عادة تكون لحظات الانتقال والتحول بالنسبة إلى بعض الدول والمجتمعات مصحوبة بحالة من الفوضى، وقد تبدو الدولة هشّة والمجتمع منهكًا، خاصة إذا كان التحول عنيفًا، رأينا ذلك فى العديد من الدول، لعل أبرزها ما جرى فى روسيا بعد انهيار الاتحاد السوفييتى سنة 1990، وما جرى فى العراق بعد سنة 2003، وما جرى فى ليبيا بعد سنة 2011، وما يجرى فى السودان منذ سنة 2019، والآن ما يجرى فى سوريا الشقيقة، وما جرى فى محافظة اللاذقية ومنطقة الساحل منذ مساء الخميس الماضى بات معروفًا للجميع فى المنطقة كلها وحول العالم.
حينما تسلمت الإدارة الجديدة مهامها فى سوريا منذ يوم الأحد 8 ديسمبر الماضى بدا أن هناك حرصا على عدم الدخول فى عمليات ثأر أو انتقام، وأعلنت مصر فى بيان أصدرته وزارة الخارجية عن اهتمامها بأن تكون هناك عملية سياسية فى سوريا تضمن سلامة البلاد واستمرار وحدة الدولة وعدم تقسيمها، وعدم إقصاء أى فصيل أو مجموعة من السكان، وأن المهم هو سلامة السوريين وحمايتهم والحفاظ على سوريا، كان البيان مكتوبًا بماء من الذهب. بعض المتشنجين هنا وهناك لم يعجبهم البيان حين صدر، ذلك أن أدعياء الثورية عادة يُصابون بمرض الطفولة اليسارية، لكن ما يجرى فى سوريا يؤكد بُعد نظر الدولة المصرية.
من السهل أن يسقط نظام أو يرحل حاكم، يمكن أن يحدث ذلك تلقائيا فى بعض الحالات، لكن الصعب هو إقامة نظام بديل، يتلافى سلبيات وأخطاء مَن سبق ورحل، خاصة إذا ترك البلد مشتعلًا بمسائل اقتصادية وسياسية واجتماعية.
سوريا مجتمع أقرب إلى الفسيفساء الدينية والمذهبية، منطقة الساحل تقطنها أغلبية من “العلويين”، اللاذقية بها نسبة كبيرة من المسيحيين، وهناك قرى بها أغلبية من “الإسماعيلية” إحدى طوائف الشيعة، محافظة السويداء بها أغلبية من “الدروز”، وجود هذا التنوع السكانى والمذهبى الضخم فى الأوقات العادية يكون مصدر زخم وثراء وتعدد أو تنوع ثقافى يضيف إلى المجتمع قوة، شريطة وجود دولة وطنية مدنية بحق، أى تعلى المواطنة بين الجميع وتسود المدنية فلا تجعل لفئة أو طائفة وصاية على فئة أخرى، ولا يتم تهميش طائفة بعينها، بل يصبح الجميع سواسية فى الدولة بلا إقصاء أو تهميش، يتم ذلك كله فى ظل القانون.
النظام السابق كان محسوبا على العلويين، لأن آل الأسد علويون، لكن المؤكد أن العلويين كان بينهم مَن عارض ذلك النظام، ولذا حين سقط النظام لم يبكوه ولم يساندوه فى لحظات السقوط، وبقى أن يعترف لهم الجميع أنهم ليسوا النظام السابق، ولا يُحمّلوا هم فاتورته وأوزاره.. لذا كانوا وما زالوا بحاجة إلى مَن يطمئنهم، صحيح أن الرئيس السورى أحمد الشرع أعلن مرارًا أنه لا نية لإقصاء أحد، والتقى رموز العلويين وطمأنهم، لكن المهم أن يكون الجميع هناك - داخل الإدارة - على هذا المستوى من الانفتاح والفهم والتسامح، خاصة عند مستوى التعامل المباشر بين عموم المواطنين ورجال الإدارة الجديدة.. وقد اعترفت وزارة الإعلام السورية فى بيان أن هناك بعض التجاوزات حدثت، هذا متوقع فى المرحلة الانتقالية والظروف الحرجة.
فى السويداء، حيث الدروز الأمر مختلف وجد خطير، الدروز العرب معروف عنهم ميولهم العروبية، حاربوا قديما إلى جوار صلاح الدين الأيوبى فى معركة “حطين” وتحرير القدس، وفى سوريا نذكر سلطان باشا الأطرش والد الفنان فريد الأطرش الذى كان عروبيًّا قلبًا وقالبًا.. هناك المجدد والمفكر والعالم شكيب أرسلان صديق الشيخ محمد عبده مفتى الديار المصرية الدروز غيروا اسم الجبل، بدلاً من «جبل الدروز» «ليصبح اسمه «جبل العرب».
الدروز كانوا ومازالوا موضع استهداف إسرائيل، من اللحظة الأولى لسقوط بشار أعلن بنيامين نتنياهو أن الجيش الإسرائيلى سوف يتدخل لحماية الدروز فى سوريا، لكن عموم الطائفة أصدرت بيانًا تعلن فيه تمسكها بالانتماء السورى والعربى والتمسك بوحدة سوريا والعمل فى إطار الدولة السورية، لكن تبين أن إسرائيل عبر السنوات الماضية أمكن لها تجنيد بعض العملاء، كانت تمولهم بالمال من أيام نظام «البعث»، هؤلاء فجأة أعلنوا بيانا بمطالبة الدولة السورية بضرورة التطبيع مع إسرائيل، أحدهم رفع العلم الإسرائيلى على مقر رسمى بإحدى البلدات على الحدود، هذه المطالبة تأتى فى ظل توغل إسرائيلى فى بعض القرى المجاورة بمحافظة القنيطرة وتجاوز خطوط وقف إطلاق النار مع سوريا المستقرة منذ حرب أكتوبر 1973، هذه الخطوط تم الاتفاق عليها سنة 1974، أى قبل أكثر من نصف قرن، لاحظ كذلك أن هذا المطلب يأتى دون ذكر للجولان المحتلة، وهى أراضٍ سورية تم احتلالها سنة 1967، وقررت إسرائيل ضمها إليها، رغم كل القرارات الدولية التى تطالبها بالانسحاب.
ربما راودت إسرائيل فكرة أن تجرب مع دروز سوريا ما قامت به مع دروز فلسطين، الذين قبلوا الحصول على الجنسية الإسرائيلية والتجنيد الإجبارى فى الجيش الإسرائيلى، لكن الوضع فى فلسطين كان مختلفا، الدروز هناك كانوا فى قرى بالبادية والجبل معزولين عن كل شيء، الجماعات الصهيونية رمت شباك الخدمات عليهم منذ ثورة سنة 1936، المؤرخ الفلسطينى د. قيس فرو درس هذه التجربة فى كتابه المهم «دروز فى زمن الغفلة.. من المحراث الفلسطينى إلى البندقية الإسرائيلية»، المؤرخ المتميز اعتمد على الأرشيف الإسرائيلى، وقدم الكثير من المعلومات عما قامت به المخابرات الإسرائيلية تجاه دروز فلسطين، ومن المهم أن ندرس هذه التجربة جيدًا، حتى لا تتكرر مرة أخرى، خاصة بالنسبة للمناطق الحدودية، حدث سنة 1982 أن شكّلت إسرائيل ميليشيا “سعد حداد” فى بيروت، تتبع المخابرات وجيش الدفاع الإسرائيلى، ومع اجتياح بيروت سنة 82 ظهرت تلك الميليشيات إلى جوار الاحتلال، وبعد فشل الاجتياح وخروج الجيش الإسرائيلى من بيروت اختفت تلك الميليشيات، هرب بعضهم إلى إسرائيل، لفظهم المجتمع فى لبنان وفى عالمنا العربى كله.
حتى الآن تتمسك قيادات الدروز بعروبتها، لكن محاولات الاختراق والغواية الإسرائيلية لن تتوقف من باب الضغط على الإدارة الجديدة للدخول معها فى مفاوضات، ولتكون مبررا للتدخل، ولتتوغل فى المناطق السورية، خاصة أن منطقة جبل الشيخ فى سوريا وقد دخلتها إسرائيل تجعلها على بُعد دقائق من دمشق، وتجعلها كذلك قريبة من الحدود اللبنانية.
ليست هذه كل المخاطر التى تحيط بسوريا، هناك مجموعات داعش التى سبق لها أن سيطرت على عدة مناطق حدودية، خاصة تلك القريبة من الموصل، وما زال لهم تواجد هناك، صحيح أن التنظيم ضعف، لكن ما زالت عناصره الإرهابية موجودة.. وهناك المضارون من سقوط النظام السابق، أصحاب المصالح الكبرى، ناهيك عن التواجد الأجنبى الذى تزايد فى سوريا وعلى أراضيها منذ سنة 2011، باختصار موقع سوريا حساس، بالنسبة إلى تركيا والعراق وإسرائيل ولبنان.. هذا التداخل الشديد، يقتضى وجود دولة قوية متماسكة.
الإدارة السورية وجهت أصابع الاتهام إلى أطراف أجنبية، وإلى فلول النظام السابق، من جانب آخر أشار المرصد السورى لحقوق الإنسان إلى وجود تجاوزات ذات طابع طائفى ومذهبى، لدى بعض الأطراف الفاعلة الآن فى سوريا، بعض المعلقين ذهبوا إلى أنه ربما كان هناك فى الإدارة من يريد إحراج الرئيس الشرع لانفتاحه على العالم العربى، خاصة بعد زيارته للقاهرة وحضور مؤتمر القمة العربية.. أياً كانت الأسباب والدوافع سوريا فى لحظة تحول وتحتاج مساندة عربية.
الخلافات السياسية يمكن أن تؤجل ويمكن أن نجد لها حلاً، لكن هدم الدول وضياع الوطن جريمة كاملة، ترقى إلى مستوى “الخيانة العظمى”.
ما جرى مساء الخميس فى الساحل السورى هو بروفة للأزمات التى يمكن أن تنشأ، وتحتاج إلى علاج جذرى، حتى لا يأخذ الأمر طابع الحرب الأهلية والانقسام الوطنى.. لو حدث ذلك –لا قدر الله- سوف يصبح سابقة فى المنطقة، سابقة للتشرذم وللتفتت، وقيام دويلات أو إمارات على أساس طائفى ومذهبى وهناك من يتربصون بدول المنطقة كلها بمشاريع ولايات طائفية وعرقية.
فى لقائه الأسبوع الماضى فى القاهرة بالرئيس السورى أحمد الشرع، أكد الرئيس عبدالفتاح السيسى على ضرورة وحدة سوريا وتماسكها، وحدة التراب والأرض.. الوطن والدولة، وبعد أحداث الخميس أصدرت الخارجية المصرية بيانا مهما صباح الجمعة، أدانت فيه عمليات العنف، وأكدت مساندة الدولة السورية، ورفض الاعتداء على المؤسسات ورجال الدولة، ثم أصدرت الأمانة العامة لجامعة الدول العربية بيانًا مهمًا ظهر السبت، أدان البيان ما أسماه “استهداف قوى الأمن الحكومية والقتل المنفلت، البيان كان دقيقًا وموسعًا، ويعبر عن الدول العربية جميعها.
سوريا، دمشق تحديدا، كانت مركز ومقر الدولة الأموية التى أسسها الصحابى الجليل ورجل الدولة الفذ، معاوية بن أبى سفيان، وتعد فى نظر كثير من المؤرخين والدارسين أول دولة عربية بالمعنى الكامل والمفهوم فى التاريخ الإسلامى والعربى، وطوال العصور الوسطى الإسلامية، كانت مصر والشام جناحى العالم العربى، الذى صدّ وهزم المغول، بعد أن اجتاحوا بغداد، ثم هزموا الصليبيين الذين أرادوا استيطان المنطقة بالكامل.
وفى العصر الحديث انطلقت الثورة العربية الكبرى سنة 1916 من سوريا، هذه الثورة أنهت الهيمنة العثمانية على المنطقة التى دامت أربعمائة سنة، باختصار سوريا لا يمكن ولا يصح لعوامل كثيرة أن تبتعد عن محيطها العربى ولا عن مصر، والحق أن ما قام به نظام الأسد فى سوريا، من محاولة سحبها من المحيط العربى إلى محيط آخر كان خطأ كبيرًا، دفع ثمنه بأن سقط تلقائيا، لفظه الشعب السورى كله.. لم يقبله أحد فى سوريا ولا خارجها.
وحين تقرر انعقاد القمة العربية الطارئة فى القاهرة وجه الرئيس السيسى الدعوة إلى الرئيس السورى أحمد الشرع لحضور القمة، ولما جاء إلى القاهرة استقبله الرئيس ثم اجتمع به، وناقشا علاقة البلدين، وكرر الرئيس السيسى مطلب مصر بالحفاظ على وحدة واستقرار سوريا وعدم إقصاء أحد، وعلق الرئيس الشرع بأن مصر وسوريا جناحا الأمة العربية، هذا كله يعكس وعى مصر العميق بأهمية سوريا لمحيطها العربى، تشاركنا معًا فى حرب 1948 ثم فى حرب 1967 وكذا انتصار سنة 1973، وأثناء العدوان الثلاثى كانت سوريا إلى جانبنا شعبًا ودولة.
القلاقل والمصاعب التى تتعرض لها سوريا تؤكد المعنى الذى يتأكد لنا يوميا، وهو أن الدولة فى عصرنا الحديث لا يمكن إلا أن تكون دولة وطنية/ مدنية/ دستورية، تلك هى تجربتنا فى مصر وتجربة معظم دول العالم، وغير ذلك تنحدر الدولة إلى مستوى الولايات الطائفية والمذهبية، أو العرقية ذات الطابع الشوفينى المتطرف والعنصرى، وذلك ما يفتح الباب واسعًا أمام تجار الأديان والمذاهب ودُعاة الطائفية البغيضة والاستقطاب المريض.. فى هذه الحالة يظهر مشعلو الحرائق والفتن والحروب الأهلية.. خبرة التاريخ أن النيران تلتهم كل شيء وتأكل نفسها فى النهاية، لا يبقى منها سوى حفنة رماد، ولا يصح أن نترك الأوطان والدول نهبًا لهؤلاء.
الدولة الوطنية المدنية كانت هى المنقذ والحل فى مصر فى السنوات العجاف، حتى قامت ثورة 30 يونيو دفاعاً عن هوية الدولة وتمسكاً بالطابع المدنى والوطنى لها، الدولة الوطنية المدنية هى الحل كذلك فى سوريا تحديداً، هذا البلد الذى يضم حوالى 18 أقلية ذات طابع دينى ومذهبى وعرقى لن تلتئم إلا فى وجود الدولة الوطنية - المدنية.. حمى الله مصر وحمى سوريا.

