ملاحم العبور المصرية لا تتوقف.. فإذا كنا نحتفل بالذكرى الـ 48 لأعظم انتصارات العسكرية المصرية فى العصر الحديث.. وأحد أعظم أمجاد الوطن.. فإننا أيضا أمام عبور جديد اليوم وهو العبور إلى الجمهورية الجديدة.. فالوصول إلى هذه المرحلة.. شهد تضحيات وعطاء وبطولات ونجاحات وإنجازات تتواصل.. جمعت فيها القيادة السياسية الوطنية الشريفة بين الإنقاذ التاريخي.. والإنجاز الملهم والعبقرى.. فمصر وطن العبور الخالد فى كل العصور.
من أكتوبر 1973.. إلى أكتوبر 2021
من المهم ونحن نحتفل بذكرى مرور 48 عاماً على نصر أكتوبر العظيم أن نتوقف كثيراً لاستخلاص الدروس والعبر وكيف نستفيد من هذه الملحمة ونقدمها للأجيال الجديدة والقادمة.. ومن خلال هذه الدراسة المتعمقة والتحليل العلمى نجد مشتركات وقواسم بين الحالة المصرية قبل وخلال حرب أكتوبر 1973 وأيضا الحالة المصرية فى يونيو 2013 وصولاً إلى ملحمة البناء خلال أكثر من 7 سنوات فى عهد الرئيس عبدالفتاح السيسى وتدشين الجمهورية الجديدة.
جاءت تداعيات حرب 1967 مأساوية وكارثية سواء على قواتنا المسلحة التى تعرضت لأضرار وخسائر جسيمة.. على المستويين المادى والمعنوي.. وتعرضت القوات الجوية لشبه انهيار ودمرت نسبة كبيرة من قوتها بالإضافة إلى الأكثر كارثية وهو احتلال سيناء كمحصلة ونتيجة وتعرض الأمن القومى المصرى لتهديد وتحد خطير.
فى ضوء هذه التداعيات والآثار والتحديات التى أعقبت حرب 1967 واحتلال سيناء.. أصبحت مصر أمام تحد تاريخي.. وكان لابد من وقفة استراتيجية من خلال إيقاظ المارد المصرى وإعادة الحسابات سياسياً وعسكرياً.. وتصحيح المسار والخروج بدروس مستفادة تستفيد من نقاط الضعف وتعالج الأخطاء وتسد الثغرات وتعظم الإيجابيات ورغم «الانتكاسة» إلا أن الأمور لم تتوقف والحياة لم تنته.. وعقب ساعات أو أيام مما حدث فى 1967.. كانت هناك قرارات على قدر الموقف.. فبعد قرار الرئيس جمال عبدالناصر التنحى إثر نكسة 1967 ورفض الشعب ذلك توالت قرارات التصحيح لمواجهة التحدى الأكبر والأخطر.. وكان القرار التاريخى هو ما أخذ بالقوة، لا يسترد إلا بالقوة ودخلت مصر فى مرحلة إعادة هيكلة وبناء القوات المسلحة على أسس علمية وموضوعية وإسناد إدارتها إلى الكفاءات لا إلى الولاءات واتخاذ إجراءات وقرارات عسكرية تتعلق بالقوات المسلحة سواء على مستوى فصل قوات الدفاع الجوى عن القوات الجوية والاعتماد على أصحاب المؤهلات العليا والمتعلمين فى اختيار المقاتلين.. وتحديث وتطوير القوات المسلحة فى ضوء المتاح.. وتحقيق الهدف الرئيسى فى استعادة الثقة للمقاتل المصرى فى نفسه وقياداته وسلاحه.
ما أريد أن أصل إليه أن مصر وكأنها خلقت لتواجه أخطر التحديات والتهديدات والظروف المعقدة.. والصعوبات التى تدخل فى طور المستحيل.. لذلك فهناك أوجه شبه كبيرة وقواسم مشتركة كثيرة بين دور الجيش المصرى العظيم عقب حرب 1967.. مروراً بحرب الاستنزاف.. ووصولاً إلى ملحمة العبور فى أكتوبر 1973 انتهاء بتحرير واستعادة سيناء بالكامل.. وأيضا فيما واجهته مصر فى يناير 2011 وحتى ثورة 30 يونيو 2013 العظيمة.. وصولاً إلى أكبر وأضخم وأعظم ملحمة بناء فى تاريخ مصر ثم إلى تدشين الجمهورية الجديدة ما بين 1973 وحتى 2021 هناك تحديات وتهديدات تفوق خيال البشر.. ولا يمكن أن تواجهها وتحقق الانتصار فيها إلا مصر وجيشها وشعبها.
بدأت اللبنة الأولى.. والخطوة التمهيدية لمعركة العبور فى تنفيذ معارك وحروب الاستنزاف.. وقد كبدت العدو خسائر فادحة فى أفراده ومعداته وأيضا فى الوصول إلى أعماقه داخل سيناء بل إلى العمق الإسرائيلى فى تدمير ميناء «إيلات» الإسرائيلي.. وأن يدرك أن استمرار احتلاله لسيناء سيكلفه ما لا يطيق.. وأن المصريين عازمون وقادمون لاسترداد وتطهير أرضهم من دنس الاحتلال الإسرائيلي.. وأهم ما حصدته مصر من معارك وبطولات حرب الاستنزاف هو استعادة المقاتل المصرى للثقة فى نفسه وسلاحه وقياداته وإدراكه وهم الأسطورة المزعومة لجيش الاحتلال.. بعدما أدرك المقاتل المصرى كفاءته وقدرته على تلقين عدوه دروساً كثيرة فى فنون القتال، ولعل بطولات الجيش المصرى التى خاضها فى حرب الاستنزاف تقف شاهدة على عظمة وصلابة وكفاءة المقاتل المصرى فعلى مدار 1000 يوم سطر المقاتل المصرى بطولات خالدة سواء فى معارك رأس العش وتدمير إيلات الإسرائيلية فى درس أسطورى غير وقلب المفاهيم العسكرية.. فبواسطة لنش صواريخ تم تدمير أحدث مدمرة إسرائيلية كانت تبحر باختيال فى مياهنا ثم اقتحام الصاعقة المصرية لحصون العدو فى لسان التمساح والثأر للشهيد الفريق عبدالمنعم رياض ثم ملحمة جزيرة شدوان ومنع قواتنا للعدو الإسرائيلى من اقتحام الجزيرة على مدار 36 ساعة من القتال المتواصل والصمود التاريخي.. ثم اقتحام قوات الصاعقة المصرية لنقاط العدو الحصينة فى «التبة المسحورة».. وكذلك تفجير الحفار الإسرائيلى «كنتينج» فى عملية مخابراتية عسكرية تدرس.. حرب الاستنزاف.. كانت تشكل (عودة الروح) للمقاتل المصري.. هذه الروح التى قهرت وكسرت غرور العدو.. وهى كما يقول العسكريون كانت بمثابة التطعيم للمعركة.. والبروفة الحقيقية لانتصار أكتوبر.
لم تكن قواتنا هى الأقوى ظاهرياً طبقاً للمقارنة بين ما يمتلكه الجيشان المصرى والإسرائيلى من السلاح ومنظومات القتال الحديثة أو فى المقاتلات والطائرات والإمكانات التكنولوجية والدعم الخارجى خاصة الأمريكى سواء سياسياً أو عسكرياً أو مادياً.. لكن الجيش المصرى استعد طبقاً لما هو متاح.. وقرر أن يخوض المعركة بروح فدائية وبسالة وشجاعة نادرة وهو يدرك أن العدو أكثر تفوقاً فى السلاح.. لكن ذلك لم يثنه.. وكانت الآية الكريمة «واعدوا لهم ما استطعتم من قوة» تجسد القضية.. لكن الروح والإرادة والصلابة والكفاءة والاستعداد والرؤية ووضوح الهدف والتخطيط العلمى المتكامل والدراسة المتأنية والعميقة لمصادر قوة العدو ونقاط ضعفه.. وارتباط المقاتل المصرى بأرضه وحنينه إليها لأنها بالنسبة له مثل العرض.. وكان لابد أن يحقق الثأر ويعيد الأرض والكرامة.
جاءت ملحمة العبور العظيمة.. عبقرية فى تخطيطها.. واختيار توقيتها الذى صادف «عيد الغفران» اليهودي.. وأيضا فى موعد تنفيذها الثانية ظهراً وهو قرار جريء وغير معتاد.. فالحروب تشن فى أول ضوء أو آخر ضوء.. ثم جاءت عبقرية أكتوبر فى تحقيق المفاجأة والمبادأة.. ومباغتة العدو فعلى مدار السنوات السابقة للحرب كان الجيش المصرى يعلن حالة التعبئة والطوارئ لإيهام العدو بأن المصريين سيحاربون لكنه يفاجأ أنه لا شيء يحدث.. حتى استسلم للأمر.. وأصبح لا يصدق أن مصر ستحارب وهنا كانت المفاجأة فى أعظم خطة خداع استراتيجى تثبت تفوق الإنسان المصري.
كانت ومازالت حرب أكتوبر هى «أيقونة» العبقرية المصرية.. وعنوانا رئيسيا لشرف «العسكرية المصرية».. وهى الحرب التى قلبت الموازين والمفاهيم العسكرية وغيرت مسارات أرقى وأعظم المعاهد العسكرية.. فالعبور الملهم الذى تحدى المستحيل وعبر وتجاوز ودهس أكبر مانع مائى وساتر ترابى ونقاط حصينة على عمق من 30 إلى 40 كيلو مترا فى الضفة الشرقية لقناة السويس هو نصر لا يستحقه إلا الجيش المصري.. فهذا التزامن والترتيب العبقرى لخطوات ومعارك النصر وأن يحفظ عن ظهر قلب كل مقاتل فى الحرب مهمته.. وأن تبكى إسرائيل دماً وفزعاً ورعباً خشية دخول المصريين تل أبيب وأن تخوض قواتنا أكبر وأشرس معارك الدبابات لتلقن العدو دروساً جديدة فى فنون الحرب والقتال.. فقد اعتاد العسكريون أن تطارد الدبابات الأفراد وإذا بالمقاتل المصرى هو من يطارد أحدث أنواع الدبابات الإسرائيلية فى هذا التوقيت وسطرت قواتنا فى العبور إلى الضفة الشرقية ملحمة هندسية عبقرية شهدت تنظيما وترتيبا وتخطيطا ونجح 80 ألف مقاتل فى العبور إلى الضفة الشرقية ودخول سيناء حتى أول ضوء فى السابع من أكتوبر 1973 وتجاوز كل هذه العوائق والعقبات والمستحيل والنقاط الحصينة.. فهو جيش عظيم تهون أمامه وتحت أقدامه أعظم التحديات والتهديدات.. وهو جدير أن يكون جيش مصر العظيمة.
هناك خط يربط ما بين روح أكتوبر 1973 التى سطرها الجيش المصرى وعبر من خلالها بمصر إلى بر الأمان.. هى نفس الروح التى تجاوز بها الجيش المصرى وأنقذ الوطن من براثن مؤامرات خططت لإسقاط الدولة.. واحتضن أبطال القوات المسلحة وطنهم.. ورفضوا الاملاءات.. وحافظوا على قدسية السيادة المصرية.. وحموا شعبهم ولم تخرج منهم مجرد إساءة للمصريين رغم التحديات ومحاولات الوقيعة بين الجيش والشعب.
الحقيقة ان الروابط القوية التى تجمع بين ملحمة العبور فى أكتوبر 1973.. وملحمة العبور بمصر بعد أحداث يناير 2011.. وأيضا معجزة الإنقاذ والإنجاز فى 30 يونيو 2013 وخلال أكثر من 7 سنوات مضت هى جديرة بأن تكون دروساً ملهمة للمصريين ولكل الدول الباحثة عن السيادة والاستقلال والبناء والتنمية.
لقد واجهت مصر تحديات وتهديدات خطيرة وغير مسبوقة خلال أكثر من 8 سنوات لكن مصر وجدت القائد الشريف والعظيم الذى اختار مع جيشه الوطنى حماية إرادة الشعب وتطهير البلاد من الخونة والمرتزقة والمتآمرين والمتحالفين مع أعداء الوطن.. وتصدت مصر وجيشها للتهديدات هى الأخطر فى تاريخها هذه المرة لم تكن سيناء لوحدها هى التى تواجه الخطر والمجهول.. ولكن مصر كلها.. خاض الجيش المصرى العظيم ونحن نتحدث بعد 48 عاماً من حرب أكتوبر المجيدة معارك أخرى لا تقل أهمية عن ملحمة العبور فمعركتا البقاء والبناء يسطرها التاريخ لجيش مصر.. نجح خلالها فى دحر الإرهاب الأسود المدعوم والممول والمدفوع من قوى الشر هى نفسها التى سعت لاحتلال وانتزاع سيناء فى 1967.. وحررها خير أجناد الأرض.. وطهروها أيضا فى الحرب على الإرهاب بعد 2013.
عبور كبير فى عهد الرئيس السيسي.. فإنقاذ مصر والانحياز لإرادة المصريين هو عبور جديد لا يقل عن عبور أكتوبر 1973.. وأيضا تطهير سيناء من الإرهاب هو عبور آخر.. ثم تنمية سيناء وتعميرها بما يزيد على 700 مليار جنيه أنفقت على مشروعات عملاقة وتوطين ما يقرب من 2.5 مليون مواطن مصري.. وزراعة 500 ألف فدان وإقامة المصانع وتشييد الطرق والأنفاق التى تربط سيناء بمدن القنال ومحافظات الوادى والدلتا ويصبح زمن المرور ما لايزيد على 20 دقيقة بدلاً من 5 أيام وإعادة الحياة والبعث لسيناء من جديد وتعميرها ولتصبح مأهولة بالسكان من أجل فرص عمل وحياة مختلفة تغير حياة أهالينا فى سيناء إلى الأفضل وتوفر لهم الحياة الكريمة وأيضا تحفظ أرض سيناء والأمن القومى المصري.. وتؤمن بوابة مصر الشرقية.
أيضا ان ملحمة البناء والتنمية التى سطرها الرئيس السيسى برؤية وإرادة على مدار أكثر من 7 سنوات فى كافة المجالات والقطاعات وفى كل ربوع البلاد وانتشال مصر من الانهيار والإفلاس.. وامتلاك شجاعة الإصلاح بالتفاف شعبى غير مسبوق هو عبور جديد لا يقل أهمية من عبور أكتوبر 1973 فقد بنى وحمى فى نفس الوقت.. لأن بناء الوطن.. وبناء الإنسان.. هما صمام أمان الحفاظ على الأوطان.
أيضا ان المشروع القومى لتنمية وتطوير الريف وتوفير الحياة الكريمة لما يقرب من 60 مليون مواطن فى 4500 قرية مصرية هو عبور جديد وهو تدشين للجمهورية الجديدة.. يقف جنباً إلى جنب مع العاصمة الإدارية الجديدة وآلاف المشروعات العملاقة إيذاناً بإعلان الجمهورية الجديدة.
ان أروع وأعظم ما يميز الجيش المصرى ويجعله متفرداً بين جيوش العالم أنه من صلب وظهر هذا الوطن شموخه من شموخ هذا الوطن.. ولد من رحم الدولة المصرية ومن نسيجها الوطنى لا يدخر جهداً أو عطاء أو تضحية فى الحفاظ على بقاء وخلود الوطن.. خاض كل معارك المصريين دفاعاً عن الأرض والكرامة وليس ذلك فقط بل بنى وشيد بأروع ما يكون البناء والتشييد فهو كلمة السر فى كرامة وبناء الوطن والحفاظ على ترابه وأرضه وثرواته ومقدراته ومكتسبات شعبه.
الجيش المصرى لا أبالغ إذا قلت إنه سر وجود وخلود هذا الوطن بأمجاده وتضحياته وبطولاته وعطاء رجاله وللحديث بقية فى مقالات أخرى عن خير أجناد الأرض فى ذكرى العبور العظيم.
تحيا مصر