بقلم : نجوان عبداللطيف

فى الميدان كان يأتى دائما يتحولق حوله الشباب الابتسامة لا تفارق وجهه، يغدق على الشباب من مشاعره الفياضة يحتضنهم بعينيه وبكلمات تشجيع، كان يقول لهم هذه ثورتكم لا تفرطوا فيها، وعندما دعا نظام مبارك بعض ممثلى القوى السياسية للتفاوض، قال لا تفاوض على أهداف الثورة وأولها رحيل مبارك اليوم وليس غدًا، لاتغادروا الميدان حتى تتحقق أهدافكم. هو الشاعر الجميل البديع شاعر الناس الطيبين سيد حجاب.. كانت فرحته بالثورة وبالشباب لاحدود لها، وكان يقول الكلمة كلمتهم هم اللى عملوا الثورة وإحنا مشينا وراهم هم إللى صحوا مصر..

وعندما جاء قرينه وتوأم روحه الموسيقار البديع عمار الشريعى إلى الميدان أصيب الميدان بالجنون.. والتفت الجماهير حول عمار الشريعى حتى أصيب بالاختناق ولم يحتمل قلبه العليل فأصيب بأزمة وتم نقله إلى مبنى الجامعة العربية لإسعافه.. ما أجمل التوأم عمار وحجاب كل منهما غرد وحده أحيانًا، ولكن هناك شيئا خاصا جدًا عندما تلتقى كلمات حجاب مع ألحان عمار حالة فريدة من التناغم والفهم والتحليق والحلم بعالم أفضل للوطن الحاضر، وبقوة فى أى غنوة تجمعهما أوتتر مسلسل سواء بصيغة مباشرة أوغير مباشرة هما شطرا البرتقالة كما قال عنهما الناقد الكبير الراحل رجاء النقاش مثل الشاعرين الفلسطينين الكبار الراحلين محمود درويش وسميح القاسم.. قال إن سيد حجاب بن قرية محافظة الدقهلية، التى يشتغل أهلها بالصيد تعلم منهم كيف يغزل المشاعر الإنسانية بشعره ويضفرها ببعضها البعض كشباك الصيد، ويصطاد بها قلوب قرائه ومستمعيه.. وعمار الذى حرم من نعمة البصر يغوص فى شعر حجاب ليخلق مع كلماته عالم متخيل بعيدا عن الماديات هو عالم من المشاعر والفلسفة.. حب وعشق وغضب وثورة و..

سيد حجاب المسكون بحب الوطن منذ صغره، الذى كتب أول قصائده وهو فى الحادية عشرة من عمره عن الطالب الصغير نبيل منصور، الذى استشهد برصاص جنود الاحتلال البريطانى فى إحدى المظاهرات، التى تندد بالاستعمار فى بور سعيد.

منذ هذا الزمان أدرك حجاب أن شعره من الناس وللناس عندما قال له معلم الرسم فى مدرسته الابتدائية المثقف الذى آمن بموهبته: لاتكتب عن مشاعرك، ولكن أنقل مشاعر الصيادين، الذين تعيش وسطهم سيقدمون لك عشرات الحكاوى وفيض من المشاعر.

كان ارتباط سيد حجاب بالناس هو الذى جعله ينتقل من الفصحى إلى العامية، وكان محظوظًا لأنه من هذا الجيل المسمى بجيل الستينيات، حيث انتعاش الحياة الثقافية بكل مناحيها شعر وأدب ومسرح وسينما وغناء وموسيقى، ذات يوم أخذه الشاعر الجميل فؤاد قاعود إلى منزل الموسيقار سليمان جميل شقيق المطربة فايدة كامل، وكان صلاح جاهين النجم المتلألئ فى عالم شعر العامية والكثير من الفنون حاضرًا، واستمع لقصيدة لحجاب فقام مهرولا يحتضن سيد حجاب ويقول لفؤاد قاعود” زيدنا واحد يافؤاد”.ونشر لحجاب قصيدة فى الباب الذى يقدمه فى مجلة صباح الخير” شاعر أعجبنى “وقال تذكروا هذا الاسم جيدا سيكون له شأن كبير فى عالم الشعر.

ثم صدر له فى منتصف الستينيات ديوانه الأول” صياد وجنية “ الذى احتفى به النقاد كثيرًا وتوالت دواوينه على مدى السنين منها “العتمة “و”نص الطريق»

وقال سيد حجاب إنه اتجه للأغنية كى يصل إلى الناس اللى بيكتب عنهم، وإن أغنيته” ياما زقزق القمرى على شجر الليمون “التى غناها ماهر العطار إنتشرت بصورة مذهلة جعلته يمضى فى كتابة الشعر الغنائي.

سيد حجاب الشاعر المثقف المهموم بوطنه مثله مثل كثيرين من شعراء هذا الزمان انخرط فى السياسة وتنقل بين الحركات السياسية فى صباه وشبابه من الإخوان المسلمين إلى مصر الفتاة ثم الحركات الشيوعية ومجموعة الشباب الشيوعيين الذين رفضوا الصلح بين نظام عبد الناصر -رغم حبه له – والشيوعيين الكبار، لأنهم رافضون لسياسة الحزب الواحد ويريدون الديمقراطية وتعدد الأحزاب، ومن ثم ألقى القبض عليهم عام ٦٦ هو والأبنودى والغيطانى وصلاح عيسى وغيرهم وقضوا ٥ أشهر فى السجن، وأفرج عنهم بعد تدخل الكاتب الفرنسى العالمى جان بول سارتر الذى اشترط الإفراج عنهم حتى يأتى فى زيارة لمصر.

حجاب كان يحتفظ لنفسه بمسافة بعيدا عن السلطة ولم يضبط يوما منافقًا أو متذلفا لها وكانت كلماته دائمًا تمثل انتقادًا للسلطة سواء بشكل مباشر أوغير مباشر، حتى تترات المسلسلات التى استطاع مع عمار الشريعى أن يحدثا نقلة نوعية فيها لتصبح جزءا من الدراما يحمل فلسفة ما وراء العمل، من البدايات فى تتر” أبنائى الأعزاء وشكرًا”، ثم مسلسل الأيام عن حياة طه حسين، الذى كان حجاب مبهورًا به وبصلابته فى مواجهة محنته الشخصية ثم فى مواجهته لتسلط وجمود مؤسسة الأزهر ثم فى معركته فى كتابه الشعر الجاهلى، وعكف على كتابة أغانى المسلسل، التى هى جزء منه لا يكتمل إلا به، والتى غناها الرائع على الحجار القاسم المشترك مع حجاب وعمار فى معظم التترات.

يقول حجاب:

من عتمة الليل النهار راجع.. ومهما طال الليل بييجى نهار

مهما تكون فيه عتمة ومواجع

العتمة سور ييجى النهار تنهار.. وضهرنا ينْجام

وكان حجاب معارضًا لاتفاقية السلام مع الكيان الإسرائيلى، وقال فى حديث له مؤخرًا إن الشعر فى مصر ظل داخل خندق المقاومة منذ التطبيع، وكانت بدايته مع قصيدة لا تصالح لأمل دنقل، وتواصلت بعد ذلك إبداعات المثقفين المعارضين للأنظمة الثلاثة السابقة فى إبداعات عديدة سواء بالغناء والقصة القصيرة والشعر وغيرها، وهو ما صب فى النهاية لصالح ٢٥ يناير، وأنا فى عام ٢٠٠٩ أصدرت ديوان قبل الطوفان الجاى، وكان سباحة ضد التيار الغالب فى هذا التوقيت واعتبرته نوعًا من البشارة أو الحلم بما بدأ الشعب المصرى يحققه فى ٢٥ يناير.

قال حجاب فى هذا الديوان الجرىء، الذى صدر أثناء حكم المخلوع مبارك.

كل اللى لابدين فوقنا ومأبدين/ ياللى إنتو مش منا ولا إنتو أصحاب فضل ولا منة

بس إنتو حاكمينا وشاكمينا وظالمينا// بالجهل والعجرفة وآيات كتب دموية متحرفة فيها عشرميت إنّ ومآلمينا/ ياعقول قديمة خالية م المعرفة/ يا عيون لئيمة فى الكدر والصفا ياديول خيول منفوشة متزخرفة حقيقتها باينة لكل مين له عينين! ح تعملوا إزاى فى الطوفان الجاي؟ ح تهربو لفين منه يا غفلانين؟ لا ليكو حجة.. ولا الزمان نساي؟ ولا إنتو شايفين الطوفان جاى منين

وفى مقطع آخر يقول حجاب:

تلاتين سنة.. وأنتو على زُحلفة!

من خيبة لمصيبة.. ومن عار لعار

بإرادة نية.. ونِية متكتفة..

بتدفعونا تمن سلامكو اللى اتولد فى الحرام

يا أجبن الحكام..

ياغرقانين فى طين جهالة وعطن..

مفيش سلام بين بندقانى وحمام..

والديب مازال ديب مهما غنى ورطن..

يا أجهل الأصنام

يامهرولين بره التاريخ والزمن

الاستيطان.. عمره مايبقى وطن

ماحصلش مرة أمر واقع ودام

واللى جرى لمانديلا درس وعلام

العودة حق.. مايتقايضش بتمن

والقدس عاصمة شعبها المؤتمن

وسلامنا جاى جاى رغم أى كلام

وأى ضلام

وكأنه شمس الحق شق الغمام

واصحوا بقى للكلام: غزة فى حصار..

الإنسانية فى خطر

وبينفلت من بين إيديكو الزمام

سلامك الموؤد فى مهده انقبر

وشعوبنا طلاب حق طلاب سلام

ومع الجميع.. إلا وحوش التتار

وسلامكم استسلام

وبرغم ضمانات عمكو”العم سام”

سلامكم ابن الحرام لاكان ولا حيكون ولا له أثر

ياللى اتعميتوا جشع.. وجبن.. وبطر

جاه لكوا.. ومن جهلكوا

لانجاة لكوا.. إن جه لكوا

طوفان يشيل ويزيل

ماعادش ينفعكوا لا تجهيل ولا تجميل

وماعادش فى إيديكو ولا تسوية ولا تسويف

جاى الطوفان

جاى واللى بعده مخيف

ربما من نعم الله على سيد حجاب أن مد فى عمره ليرى ثورة ٢٥ يناير وتتحقق نبوءته وحلمه، والذى وقف مدافعًا عن أهدافها وشبابها تارة حين هاجم المجلس العسكرى عندما رآه قد انحرف عن طريق الثورة وتباطأ فى تنفيذ مطالبها.

وحين كان فى طليعة المثقفين الذين وقفوا فى وجه حكم الإخوان الذين حاولوا تغيير هوية مصر.. قال حجاب فى ٢٣ يونيه ٢٠١٣ لقصة مش دين وشريعة ولا عركة بين سنة وشيعة / لا: ثورة على عار وخديعة ومصر مش شروة وبيعة.. وقبلها فى مايو كتب على صفحته فى موقع التواصل الاجتماعى الفيس بوك: وبص بص شوف.. شوف الناس والظروف.

يمكن تلقى الديابة لابسة فروة خروف

حجاب انسحب من جلسة لجنة الخمسين التى كتبت دستور ٢٠١٤ وهوصاحب الديباجة

التى أشادت بثورة ٢٥ يناير وثوارها وشهدائها

احتجاجا على القبض على المتظاهرين أمام مجلس الشورى احتجاجًا على تضمين الدستور محاكمة المدنيين أمام المحاكم العسكرية، وهاجم قانون التظاهر الصادر فى هذا الوقت، وقال عنه قانون منع التظاهر.

وفى أيامه الأخيرة كان حزينًا لأن أهداف ٢٥ يناير مازالت حلمًا وأبنائها بعضهم فى السجون، وهاجم فى عدة أحاديث له عودة نظام مبارك بشخوصه ورجاله، ولكنه كان لا يزال مراهنًا على الشعب المصرى.

قال”إن المصرى الذى أسقط منظومة القيم القديمة، التى كانت سائدة قبل ٢٥ يناير أرسى دعائم ثقافة جديدة تقوم على العقل والحرية والمواطنة والعدل الاجتماعى واحترام حقوق الإنسان، قادر على فرض ثقافته وإبداعاته.

وقال “أنا لا أعول إلا على يقظة الشعب المصرى وقدرته الفائقة على الفرز والانتقاء، وأظن أن الجماهير الآن تسبق النخب وعلى النخب أن تتخذ مواقف بناءً على إرادة هذه الجماهير من يفلح فى هذا سوف يكون له نصيب من المستقبل أما من سيحاول لعب دور الوصى والأب الكبير الجميع فسيرفضه الجميع.

وكانت آخر رسائل سيد حجاب للمسؤولين «أهلك يا تهلك.. ده إنت بالناس تكون».

رحل سيد حجاب الذى ذاب شعرًا فى معشوقته ولم ينحن لجاه أو سلطان: يقول فى قصيدته “حبيبتى من ضفايرها طل القمر “

يا حلوة يا بلدنا يا نيل سلسبيل

بُحبك انت رفعنا راسنا لفوق

لو الزمن ليِّل ما يرهبنا ليل

شوقنا فى عروقنا يصحى شمس الشروق

للحلوة قلب كبير يضم الولاد

وزاد وزوادة وضلة وسبيل

الموت والاستشهاد عشانها ميلاد

وكلنا عشاق ترابها النبيل