الخميس 13 يونيو 2024

من البيت إلى دير الأنبا صموئيل.. إلى مثواهما الأخير: حكاية جرجس وكيرلس

31-5-2017 | 13:04

المنيا: محمود أيوب

لم يتوقع أحد فى هذه القرية الهادئة أنهم سيستيقظون يوما على الموت ورائحة الدم، الناس هناك مسالمون بطبعهم، مسلمون ومسيحيون لا تفرق بينهم عقيدة أو دين.

فى الساعة الحادية عشرة صباحًا، استيقظ أهل قرية الشيخ زياد التابعة لمركز مغاغة بمحافظة المنيا على صريخ هنا وهناك، لا أحد يعرف ما هو السبب وراء هذا الصراخ الذى ملأ كل أرجاء القرية، بعضهم يقول: “داعش على الطريق الصحراوى” لم يصدقهم أحد، زاد الصريخ، ومع انتشار الأخبار تأكدوا بأن مجموعة من الإرهابيين، التابعين لداعش نفذوا عملية إرهابية على الطريق الصحراوى القريب من مركز العدوة.

هنا أهل القرية لم يعرفوا أن شبانا من منهم راحوا ضحية العمل الإرهابي، لكنهم سارعوا، مسلمون وأقباط، رجال ونساء، شباب وفتيات، بالذهاب إلى المسشفيات للتبرع بالدم بعد أن علت أصوات ميكرفونات مساجد القرية تنادى: “يا أهل القرية عليكم بالذهب إلى مستشفيات مغاغة والعدوة للتبرع بالدم لأخواتكم”؛ وجاءت الصدمة بعد أن علم أهل القرية بأن الشابين الشقيقين جرجس وكيرلس فقدا فى حادث دير الأنبا صموئيل، الذى راح ضحيته أكثر من ٤٥ شهيدا، ومصابا.

“المصور” رصدت رحلة جرجس وكيرلس من منزلهم إلى دير الأنباء صموئيل، ثم الموت، جلسنا مع والدهما محروس جرجس فى سرادق العزاء، لم يستطع أن يتحدث إلا كلمات قليلة بسبب تدهور حالته الصحية، قال وعيناه تنظر إلى الأرض: كنا نائمين فى البيت بعد ما تعشينا مع بعض، وصبح الصباح على الساعة ٧ لبسوا ملابسهما، ونزلوا، كانوا صائمين، رايحين القداس اللى فى دير الأنبا صموئيل.. الحمد الله على كل اللى يجيبه ربنا”.

هنا توقف والدهم عن الحديث، وأكمل بدلًا منه عيد أبو فارس، واحد من أقارب الشهيدين، وبينما نحن فى سرادق العزاء، قال بلغته البسيطة: “الحادث كان يوم الجمعة، ومكنش فى شغل، ووالدهم نائم فى البيت، وليس مهتما بوسائل الاتصال أو الإنترنت، واحد صديقه قريب منه قرأ الخبر على النت، فتصل به وقال له: “يا أستاذ محروس أولادك مصابين”، ولم يستطع أن يفاجئه بالخبر الأليم، وطلب منه الذهاب إلى مستشفى مغاغة العام للاطمئنان عليهما، وبعد أن علم بالخبر اتصل علينا وذهبنا إلى المستشفى، وقبل أن نذهب كان فى اعتقاده أن أولاده مصابون إصابات كبيرة وبحاجة إلى نقل دم، وطلب منا تجميع بقية العائلة والشباب للتبرع بالدم، ليس فقط لأولاده، ولكن لمن بحاجة إلى دم من باقى المصابين”.

وتابع أبو فارس حديثه بالقول: “ذهبنا معه لمستشفى مغاغة العام، وهناك اتصدم والدهما عندما علم بالخبر أن أولاده ماتوا”.. مضيفًا: “جرجس كان فى مستشفى مغاغة لوحده ولم يكن أحد يعرفه لأنه كان مجهول الهوية، لأن بطاقته لم تكن معه، أخذها الإرهابيون ومعها التليفون، لكن أنا من استطعت أن أتعرف عليه، ووقعت على ذلك أمام رئيس النيابة بعد أن تأكد من صلة القرابة بيننا، وحصل رئيس النيابة على رقم تليفونى وبطاقة هويتي”.

ويكمل: “أما كيرلس فكانت بطاقته معه، لكنه كان فى مستشفى العدوة، وهى تبعد عن مستشفى مغاغة العام، جزء منا ذهب إلى العدوة، والجزء الآخر بقى مع جرجس لحين استخراج جثمانه ودفنه، وطبعًا أهل الخير والقرية كلها مسلمين ومسحيين كلهم كانوا معانا، ومسلمون قبل المسيحيين خرجوا بعربياتهم للتبرع بالدم، واللى معندوش عربية كان بياخد عربية لحسابه، ومنهم من ذهب إلى مستشفى مغاغة وبعضهم ذهب إلى مستشفى العدوة، إلى أن خرج تصريح الدفن للجثامين، وبالاتصالات التليفونية أخذنا الاتنين مع بعض من المستشفيات، وذهبنا بهما إلى مطرانية مغاغة، وصلينا على الجثامين وبعدها دفناهم”.

وعن جرجس قال: “جرجس حاصل على بكالوريوس تجارة من مواليد ١٩٩٢، وأدى الخدمة العسكرية فى حرس حدود السواحل لمدة عام، وبعد أن انتهى من الجيش عمل لفترة فى شركة بمدينة ٦ أكتوبر بالقاهرة، وظل بها من ٦ إلى ٨ أشهر، بعدها عاد إلى مركز مغاغة للبحث عن عمل آخر، لأنه خاطب أكثر من سنة، وكان بيجهز فى شقته علشان كان هيتجوز بعد شهر”.

وتابع حديثه قائلًا: “كيرلس كان فى الصف الثالث الثانوي، امتحن ثلاث مواد العام الماضى وحصل على ٩٩.٣ ٪ وكان قد أرجأ مادتين كان من المفترض أن يمتحنهما يوم ٤ يونيه الموافق يوم الأحد من الأسبوع المقبل، لكن لم يحدث نصيب، وربنا اختاره وامتحنه فى السماء”.. مضيفًا: “سبحان الله، كيرلس من ١٥ يوما كان حاسس أن ده هيحصل، لأنه انقطع عن المذاكرة، وكأنه حاسس أنه مش هيدخل الامتحان، وكان بيقول لولده ووالدته “أنا مش هدخل الامتحان السنة دى”، واليوم اللى حصل فيه الواقعة، أخوه جرجس كان واخده الدير لأن الدير فى رهبان بركة، علشان يصلى ويقرأ عليه، ولو فى حد نفسيته تعبانه من حاجه زى الامتحانات، الرهبان عندهم خلفية من حاجة زى دى بيقعدوا معه ويقنعه بدخول الامتحان”.

وعن يوم الحادث قال أبو فارس: “جرجس وكيرلس لم يكونا منسقين مع أتوبيس بنى سويف، وكانا فى طريقهما إلى الدير بمفردهما بعلم والدهما، لأنهما اعتادا الذهاب إلى الدير عن طريق المواصلات، فيقوموا بالركوب من مركز مغاغة للعدوة، ومن هناك بيحصلوا على سيارة مخصوص تصل بهم حتى بداية الطريق الصحراوى المؤدى إلى دير الأنبا صموئيل، وهناك انتظروا إلى أن تأتى سيارة تكون ذاهبة إلى هناك، سواء كانت عربية تابعة لرحلة، أو راهبا معه سيارة اتنين كابينه، أو يكون بعض الأهالى فى طريقهم إلى الدير للتبرع، سواء بأدوات بناء، أو أكل أو شرب، وللأسف تصادفوا بالركوب مع الأتوبيس القادم من الفشن”.

واختتم أبو فارس حديثه عن الدير قائلًا: “عيد قال إن الطريق المؤدى إلى دير الأنبا صموئيل غير مؤمن تمامًا، وليس به أكمنة أو أى إنارة فى الطريق أو وحدة للإسعاف، فطريق الدير ٢٥ كليو من الطريق الصحراوى إلى باب الدير، وبعد ١٠ كيلو من الطريق الصحراوى لا توجد أية وسائل اتصال”.

مضيفًا: “مفيش غير الرهبان هما اللى بيتواصلوا مع بعض باللاسلكى داخل الدير، لكن خارج الدير لا أحد يعرف شيئا، بالإضافة إلى أنه لم يفكر أحد برصف الطريق المؤدى إلى الدير، أو عمل شبكة محمول للتواصل مع الآخرين، وهو أمر يثير الدهشة.

واستطرد: “صحيح أنهم رهبان، ومعنى كلمة راهب أنه هرب من العالم للتعبد إلى الله فلا يريد أى شيء يشغله عن التعبد، لكن ليس معنى هذا ألا يوجد نقطة تفتيش أمنية، والطريق غير مرصوف وليس به أعمدة إنارة”.