نغالط أنفسنا.. نختار السيئ ونشكو النتيجة.. نخطئ ونكرر الخطأ.. نسير وراء مشاعرنا ونُصدم ونلعن منْ صدمنا مع أننا نغالط أنفسنا.. نرفض الهزيمة ونرغب فى النصر.. نرفض عيوبنا وعيوب من نحب.. ننكر.. نكذب.. نُصدم.. وقد نرفض الاعتراف بالصدمة.. نعيش دور الضحية أو المنتصر المزيف.. وكأن عقولنا معطلة، افتقرت للصدق والشجاعة وتحمل الألم.. فنعيش نغالط أنفسنا لإراحتها.
فى رحلة الإنسان فى حياته دائماً ما يبحث عن تحقيق ما يتواكب مع ما يشعر به فى داخله، فتتحكم مشاعره وأهواؤه فى كل اتجاهاته وسلوكياته وصولاً لاتخاذ قراراته، فتجده إذا ما أراد شيئاً يتحول عقله إلى استحضار كافة الأدلة والبراهين لإثبات رغبته لتحقيق هدفه، وينكر تماما أية دلائل تعطله أو تخالف تحقيقها، فإذا ما أراد هذا الشيء تجده يتحرك ناحية التقديرات الإيجابية الداعمة له، ويُغيب تماماً التقديرات السلبية على الرغم من وجودها ولكنه تعامل مع الحقيقة بعين واحدة لتحقيق الرضا، الذى بالطبع هو رضا زائف تعتريه العديد من السلبيات، وتجد هناك نقصاً شديداً فى القدرة على التفكير السليم وعدم التركيز إلا فى الأمر الذى يرغب فى تحقيقه.. فى هذه الحالة تحكمت الأهواء الشخصية والرغبات داخله فى اختياراته، فأصبحت الحقائق مضللة لديه، وهذه الأمور فى الغالب تكون فى تلك المتعلقة بالحب والزواج؛ لأنها أمور تعتمد على تحقيق رغبات ومصلحة شخصية لصاحبها.
فتجد الإنسان لا يرى عيوب من يحب ويتغاضى عنها على الرغم أنها تكون واضحة، ولكنه دائما ما يجد لها الأسباب والمبررات التى تسمح بمرورها داخل نفسه، ويستمر الغطاء الوردى للعلاقات حتى يتم وضعها تحت الميكروسكوب، وتتعرى الحقائق وتصبح مرة صادمة مثل كل الحقائق المؤجلة لحين حدوث الصدمة.
وفى أمور أخرى، يذهب العقل إلى الجوانب والتقديرات السلبية لاتخاذ قراره، فكما كان متحيزاً إيجابياً ميالاً لإخفاء العيوب فإنه فى هذه الحالة متحيز سلبى لا يرى غير العيوب والتقديرات السلبية فقط.. لماذا؟ لأنه قرر أن يرفض هذا الأمر مثلما يقولون فى الأمثال "حبيبك يبلع لك الزلط.. وعدوك يتمنى لك الغلط" حتى وإن كانت العيوب والجوانب السلبية مقبولة على اعتبار أنه لا أحد يخلو من العيوب، ولكن نفسه شيطنت هذه العيوب لترفضها، وتجد هذا الجانب واضحاً للغاية فى حالات الغيرة وخاصة فى حالات الغيرة النسائية، وكذلك فى حالات الكره عموما.
وتجد المغالطات لدينا جميعا ولكن بنسب تتفاوت على قدر ثقة الإنسان بنفسه نتيجة تعليمه وبيئته ونشأته ولكن لا يخلو أى إنسان من وجود مغالطات تقل لدرجة وجود شخص متصالح مع نفسه يتمتع بالطمأنينة النفسية بأن يكون صريحاً مع نفسه يواجهها بالأخطاء ثم يعتذر ويطلب السماح أو حتى يتحمل الألم والثمن نتيجة الخطأ، وآخر يعترف بجزء من هذا الخطأ ويلقى بالجزء المتبقى على الآخرين، وثالث لا يعترف بالخطأ أبداً ولديه من الكبر والنرجسية ما تجعله يعتبر نفسه لا يخطئ وأنه دائما على حق، فهو يرى فى الخطأ ضعفا، فالمغرور لا يمكن أن يتقبل فكرة أنه مخطئ، ومن الممكن أن يحرف تصوره للواقع ويتحدى الحقيقة للدفاع عن أخطائه، فيمر بمرحلة ذهنية داخله فيغير الحقيقة ذاتها داخله حتى لا يكون مخطئاً أو مداناً فالاعتراف بالخطأ بالنسبة له دليل على الضعف النفسى وعدمه قوة وسيطرة.
وفى الحقيقة أننا جميعاً نخطئ فهذه طبيعة إنسانية، لكننا جميعاً نرفض الهزيمة ونرغب دائما أن نخرج منتصرين ولكننا نختلف فى مواجهة هذا الخطأ، أو حتى إدراكنا لعيوبنا فنجد البعض لا يعترف بعيوبه، وقد يصل بالآخر لدرجة إسقاط عيوبه على الآخرين فيعذبهم بأحكامه عليهم، وفى الحقيقة هذا النوع من الأشخاص قد يصل الأمر معهم لدرجة المرض النفسى، فيعيش معزولاً فاقداً التوازن النفسى ولكنه نموذج موجود بيننا.
وقد تكون المغالطة من الشخص المخطئ بسبب عدم القدرة أو حتى الرغبة فى تحمل مسئولية الخطأ ودفع الثمن أو حتى تصحيحه، وقد يكون بسبب الهروب من الألم الداخلى «المعاناة»، وعلى فكرة المعاناة الداخلية والشعور بالذنب من الأمور القاسية على النفس خاصة لو أخفاها صاحبها وواجه الآخرين بهدوء نفسى غير موجود داخليا عنده فتنعكس على أحواله بشكل عام، لذلك غالبا ما يُنصح بأن نلجأ لأهل ثقة مقربين للفضفضة وأخذ المشورة أو حتى طبيب نفسى للوصول لحالة «الاعتراف» بالخطأ التى أتصور أنها تمثل راحة نفسية عظيمة لصاحبها لأنه حمل لا يستطيع الكثيرون تحمله وحدهم، وتبدأ بعده عملية معالجة الخطأ التى قد تصل لتصحيحه، ولكن الأهم دائماً هو مواجهة النفس بالخطأ لأنها تخلق ثقة وشجاعة وراحة نفسية لصاحبها.
وإذا ما فشل الإنسان فى مواجهة أخطائه فإنه قد يلجأ إلى الهروب وقد يؤدى إلى الصدمة أيضاً مهما كان الهروب لتأجيل حالات الصراحة ومواجهة النفس، فطوال حالات الهروب التى تظهر أعراضها فى صور متعددة منها الانعزال أو الاكتئاب أو حتى النوم لفترات طويلة أو الإدمان ولسان حاله «نفسى لا تقدر على مواجهة نفسي»، فتنشأ حالة الصراع الداخلى وبمرور الوقت يبتعد عن السلام النفسى الداخلي.
وقد تدفع المغالطة النفسية الإنسان للكذب فتؤدى به للشعور بالازدواجية وقد تكون فى أشكال متعددة بأن يكون واضحاً مع نفسه بأنه صاحب خطأ، ولكنه يخفى هذا الخطأ أمام الآخرين ويتعامل معهم من منطلق النفاق حتى يحقق مصالحه، وقد يكذب على نفسه ويرى فى نفسه ما هو غير حقيقى ويطالب الآخرين بأن يقيّموه ويقدروه كما يرى هو نفسه أيضاً، لأنه يبحث عن مشاعر رضا مزيفة غير موجودة فى الواقع.
وقد نكذب على أنفسنا أيضا فى مشاعرنا الموجهة تجاه الآخرين وخاصة فى العلاقات الخاصة، فمنا من يكذب لإرضاء غرور الطرف الآخر بأن يمدح محاسن غير موجودة لديه حتى يحتفظ بالعلاقة العاطفية معه فلا يجرحه بتعرية عيوبه، وإذا كان هذا أمراً صحياً بين الأزواج والأحباء لأنه يعلم هذا العيب ويتغاضى عنه أو يتقبله لاستمرار العلاقة بشرط أن يقابل بشيء من التقدير من الطرف الآخر وإلا ستفشل محاولات تقبل الأخطاء والعيوب.
وهناك حالات عديدة كأن يمدح الرجل جمال المرأة حتى وإن كان جمالها محدوداً ولا يستثير غيرتها حتى وإن كانت غيرة عادية فلا توجد أى امرأة لا تغار حتى وإن أخفت غيرتها وتظاهرت بالعكس.. وكذلك الحال للمرأة فهى غالباً ما تفهم الرجل وتستفيد من إخفاء عجزه ونقاط ضعفه خاصة فى العلاقات الحميمية لإرضائه وكسب وده.. لأنه أحياناً مع بعض الأزواج لا يكون الحوار أمراً مستحباً بشأن السلبيات ونقاط الضعف التى تكون معلومة لديهما ولكن ليست بشكل معلن، فعدم الحديث فيها يكون نوعاً من الذوق والمودة بين الطرفين، وهذه لا تدخل تحت بند المغالطة ولكن تكون بالفضل تحقيقاً لقول الله تعالى ولا تنسوا الفضل بينكم، بشرط أن تكون متبادلة لإرضاء الطرفين لبعضهما البعض.
ولكن فى حالات أخرى، تجد أن العيوب واضحة ولكن يميل الطرفان لإخفائهما رغم أن هذه العيوب قد تصل لمرحلة الخطورة، ومن الممكن أن تكون نهايتها الصدمة والألم وتأجيلها وعدم إقامة حوار بشأنها قد يؤدى لنفس النتيجة، فتجد المغالطة بسبب إشباع رغبات تخالف الواقع مما يخلق نوعاً من الوهم لتحقيق احتياجات نفسية غالباً ما تتعارض مع الواقع.. فتجد هناك نماذج من الرجال ما يستحيل أن تستقر العلاقة معهم مثل الكذاب والبخيل والأنانى الذى يفعل أى شيء لمصلحته الشخصية، ولكن المرأة تقدم تبريرات أخرى لهذه العيوب لأنها تريد هذا الرجل على الرغم من وجود علامات واضحة على زيف العلاقة المهددة بالفشل فى أى وقت، فهى علاقات تفتقر للأمان إلا أنها تصر على المغالطة على الرغم من الصراع الحادث داخلها مع الحدس الذى تتميز به دون الرجل إلا أنها تهمل أجراس الإنذار التى من المؤكد أنها ستحميها من الصدمة والألم.. لكن كالعادة أننا نرى ونتغافل ونؤجل ونخوض التجربة وتكون الخسائر أكبر!!
وبالنسبة للرجل على الرغم أن المفروض أن تكون الجوانب العقلية أقوى لديه من الأهواء والمشاعر، ولكنه سلطان الرغبة الجنسية التى تحقق مصلحة ذات أولوية لديه فلا يرى العيوب فى الطرف الآخر التى قد تصل عند بعض النساء للابتزاز العاطفى، ولكن فى العادة النساء ومكرهن أقوى من قدرات فهم الرجل حتى إنه إذا ما قدم أحد المقربين المخلصين له النصائح فإنه يرفضها بشدة ويتغافل ويغالط نفسه ويستمر.. هو الخلل فى إدراكنا للحقائق بسبب ضغوط الحاجة النفسية الملحة حتى وإن انتهت بصدمة وألم.
وتستمر حالات الإنكار والوهم التى استعذبتها النفس لتتوافق مع الرغبات الإنسانية الداخلية للتكيف معها حتى وإن كانت وهماً خلقه لنفسه بغض النظر عن سلامته لكنه وجد فيها ضالته المنشودة التى يعجز فيها عن مواجهة الحقيقة التى تُشعره بالضعف وعدم التحكم والسيطرة على مجريات الأمور.
وتكون نهاية مغالطتنا لأنفسنا هى الصدمة التى قد تؤدى لنوع جديد من المغالطة بإنكارها، فكثير منا يعمد حتى يتمكن من امتصاص الصدمة حتى يستجمع قواه خوفا من الانهيار بأن يرفض الاعتراف بها فيمنح نفسه وقتا لمواجهتها والسيطرة عليها، وقد تزداد الحالة سوءا بأن يرفض الهزيمة تماما ويحاول التظاهر بأن شيئاً لم يكن وهنا يتمسك بنفس الأخطاء التى لا تتغير وبالتالى لا تصحح على الرغم من قدرتنا على تغيير سلوكنا ورؤيتنا وتفاعلنا مع أحداث الزمن الذى لا يمكن أن نستطيع أن نقف فى وجهه بتصرفات صدامية، فالزمن لابد وأن ينتصر عليك إن لم تكن مرناً تخلق قدرات للتكيف معه ومع أحداثه وشخوصه، فمن الغباء ألا نتغير ونظل نحكم على الأمور من خلال تجاربنا الشخصية بعيداً عن الحقائق الواضحة فنرى الحياة بعين الرضا المزيف.