"يجب أن يسمع الرجل اليوناني والرجل الفرنسي والرجل الذي يعيش في غابات أواسط إفريقيا إلى أي موسيقى عالمية فيفهم الموضوع الموسيقي ويتصور معانيه ويُدرك ألغازه"؛ كانت هذه فلسفة العظيم سيد درويش عن الألحان والموسيقى كان يرى دائمًا أنه من غير المعقول أن يحاول أي مُلحن صبغ ألحانه وتحجيمها محليًا، فالموسيقى لغة عالمية وستظل للأبد تفهمها الأرواح وتهفو إليها القلوب قبل الأذان.
اليوم يمر أكثر من مائة عام على رحيل سيد درويش الشاب الذي أحدث نقلة لا يمكن إغفالها في الموسيقى العربية والذي كان من أوائل من ربطوا الفن بالأحداث السياسية، وأهم من أبدعوا في الأغنية الوطنية والتي أكسبته ألتفاف الجماهير من حوله حتى أخر أيام حياته.
ولد سيد درويش في السابع عشر من شهر مارس لعام 1892 في الإسكندرية لأسرة بسيطة الحال لم تستطع توفير المال لتنفق على دراسته وإخوته فأرسلته لأحد المساجد ليتم حفظ القرآن الكريم وبالفعل ختمه وأصبح يحمل لقب شيخ في طفولته، وحين كبر ألتحق بجامعة الأزهر ليدرس فيها لمدة عامين ولكنه تركها ليلتحق بمدرسة للموسيقى بعدما اكتشف في نفسه حب الألحان وشغفه بالتركيبات الموسيقية والغناء، وحين أظهر موهبة فذه في مدرسته لاحظ ذلك مُعلمه "سامي أفندي" وكان يدعمه بشكل مستمر أن يمضي في طريقه لإنه سيصبح موسيقي ذو شأن.
بسبب فقر أسرته كان يعمل في البناء ليعول أخوته، وذات مرة سمعه "الأخوين عطالله" السوريين فقررا أن يغني لهما في سوريا وقد أنتهز سيد درويش وجوده في سوريا ليتعلم بشكل أكبر الموسيقى لكنه لم يلق النجاح والانتشار المُنتظر، فعاد بعد تسعة أشهر تقريباً وظل يغني في الشوارع وعلى المقاهي واكتسب من وقتها لقب "فنان الشعب" حيث كان يجلس ويلتف حوله الناس فيطربهم بألحانه وأغانيه الذي كان ينظم شعرها أحيانًا كثيرة.
ألتحق سيد درويش بفرقة "سليم عطالله" التمثيلية وقد سافر معه لمرة إلى لبنان عاد من هناك وهو كامل المقدرة على تأليف ألحان خاصة به وبطابعه وبصمته ولكن بسبب الحالة الفنية وقتها وتحيز الناس للأسماء المعروفة فكان ينسب ألحانه لغيره لكي تلقى رواجًا وبالفعل كانت تحقق نجاحات كبيرة.
في عام 1912 وبعد تحقيق سيد درويش أسم في المجال الفني حضر له ذات مرة الشيخ سلامة حجازي وقتها أعجب به وبصوته وألحانه ودعاه ليحضر حفل في القاهرة ويقدمه هناك وبالفعل ذهب سيد درويش إلى الحفل لكن الجمهور لم يستقبله استقبال جيد وكان ذلك بسبب صغر سنه، وقتها وقف الشيخ سلامة حجازي يدافع عن موهبته وقال إنه سيصبح واحد من اهم عباقرة الموسيقى في مصر.
بعد هذا الموقف المُخيب للأمال بالنسبة لسيد درويش أصابه الحزن فعاد إلى الإسكندرية وظل يعمل لمدة 3 سنوات في محل لبيع التحف والأثاث القديم وفي الوقت ذاته يغني في الأفراح وعلى المقاهي.
في عام 1918 عرفه الفنان چورچ أبيض ودعا سيد درويش لتلحين أوبريت مسرحي له بعنوان "فيروز شاه" وبناء على هذه الدعوة غادر سيد درويش الإسكندرية لينتقل في إقامة دائمة بالقاهرة وكانت هذه نقطة الإنطلاقة الحقيقية له حيث بدأ يلمع أسمه في الأوساط الفنية وتعرف وعمل مع فنانين مبار أمثال نجيب الريحاني وفرقة علي الكسار وقد زاد إنتاجه وزادت معه شهرته وجذب له الأنظار بأسلوبة الجديد والمختلف في التلحين.
كانت ثورة 1919 بمثابة نقطة التحول في تاريخ سيد درويش حيث كان يغني ويلحن أهم الأغاني الوطنية الخالدة حتى يومنا هذا أمثال "قوم يامصري" التي ألهبت مشاعر الشعب المصري وجعلته يلتف حول سعد زغلول ويؤيد الخلاص والاستقلال بكل كيانه، وفي هذا الصدد نذكر اهتمام سيد درويش بالأغاني الوطنية وحرصه على دعم وطنه بكل الأشكال، فقد عاش في الأساس في حقبة زمنية تعج بالأحداث الوطنية الفاصلة والمهمة مابين الإحتلال الإنحليزي وثورة 1919 وأحداث الحرب العالمية الأولى وخطابات مصطفى كامل التي الهمته هو ذاته التجلي في الأغنية الوطنية والبراعة في النشيد الوطني ذاته.
كان يؤلف كذلك الزجل والأشعار ويلحنها ويغنيها في أهم المواقف السياسية حساسية ونجد مثلاً حين تم عزل عباس حلمي الثاني نظم زجل تحمل بداية كل شطر فيها حرف من أسم عباس حلمي فكان يتجلى ببراعة في الألحان والتأليف.
قبل وفاة سيد درويش بثلاثة أعوام تم تقديم أوبرا كاملة من ألحانه باسم "مارك انطوان وكليوباترا" كما ترك سيد درويش عدد كبير من الأغاني التي أصبحت فلكلور في يومنا هذا مثل "سالمه ياسلامة" و "الحلوة دي" وكم من الأغاني التي غناها مطربين كبار مثل فيروز وصباح فخري.
وعن استخدام سيد درويش للهجات المختلفة في بعض أعماله تقول هدى أحمد في دراسة بعنوان "سمات الأغنية الوطنية عند سيد درويش " كانت ألحان سيد درويش المسرحية مليئة باللهجات المتعددة حيث يرجع ذلك لأن مصر كانت عامرة بالجاليات العربية والأجنيبية وامتلأت شوارعها وأسواقها التجارية باللهجات المختلفة التي اعتبرت مصر مركزا ومسرحا كبيرا للمعاملات التجارية للقادمين من شمال أفريقيا وجنوها وأيضا للقادمين من سواحل البحر المتوسط سواء كانوا أتراك أو شوام أو جريج وأرمن فقد تعامل سید درويش بفنه مع كل هذه النوعيات البشرية التي انتقلت مشاهدها من مسرح الحياة ومن أحداث وطنية وسياسية وتفاعل بين الشعوب إلي مشاهد غنائية مسرحية فكان يتقمص شخصياتهم بصورة صادقة أصيلة لما يرد أن يكون عليه اللحن ولكن بشكل كاريكاتيري لطابع هذه النوعيات المختلفة بعد دراسة فاحصة لشخصاتهم وعاداتهم فقد لحن لحن للأعجام: إحنا أقدم تجار العجم، و لحن للمغارية الله يكنز فيكم الأوجاع، ولحن للشوام هلا بتفضلوا معايا هون شوية، ولحن للأترك في أغلب ألحان العشرة الطيبة.
ومن خلال رواية الطاحونة الحمراء تأليف بديع خيري قدم لحن مصر والسودان وفيها عبر سید درويش عن وحدة وادي النيل والروابط الوثيقة بين مصر والسودان فوضع لها لحنا سودانيا ولقد قام بتلحينها في الإسكندرية قبل مجيئه إلي القاهرة عندما أطلع عليها في جريدة السيف وانتشرت ونالت شهرة ذائعة.
وعن الأغاني الوطنية فقد تفرد سيد درويش فيها بشكل جديد جعله يشابه كل مصري في قلبه وفكره وكيانه فكانت أغنياته تخرج من قلب الحدث فيتفاعل معها الناس بصورة سريعة، كان يُعدل أغلب الكلمات التي تكتب له ليجعلها أكثر ملائمة مع الشارع وليخفف من حدة بعض الكلمات ليستطع الناس حفظها وترديدها بسهولة في الشارع، كان يرى أن هذا الإبداع والتفرد مجرد شيء طبيعي بل واجب على كل فنان، في حين أن كل جيله كان الأمر جديد عليهم وكان الكثير منهم يضمر له عداء مباشر لكنه لم يهتم ولم يجري وراء الربح الخالص مثل البعض، كان يأمل أن يترك بصمة خاصة على الألحان وقد ساعدته ثقافته وقراءته الكثيرة وإطلاعه على الألحان والموسيقى العالمية فكان حلقة وصل وجسرًا رائعًا بين اللحن العربي والعالمي.
ويقول سليم سحاب في دراسة له بعنوان :البدايات التأسيسية للموسيقى العربية، أن سید درویش قد تجلى أيضًا في المسرح فقد لحن 30 مسرحية وأدخل تجديدات مهمة ومنها كان الديالوج الغنائي، کان سيد درويش أول من أدخل بشكل واسع الديالوج إلى الموسيقى العربية، وذلك في دیالوج على قد الليل ما يطول« في مسرحية »العشرة الطيبة« وكان ذلك بداية الديالوجات في الموسيقى العربية التي عرفناها في السينما الغنائية التي أخذت نوعا ما مكان المسرح الغنائي.
وفي سياق المسرح في حياة سيد درويش لن نستطع أن ننسى لحن من أهم وأكثر ألحان سيد درويش عبقرية وهو لحن "الوصوليين " فقد برع في التصوير الموسيقى بشكل يفوق المقدرة على الوصف وقد قال عن ذلك سليم سحاب أن لحن "علشان ما نعلا ونعلا لازم نطاطي نطاطي" في مسرحية العشرة الطيبة ؛ نجد عبارة نعلا ونعلا ونعلا يقفز اللحن على الدرجات الأساسية ل »مقام العجم«، وهي الأولي والثالثة والخامسة والأولى المكررة في الجواب. وعند عبارة لازم نطاطي يقفز اللحن نزولا على الدرجات نفسها، من الخامسة إلى الثالثة والأولي فالخامسة نزولا، ثم يستقر على الأولى وبهذه البساطة العبقرية يصف سيد درويش الموظف الحكومي الذي لا يری طريقة للترقي الوظيفي إلا بإذلال نفسه. واستعمال سيد درويش نفس درجات السلم الموسيقي صعودا لتصوير الغاية وهبوطاً لتصوير الوسيلة هو دلالة على تفكير موسيقي عبقري، وكأنه يترجم إلى الموسيقى مقولة مكيافيللي في کتاب الأمير:الغاية تبرر الوسيلة.
لن يسعنا مقال واحد في رصد مدى أهمية وعبقرية سيد درويش، لكن يمكننا أن نختم بكلمات الموسيقار محمد عبد الوهاب عنه حيث قال :إن الشيخ سيد درويش هو الرائد الأول للموسيقى العربية الحديثة بلا منازع، وفضله على الموسیقى كثير، وهو واضح كل الوضوح في جملة نواح، أولها انه عبر عن الكلمات بما يتفق معها من الألحان في وقت كان الملحنون لا هم لهم فيه الأ التطريب والصراخ. . وثانيها: أنه لحن لأصوات الجماهير في الوقت الذي كان فيه الملحنون يلحنون لأصوات المطربين. . ثم أن الشيخ سيد درویش ثار على تجاور المقامات، فقد كانت لديه الشجاعة لأن يقفز من مقام الى مقام بأبعاد لم تخطر على بال غيره من الملحنين، وبذلك حطم قواعد التجاور التي كان الملحنون في ذلك الوقت يلجأون اليها بسبب العجز والاستكانة.
توفي الشيخ سيد درويش في العاشر من سبتمر لعام 1923 في ظروف غامضة حيث قيل إنه أنتحر وقيل أيضًا إن الأنجليز قد اغتالوه بالسم نظرًا لكراهيتهم لوطنيته ولايزال السبب الحقيقي مجهولًا حتى الأن.