الأربعاء 26 يونيو 2024

مصر والأقباط .. حكاية وطن!

31-5-2017 | 12:41

بقلم : كمال زاخر

“الكتابة برد الفعل” يمكن أن يكون عنواناً مناسباً لغالبية المقاربات التى تطالعنا اليوم وأمس وربما غداً أيضاً، فى فضائنا الفكرى والإعلامى بتنويعاتهما، وفى ظرفنا المعاش فإن هذا النوع من الكتابة الذى يُستدعَى مع كل أزمة أو حدث جلل، يفتقر إلى مقومات التحليل الموضوعى، فلا ينتهى إلى محاولة طرح إجابات وحلول تنير الطريق أمام متخذى القرار لتفكيك الأزمة. لذلك يمكن اعتبار هذا النوع من الكتابة والطرح «إطفاء الحرائق»، التى هى فى حقيقتها ترحيل لها، إذ تبقى النار تحت الرماد.

نحن أمام ظاهرة مزمنة، ظاهرة الإرهاب، وهى رد فعل متنام لتغيرات مباغتة رفعت الغطاء عن واقع صدم أصحابه، فى مشابهة تصل إلى التطابق لما واجهه الغرب مع الثورة الصناعية فى القرن الثامن عشر والتى خلخلت أركان المجتمع الأبوى هناك، وقد أعيد إنتاجه فى شرقنا السعيد مع ثورة الاتصالات وخروج المعلومات عن السيطرة وتوفرها بسيولة خرجت عن تحكم المؤسسات التقليدية الدينية والسياسية، وما الإرهاب إلا محاولة بائسة ودامية للإبقاء على سيطرة ولت على عقول وذهنية المجتمعات الشرقية، والعربية تحديداً.

ونحن فى مصر تحديداً قد نكون أكثر احتياجاً إلى جهد وأبحاث علماء الاجتماع السياسى لتقديم تفسير صحيح لظاهرة الإرهاب باعتبارها فعلا مجتمعيا لصيق الصلة بالصراع السياسى فى دوائره المحلية والإقليمية والدولية، وغير منقطع الصلة بالسياق التاريخى الممتد والمحتشد بالمتغيرات الحادة التى شهدها تاريخ مصر القديم والوسيط والمعاصر.

وسوف أتوقف فى سطورى عند لقطات تاريخية، قد تسهم فى الاقتراب من فهم تشابكات اللحظة، قد تبدو للبعض صادمة، وللبعض بغير عنوان، لكنها فى ظنى يمكنها أن تقودنا لفهم وتفكيك الأزمة.

ـ خطيب ثورة ١٩ يؤسس كنيسة

فى العقد الأول من القرن العشرين شرع القمص مرقس سرجيوس، الذى لمع نجمه مع ثورة ١٩ وكان أول رجل دين قبطى يعتلى منبر الجامع الأزهر ليلهب مشاعر الجماهير دعماً للثورة، شرع فى بناء كنيسة عرفت شعبياً باسمه، فى حى القللى على مشارف حى شبرا العتيد فى قلب القاهرة، واستقدم لرسم أيقوناتها فناناً إيطالياً، ينتمى إلى مدرسة فنانى عصر النهضة، فجاءت لوحاته متميزة تنطق عبر خطوطها وألوانها بمكنون شخصياتها، وفى أقصى اليسار أيقونة للقديس بولا أول من قصد جبال البحر الأحمر عابداً متوحداً، بينما فى أقصى اليمين أيقونة القديس أنطونيوس مؤسس الرهبنة فى مصر والعالم، وكلاهما مصرى يحمل ملامح الفلاح المصرى المثابر والناسك الزاهد الصلب والقوى والمتضع، وقد التقيا معاً فى لقاء بادر به أول الرهبان، على مشارف القرن الرابع الميلادى، حمل لنا وللكنيسة رسالة موجزة، لم ننتبه إليها بينما تحمل فى ثناياها حلاً حاسماً لما آل إليه واقعنا.

ـ جبال البحر الأحمر تتصدى للإمبراطورية الرومانية

فى لقائهما طلب ق. بولا من نظيره أنطونيوس أن يعود أدراجه ويقابل البابا إثناسيوس بطريك ذاك الزمان ويأتى منه بالعباءة أو الرداء الملكى الذى أهداه له الملك قسطنطين إمبراطور روما، أثناء انعقاد المؤتمر الكنسى الدولى الأكبر فى مدينة نيقية ـ من أعمال تركيا الآن ـ وفيه وضع الإمبراطور صولجان المُلك وسيفه على مائدة الاجتماعات التى ائتلف حولها أساقفة كل كنائس العالم، وقال لهم الآن أضيف إلى ما منحه لكم السيد المسيح من سلطان روحى، سلطاً زمنياً فكل من لم تقبلوه وأصدرتم حكماً بنفيه يكون منفياً وكل من قبلتموه يكون مقبولاً، وعاد الأساقفة إلى كراسيهم ومعهم كل مظاهر الإمبراطور من الكرسى إلى الزى إلى السلطات وحتى ترتيب الرتب الكنسية على غرار النهج الإمبراطورى، وخص أسقف الإسكندرية بردائه الملكى.

عاد أنطونيوس بالرداء إلى صديقه بولا، فوجده قد فارق الدنيا، فكفنه بالرداء، وخلع عنه ثوبه المصنوع من الليف، ورجع مجدداً إلى البابا الذى استوعب الرسالة، وجعل الثوب الليف ضمن ثيابه وهو يصلى، أدرك البابا أن الكنيسة تدار بالاتضاع والزهد وكلمة الله وليس بدعم الإمبراطور وصولجانه وردائه، ويمكننا تتبع نجاح وإخفاق الكنيسة بامتداد تاريخها وفق انحيازها بين الصولجان وكلمة الله، بين منهج قسطنطين ورؤية القديس بولا.

 ـ الدخول العربى والتحول إلى الإسلام

فى لحظة تاريخية فاصلة تشهد مصر قدوم القائد العربى عمرو بن العاص، وهى لحظة ملتبسة، ولم يكن قدومه بحسب المؤرخين الثقاة لنشر الإسلام، وإنما كانت الأسباب اقتصادية بالمقام الأول، ولهذا لم يدخل المصريون الإسلام بشكل مؤثر إلا ما بين القرنين العاشر والثانى عشر، ونحتاج إلى الفصل بين تاريخ الإسلام كدين وبين تاريخ العرب فى ذاك التوقيت، فالخلط بينهما يقف عائقاً دون فهم ما حدث فى مصر، وهنا نكتشف بغير عناء أن مسلمى مصر الآن هم مصريون أحفاد الفراعنة، فى الشريحة العظمى منهم، ونغلق الباب فى وجه من يزرعون الشقاق بينهم وبين مسيحي مصر، فالأصل لكليهما يتصل بمصر القديمة، ومن ثم نكون بحاجة شديدة لأن نعيد الاعتبار لمصريتنا ونفتخر بها، ونعظم مشتركاتنا التى احتفظ لنا بها تراثنا الشعبى وموروثنا الحضارى، والذى كان ينتقل معنا كلما دخلنا دينا جديداً، فالمسلة الفرعونية السامقة تتحول فى المسيحية المصرية إلى منارة الكنيسة وعنها يأخذ كل العالم المسيحى، وتتحول فى الإسلام المصرى إلى مئذنة المسجد وعنها يأخذ كل العالم الإسلامى.

ـ الستينيات تمصير أم أسلمة

تتبلور الأزمة وتتشكل إرهاصاتها فى ستينيات القرن العشرين حين انطلقت الدعوة إلى «تمصير» الفضاء العام ودواوين المصالح والحكومة، وكانت غالبية المصالح، البريد والسكك الحديدية والبنوك، يديرها فى الإدارة الوسيطة أقباط، ربما بحكم اهتمامهم آنذاك بالتعليم، وبحكم منظومة القيم المتوارثة، وشهرتهم فى دوائر الإدارة والمال، لتأتى دعوة التمصير لتزيحهم بالإحلال عن مواقعهم برتابة، ويختل ميزان التوازن المجتمعى، ويواكبه تبنى سياسة التأميمات وتقليص الملكية الزراعية، فتصيب بشكل واضح طبقة الملاك وكبار المستثمرين والأقباط يشكلون نسبة لا يستهان بها فى كليهما، لتشهد مصر أول موجة هجرة قبطية مؤثرة إلى أوربا وأمريكا.

وتشهد الستينيات حدثين لهما دلالتهما وتداعياتهما، الأول بصدور قانون تطوير الأزهر، لتتحول جامعته الدينية إلى جامعة مدنية تضم بجانب العلوم الشرعية، العلوم الطبيعية، وتقتصر فى طلابها على المسلمين دون غيرهم، بل وتفتح أبوابها للطلبة المسلمين من كافة أنحاء العالم، وتنشئ لهم مدينة البعوث الإسلامية، ثم فى تطور لاحق تنشئ منظومة التعليم ما قبل الجامعى، المعاهد الأزهرية، ابتدائى وإعدادى وثانوى، وتمتد بطول مصر وعرضها، وهى قاصرة على المسلمين فقط، وبالتوازى تتأسس إذاعة القرآن الكريم، ليصبح لدينا تعليماً إسلامياً وإعلاماً إسلامياً، ليبدأ مشوار طويل من التأسيس للدولة الدينية.

ـ الرئيس المؤمن والبابا السياسى

يرحل عبدالناصر فى مطلع سبعينيات القرن العشرين، يخلفه الرئيس السادات الذى لم يجد لقدمه موقعاً فى المشهد السياسى والمجتمعى الذى كان محتشدا بحضور عبدالناصر حتى بعد رحيله، وكانت البلاد مثخنة بجراح هزيمة يونيو ٦٧، وكانت الصدمة مزدوجة، ما بين الرحيل والهزيمة، فيتفتق ذهن الرئيس الجديد عن فكرة تفسح له مكاناً، فى لحظة مرتبكة، تقوم على إزاحة الأيديولوجية القائمة بأيديولوجية بديلة، فكان أن أعاد إحياء الخلايا الراديكالية الإسلامية النائمة، وأطلق سراح قيادات الإخوان والجماعات التى خرجت منها وانبثقت عنها من السجون، وأعادهم إلى مواقعهم، وأطلق يدهم، وفكرهم، فى الجامعات مع حظر الأنشطة السياسية الأخرى فى الجامعات، ويعلن بغير مواربة أنه رئيس مسلم لدولة إسلامية، لتشهد مصر تحولاً دراماتيكياً فى استهداف النسيج الوطنى والسلام المجتمعى، بدأت إرهاصاته قبل مضى سنة على تولية المسئولية. فى أحداث الخانكة التى دشنت طريق الأعمال الإرهابية.

من اللافت أن يأتى السادات إلى الحكم عقب رحيل عبدالناصر فى ٢٨ سبتمبر ١٩٧٠، ويأتى البابا شنودة إلى قيادة الكنيسة عقب رحيل البابا كيرلس فى ٩ مارس ١٩٧١، وفيما يعلن الرئيس توجهه الدينى ويصبح الرئيس المؤمن، يجد البابا الجديد نفسه أمام مأزق دفعه لأن يستدعى كل خبراته السياسية التى تشكلت فى بواكير شبابه فى أروقة حزب الكتلة الوفدية وبالقرب من المجاهد الأكبر، كما كانت تلقبه الأوساط السياسية، مكرم عبيد، ويستدعى خبراته فى معاركه اللاحقة مع قيادة الكنيسة والتى سجلتها مجلة مدارس الأحد محرراً ورئيس تحرير (١٩٤٧ ـ ١٩٥٤) وخبراته فى أروقة الدير ثم فى أسقفية التعليم والتى سجلتها مجلة الكرازة فى إصدارها الأول، لتدور رحى المواجهة غير التكافئة بين الرئيس «المؤمن» والبابا «السياسى” والتى تنتهى بصدام مدو فى ٥ سبتمبر ١٩٨٠، بقرار الرئيس اعتقال البابا، ثم لا يلبث الرئيس أن يرحل اغتيالاً فى ٦ أكتوبر من نفس العام.

لم يسدل الستار بل يبدأ فصلاً جديداً بمجيء مبارك إلى الحكم وبقاء البابا خلف أسور الدير محل اعتقاله، ولا يعود إلى كرسيه إلا فى ٦ يناير ١٩٨٥، ويبدو أنها كانت عودة مشروطة، انعكست على أداء البابا الذى تخلى عن منهج المواجهة الحادة، بعد أن ذاق تداعياتها لسنوات.

حتى إلى أحداث ٢٥ يناير والتى أصدر فيها بيانا يدعو الشباب القبطى إلى عدم المشاركة فى القلاقل، وبالتوازى كانت مؤسسة الأزهر تدعو شباب المسلمين إلى عدم الخروج على الحاكم، ثم فى مرحلة لاحقة تعود المؤسسات وقد تيقنت من سقوط النظام إلى مباركة خروج الشباب.

ربما هنا نستعيد رؤية القديس بولا الذى لم يبرح كهفه بجبال البحر الأحمر والتى أشرنا إليها، إن الكنيسة ليست لاعباً سياسياً وليست طرفاً فى نزاع بين خصوم، وقوتها حين تسترد «وعيها» برسالتها المكلفة والمحملة بها من مؤسسها الرب يسوع، إن تكرز بالخلاص والتوبة وبناء الإنسان الجديد بحسب المسيح.

وربما نحتاج لمراجعة المطالبات العديدة التى تنتقد الكنيسة وتتهمها بالتقصير لأنها لم تدافع عن حقوق «الأقباط» ولم تندد بما يحيق بهم من جرائم واستهداف، بأن ندرك أن حقوق الأقباط ليست مسئولية الكنيسة بل مسئولية الدولة الوطنية، حتى لا نقع فى تناقض المطالبة بالدولة المدنية فى نفس الوقت الذى نطالب بدور سياسى للكنيسة.

إن الطريق إلى حقوق الأقباط يأتى من خلال مؤسسات الدولة والشارع السياسى، وثلاثية الحكومة والبرلمان والقضاء، ولا طريق آخر أمامنا سوى اقتحام العمل العام بجسارة ودون تردد، فالحقوق لا توهب ولا تمنح، لماذا لا نخطو خطوات جادة على الأرض لتشكيل أحزاب حقيقية تعبر عن مصالحنا كمواطنين مصريين لا على أرضية دينية، ونسعى لتحقيقها دون مواربة، ولماذا لا نتوقف عن جلد الذات وخلق شماعة نعلق عليها تخاذلنا. دعونا نطالب بقوة بالرئيس السياسى والبابا الروحى لتصحيح عوار امتد لعقود.

ـ صدمة التواصل واحتضار الخلافة: صدمة الغرب مع الثورة الصناعية تتجدد شرقاً مع ثورة المعلومات

يبقى أن المتغيرات التى تفرض نفسها على الكون، والمتمثلة فى ثورة الاتصالات وشيوع المعلومات وعولمة المعرفة، كما أشرنا قبلاً، تمثل صدمة حضارية لمجتمعاتنا التقليدية، وتفسر فى جزء منها حالات الهياج والغضب التى تترجم فى بعضها فى الإرهاب، لكنها حتما ستنتهى إلى غلبة تيارات التنوير، ولن يمضى وقت طويل حتى تسقط كل دعاوى التخلف وتندثر كل موجات إحياء حلم الخلافة المفارق للزمن، وهو ما عبر عنه القول المختبر أن أشد ساعات الليل حلكة تلك التى تسبق الفجر. الأقباط باقون أبدا والوطن أيضاَ.