الأحد 28 ابريل 2024

«عروس داعش» وقرار لندن

مقالات21-9-2021 | 17:52

قبل عام كانت بريطانيا كلها مشغولة بقصة رئيسية واحدة عنوانها "عروس داعش" أو شيموم بيجوم الفتاة الإنجليزية من أصل بنغالى والتى سافرت إلى سوريا فى العام 2015، وانضمت إلى داعش وتزوجت من داعشى هولندى وتحولت إلى إرهابية.

كان يمكن لقصة بيجوم أن تمر كما مرت غيرها من قصص الداعشيات اللائى انضممن للتنظيم الإرهابى الأخطر فى العالم وانتهت حياتهن إما بالموت أو الاختفاء الغامض عقب انهيار التنظيم الداعشى فى سوريا والعراق.

نجت بيجوم من الموت وقتل زوجها الداعشى الهولندى فى المعارك بعد أن أنجبت منه، وتوفى طفلها عقب ولادته بفترة قصيرة، وعلى عكس زميلاتها المختفيات أو الهاربات من عضوات التنظيم، تصدرت بيجوم واجهة الأخبار الإنجليزية والعالمية، لأن بعد القبض عليها وإيداعها أحد المعسكرات الخاصة بنساء داعش فى شمال شرق سوريا تفاخرت بانضمامها إلى داعش، ورأت أن أعمالها الإرهابية أعمالا عظيمة، ولكنها بعد قليل تحولت وطالبت بالعودة إلى بريطانيا وأن يغفر لها المجتمع البريطانى انضمامها إلى داعش.

دموع بيجوم التى سالت ونبرة الضعف فى صوتها التى أجادت استخدامها حركت موجة من التعاطف داخل المجتمع البريطاني، ممن لا يعلمون الحقيقة كاملة، وصدقوا الدموع والضعف، بدأ المتعاطفون يضغطون على الحكومة الإنجليزية حتى تسمح بعودة عروس داعش إلى لندن.

جاء رد الحكومة الإنجليزية واضحًا وصادمًا للمتعاطفين وللعروس التى ظلت الدموع تسيل على خديها فى براءة كأنها لم تنضم لأخطر التنظيمات الإرهابية وعاشرت القتلة وأصبحت واحدة منهم بمحض إرادتها، أصدرت الحكومة الإنجليزية قرارًا بسحب الجنسية البريطانية من العروس لأنها تمثل خطرًا كبيرًا على الأمن القومى البريطانى.

لم تستسلم عروس داعش أمام قرار الحكومة البريطانية، واستمرت فى ابتزاز مشاعر المتعاطفين معها الذين لا يعلمون حقيقة ما فعلته فى سوريا وقت أن كانت عضوًا مؤثرًا فى تنظيم داعش.

من ناحية أخرى، دشنت عروس داعش واحدة من أشرس المعارك القضائية بينها وبين الحكومة البريطانية التى امتلكت معلومات مؤكدة عن طريق أجهزتها الأمنية بأن شيموم بيجوم ليست تلك المرأة المسكينة كما تصور نفسها، بل هى إرهابية تمثل أعلى درجة من الخطورة على الأمن القومى البريطانى فى حال عودتها إلى الأراضى الإنجليزية.

بدأت المعركة عندما رفع ذوو شيموم بيجوم دعوى قضائية أمام المحاكم البريطانية لأجل أن تسترد بيجوم جنسيتها المسحوبة، وحسب القانون البريطانى يجب أن يأتى رافع الدعوى القضائية بنفسه أمام القضاء.

سمحت إحدى درجات التقاضى فى الدعوى بعودتها، ويبدو أن المتعاطفين المغيبين عن الحقيقة أثمر تعاطفهم عن هذا الحكم، وهنا تدخلت وزارة الداخلية ممثلة للحكومة البريطانية للطعن فى قرار عودة بيجوم، ووصلت الدعوى الى أعلى سلطة قضائية أو المحكمة العليا التى يرأسها اللورد روبرت ريد.

تقدم السير جيمس إيدى نائبًا عن الحكومة البريطانية إلى جلسة الاستماع التى حددتها المحكمة العليا قبل الفصل فى القضية، وأوضح موقف حكومته دون أى تفاصيل أو أسباب غير سبب واحد قاله فى مرافعته إن شيموم بيجوم تمثل تهديدًا حقيقيًا للأمن القومى وأن جهاز المخابرات الداخلية البريطانية "MI5" أخبر وزير الداخلية فى عام 2019 بأن بيجوم عضوا خطيرا فى داعش، وسيتم تفادى المخاطر التى تشكلها على الأمن عندما تحرم من جنسيتها.

أصدر اللورد روبرت ريد رئيس المحكمة العليا -أعلى سلطة قضائية بريطانية- حكمه فى القضية، وتكشف تفاصيل الحكم إلى أى قيمة انحازت المحكمة العليا البريطانية بعيدًا عن المتعاطفين المخدوعين فى دموع عروس داعش .

تسمح المحكمة العليا باستئناف وزارة الداخلية ولا تجيز ذلك للسيدة بيجوم لأن المحكمة (المقصود المحكمة التى سمحت بالعودة). لم تعطِ قرار وزير الداخلية الاحترام الذي كان ينبغي أن يحظى به لأن وزير الداخلية تمنحه مسئوليته إجراء تقييمات للأمن القومي.

أجرت المحكمة (نفس المحكمة التى أجازت العودة) تقييمها الخاص لمتطلبات الأمن القومى وفضلته على تقييم وزير الداخلية رغم عدم وجود أي دليل ذى صلة معروض أمامها.

نأتى للسبب الأخير الذى أرتأته المحكمة العليا البريطانية لعدم عودة بيجوم أو مناقشة موضوع سحب جنسيتها وهو يوضح طبيعة الفكر القضائى البريطاني، وأى الأولويات يضعها فى المقام الأول، بعيدا عن رأى عام مخدوع فى "عروس داعش"، وهو "أن الحق في محاكمة عادلة ليس مقدماً ولا يتفوق على كل الاعتبارات لأخرى مثل سلامة الناس والمجتمع وإذا كانت المصلحة العامة تجعل من المستحيل الاستماع إلى القضية بشكل عادل فلا يمكن للمحاكم في الأحوال العادية أن تنظر فيها".

لقد وضعت المحكمة العليا البريطانية سلامة الناس والمجتمع قبل أى اعتبار حتى قبل المحاكمة العادلة وارتكنت فى ذلك إلى تقييم الأجهزة الأمنية المختصة أو السلطة التنفيذية دون أن تشكك لحظة فى هذا التقييم واعتبرته أمرًا مسلمًا به.

كان يمكن عند هذا الحد وبعد هذا الحكم أن تنزوى "عروس داعش" فى معسكرها المحتجزة فيه بشمال سوريا، خاصة مع إدراك المتعاطفين معها أن هناك أمرًا غامضًا فى قصتها، فالمعلومات التى صنفت سرية ووضعتها الحكومة البريطانية أمام أعلى سلطة قضائية فى البلاد لا يمكن أن تكون بها شك. فإصرار الحكومة البريطانية وأجهزتها الأمنية على موقفهم وتأييد السلطة القضائية لهذا الموقف يؤكد أن عروس داعش ليست هذه البريئة المسكينة.

قبل أيام عادت عروس داعش للظهور مرة أخرى على شاشة قناة "ITv"  البريطانية فى برنامج صباح الخير بريطانيا من داخل معسكرها فى شمال شرق سوريا، ولكن بدلا من الإطلالة بالنقاب والدموع، ظهرت شيموم بيجوم بمكياج كامل وشعر منسدل وملابس ليس لها أى علاقة بنقابها السابق أو كما وصفتها الصحافة الإنجليزية فى إطلالتها الجديدة بأنها مثل شابة إنجليزية ذاهبة للتسوق فى شارع أكسفورد.

طالبت عروس داعش فى المقابلة الصحفية من الشعب البريطانى لأنها كانت جاهلة بما تفعله داعش والجرائم التى ارتكبها التنظيم الدموى وأنها هى الأخرى فقدت أحباءها بسبب داعش، ولم تكتف بالاعتذار بل عرضت المساعدة على رئيس وزراء بريطانيا بوريس جونسون فى مكافحة الإرهاب لأنه لا يعرف ماذا يفعل !

حاولت بيجوم أن تنكر ما قالته فى أول ظهور لها قبل سنوات عندما ألقى القبض عليها وتفاخرت بانتمائها لداعش وسعادتها بالأعمال الإرهابية التى ارتكبها التنظيم، قبل أن تدخل فى إطلالة الدموع والاستضعاف وأخيرًا إطلالة فتاة شارع أكسفورد التى تعتذر وتعرض المساعدة.

أمام هذا التلون المستمر من عروس داعش سربت أجهزة الاستخبارات البريطانية بعض المعلومات عن حقيقة شيموم بيجوم ودورها فى داعش، فهى لم تكن مجرد ربة منزل في الرقة عاصمة التنظيم الدموى بسوريا، بل كانت عضوًا في قوات الحسبة التابعة للتنظيم الإرهابي المسئولة عن حفظ أمن التنظيم، وكانت مسئولة عن تجهيز السترات الناسفة للمفجرين الانتحاريين الذين يقومون بالأعمال الإرهابية، وأنها كانت تتجول فى شوارع عاصمة التنظيم الإرهابى حاملة رشاش كلاشينكوف.

 

لم تكتف الدولة البريطانية بالتسريبات، فخرج وزير الصحة البريطاني ساجد جاويد الذي أسقط جنسيتها البريطانية في عام 2019  عندما كان يشغل منصب وزير الداخلية وقتها قائلا فى تصريحات واضحة: إن بيجوم تكذب بشأن أنها كانت مجرد أمًا وزوجة عندما كانت في سوريا، وأضاف جاويد لن أخوض في تفاصيل القضية لكن ما سأقوله هو أنكم بالتأكيد لم تطلعوا على نفس الوقائع التي علمت بها إذا عرفتم ما أعرفه فأى شخص عاقل ومسئول كان سيتخذ نفس القرار بالضبط، ولا يوجد لدى شك فى ذلك".

 

عقب تصريحات الوزير جاويد خرج ريتشارد والتون، الذى تولى منصب رئيس مكافحة الإرهاب في شرطة لندن بين عامى 2011 و2016 ليصرح هو الآخر مؤكدا أنه لا يجب التساهل بأى شكل من الأشكال مع بيجوم، وأكد على ضرورة معاملتها كإرهابية. وسخر والتون من إطلالة بيجوم الجديدة قائلا إنها تريد أن تعامل كما لو كانت مجرد طالبة ضاعت أو تاهت على شاطئ في تايلاند، بينما هى فى الواقع اعترفت بارتكاب جرائم إرهابية حتى في المقابلة الأخيرة التي أجرتها.

عندما نتابع قصة عروس داعش منذ لحظة هروبها إلى سوريا وانضمامها إلى التنظيم الإرهابى والقبض عليها ثم إطلالاتها الثلاث المتلونة، نجد أن موقف الدولة البريطانية لم يتغير على كافة المستويات التنفيذية والقضائية والتشريعية، لأن أغلب النواب فى مجلس العموم البريطانى أيدوا سحب جنسيتها وعدم عودتها إلى أراضى المملكة المتحدة، يعطى هذا الموقف البريطانى إشارة هامة بأن الدولة وظيفتها الأولى والأخيرة هى الحفاظ على أمنها القومى وسلامة مواطنيها، وأنه لا تسامح أو تهاون مع الإرهاب والإرهابيين مهما كانت الإطلالات والدموع والاعتذارات.

بالتأكيد هذا الموقف الصلب من الإرهاب والإرهابيين ستجده فى واشنطن، كما فى لندن أو أى عاصمة غربية، حتى لو لم يرتكب الإرهابيون جرائم على أراضيهم، لكن لعبة المصالح والضغوط والادعاءات باسم حقوق الإنسان تدفع هذا الغرب للتلون مثل عروس داعش، ويطالب الآخرون بالصفح عن الإرهابيين وتركهم يمارسون إرهابهم ما دام هذا الإرهاب الدموى يخدم المصالح الغربية.

 

Dr.Randa
Dr.Radwa