الاقتصادى كفيل بتحقيق التغير الاجتماعى الشامل، فأهملت التعليم والتنمية الثقافية والاجتماعية التى تستهدف فى النهاية بناء الإنسان – المواطن القادر على المشاركة فى تحقيق النمو الاقتصادى الهائل والمحافظة عليه؛ والتى تستهدف أيضاً بناء مجتمع متكامل ومتوازن تسود فيه العدالة الاجتماعية وروح المساواة، كما تستهدف بناء حكم صالح فى النظام الإدارى للدولة قادر على أن يخدم الناس ويرعى مصالحهم وأن يبث فيهم قيم النزاهة والشفافية والعدل وكل القيم الحديثة التى تحترم الآخر وتتفاعل معه إيجابيًا، وبناء ذات جمعية تتجه إلى تحقيق أهداف محددة ومشتركة، وبناء تيار عقلانى يبنى الحضارة والتقدم ويبتعد عن التطرف والخرافة والعنف، وبناء مجتمع مدنى يقوم على المسئولية الاجتماعية والشراكة المنجزة.

ولاشك أن الطريق إلى بناء المجتمع على هذا النحو يحتاج إلى وقت طويل وكثير من المشقة من جانب الحكام والمحكومين. ولكن الطريق يمهد بالسير، فيه كما يقال. أننا بحاجة ماسة إلى أن نبدأ السير فى هذا الطريق وإن المسار طويل وشاق كما ذكرت، ولا أظن أن تحقيق هذا الهدف النبيل يتحقق بكثرة الكلام، أو بإجراءات احتفالية نسمعها هنا وهناك فى شكل مبادرات فضفضة لا معنى لها، كما أنه لا يتحقق بكثرة المؤتمرات والاستراتيجيات وبرتوكولات التعاون ذات الطابع الاحتفالي، كما أنه لا يتحقق بأساليب للتنمية البشرية تقوم على الانتقاء والاستبعاد. أنما الهدف يتحقق عبر العمل اليومى الدءوب على أرض الواقع، وبتشريعات صارمة للحد من التكاثر السكانى وضبط حركة السكان عبر الأرض، وتأسيس مجتمعات عمرانية منتجة ومستقرة فى هذه الصحراء الشاسعة، وتبنى سياسات أصيلة لتطوير خدمات التعليم والصحة، وسياسات أصيلة لتأسيس منصات ثقافية إبداعية فى كل أرجاء الوطن، والارتقاء بالآداب والفنون والعلم، وأولا وقبل كل شيء تطبيق القانون بشكل حازم وفعال حتى وإن كره بعض الذين لا يحبون العدل. فالعدل أولا وأخيرا هو الميزان الذى تستقيم به الحياة الحديثة كما استقامت به حيوات قديمة أيضا.

الرئيس فى أحد لقاءاته بالمثقفين المصريين .. فى الصورة حلمى النمنم وزير الثقافة وأحمد عبد المعطىحجازى والقعيد وسلماوى وصلاح عيسى

 

    Dr.Radwa
    Egypt Air