الثلاثاء 14 مايو 2024

مين عذبك بتخلص مني

مقالات10-10-2021 | 13:02

تقصده الأقدام لكن لا تهواه القلوب وتسعى إليه بكل جد لكن مرغما أخاك لا بطل يخلع الجميع فيه رداء العظمة التي يسعون بها بين الناس فيكتسون برداء الحنان وتزداد معدلات الطبطبة فيه وتتجلى الأخوة الإنسانية فيه دون حواجز أو معوقات وتتكاشف فيه النفوس بصدق يشبه صدق من أوشك أن يغادر الحياة ويريد أن يلقي ما يحمله صدره من أوجاع ليغوص مع شركائه في الإنسانية بمساواة وتجرد يشبه تجرد الحجيج في المشاعر المقدسة فالكل يتحدث لغة واحدة ينسى الجميع ما يلبسونه ويتوارى البصر لتتقدم البصيرة في لحظات عصيبة تجمعهم.

إنه طابور البنك صف الإيداع الذي يرتاده المكلومون تحت سيف الحياة غير الرحيم.. مشوار طويل حتى ولو كان فرع البنك أسفل البناية التي تسكنها حيث تتثاقل الخطوات وتنتعش معها الذكريات لتستحضر لك كل لحظات البذخ غير المبرر التي ألمت بك في غفلة من الزمن متناسيا فيها أنه سيأتي عليك يوم تشعر فيه بالندم على إضاعة تلك الأموال التي كانت كفيلة بأن تخفف عنك عبء تلك اللحظات وتيسر عليك وقع موجات الشجن التي تصاحبك في هذا الطابور السخيف.

في لحظات مبكرة من ساعات النهار يهرول الجميع مستعوضا الله في ما سيفقده من مدخراته اليوم فيتلاقى الأحبة أمام الباب الزجاجي وتتطلع عيونهم إلى تلك الأرقام باللون الأحمر التي تبدو في أعينهم كمنصة قاض تتأهب لإصدار حكم بالإعدام.. الكل يراقب الكل والجميع يفحص الجميع بنظرات تحاول أن تخبرك أنك لست وحدك في هذه اللحظة العصيبة.. لست وحدك من سيفقد مدخراته بكامل إرادته بعد قليل.. يتقدم المرء إلى منصة التفريغ النقدي الرخامية وتستمع أذنه إلى صوت قرقرة ماكينة عد النقود التي يتحول صوتها إلى ما يشبه صوت الجلد وكأن سوطا يضربك مع كل حركة لها ثم تنتهي رحلتك بابتسامة من موظف البنك وهو يعطيك ورقة ممهورة بخاتم بلون أزرق يعلن انتهاء سلب أموالك في أشيك عملية إنسانية تحيطها في الأفق صوت الموسيقى الهادئة التي تزين مشهدا شديد القسوة على حاضريه في سخرية تفوق أعظم الدراميات في عالم الفن.

وهنا لا يستطيع الضحايا الآخرون إلا محاولة مشاركة الأحزان فيبدأ كل فرد في الطابور المؤلم محاولة جبر خاطر الآخر فيسأل :

- حضرتك إيداع مش كده

فيرد الآخر وتكاد عينيه تلامس الأرض:

- مصاريف مدارس كل سنة وأنت طيب

وهنا ينكسر حاجز الحياء فيقرر الجميع في توقيت متفق عليه غير معلن فتح جلسة نقاش جماعي تشبه حفلات التأبين ويصبح الجميع مدعوا لاجترار الأحزان فهذا غاضب من مدرسة العيال لرفعها المصروفات وآخر يبكي على قراره بشراء شقة بالقسط الذي يتضخم كالبروستاتا ولا تجدي معه الأدوية وآخر يتساقط كسفا وهو يسدد قسط سيارته الفارهة التي هي الآن في الورشة للعلاج مما أصابها من عين حاسد .

منتدى قصير لكنه عميق وثري إنسانيا حيث يتحول طابور البنك إلى مجلس نيابي مصغر ويتحول رواده إلى نواب فيه حيث يتبارون في قص الأوجاع ومحاولة إظهار بعض الحلول التي سرعان ما تتبخر مع انفضاض الطابور .

هو في الواقع لقاء سنوي أو شهري يتحول لقاء المودعين فيه إلى جلسة لغسيل النفس ومشاركة الأحزان ليعود كل حاضر إلى حياته من جديد شخصا جديدا بعد أن اكتسب حصانة نفسية من رؤيته آخرين يتألمون في وقت كان يظن فيه أنه هو وحده أمير الألم والإحباط.

وهنا يتحول النقاش وضجيجه إلى لحن عذب يسمع في خلفيته صوت الموسيقار محمد عبد الوهاب وهو يغني رائعته "مين عذبك بتخلص مني".

ثم يوجه الحاضرون إلى عيون ملاحقيهم من المارين أمام البنك الذين يظنونهم أنهم أتوا لحصد الغنائم والأرباح فيهتفون في وجوههم:

ليه العوازل حاسدني دول حقهم يبكوا عليا.

حقا إن الدنيا لمسرح كبير تتنوع فيه الأدوار وتفوز كل عين قادرة على رصد ذلك بالتمتع بالأداء الرفيع لنجوم بلا أضواء وهم أصحاب المشهد فكل يوم تعيشه فصل جديد من رواية كبيرة مازلنا نتابع فصولها كيف تمضي وكيف تضع أوزارها.

Dr.Radwa
Egypt Air