رئيس مجلس الإدارة

عمــــر أحمــد سامى

رئيس التحرير

عبد اللطيف حامد

قصة المتحف المصرى الكبير(4)عندما تسير الحضارة فوق أنامل الحذر.. معجــــــــــــــــــــــــــــزة نقل آثار مصر


12-6-2025 | 20:35

المتحف المصرى الكبير

طباعة
تقرير تكتبه : أمانى عبد الحميد

حين تتهادى مراكب الشمس الملكية بصمت، أو يمتطى تمثال ملكى مهيب شاحنة محاطة بالأضواء، أو تسير مومياء عبر شوارع القاهرة فى منتصف الليل ، فاعلم أن ما تشاهده هو لحظة تاريخية تجسد فصلاً مثيراً للدهشة من فصول قصص بناء المتحف المصرى الكبير. قصتنا الرابعة تكشف بعضاً من خفايا تلك الرحلة الشاقة البالغة الخطورة والتى تترقبها العيون الساهرة ، وبعضاً من بطولات هؤلاء الذين يبيتون ليلتهم مستيقظين متيقظين. كى ينجحوا فى نقل كنوز الحضارة المصرية القديمة فوق أنامل من الحذر حتى تبلغ مستقرها الأخير بأمان وسلامة داخل المتحف المصرى الكبير.

 

دوما تكون ليلاً حتى طلوع الفجر، ينتظرون خفوت الحركة وسط شوارع القاهرة حتى تبدأ رحلتهم، يسيرون الهوينى على أطراف الحذر حتى يصلوا مستقرهم الأخير داخل قاعات المتحف المصرى الكبير وتلك قصة جديدة من قصص البناء المثيرة والمشوقة والمليئة بالمخاطر والتحديات والصعوبات، لاتختلف كثيراً عن دراما المسرح الملحمي. تتصاعد خلالها الأحداث وتخيم عليها غيوم القلق والتوتر. وعند بلوغ النهاية تشعر القلوب بالارتياح بعد نجاح المهمة الشاقة المستحيلة. بل يمكن وصفها بأنها “الرحلة البطولية” التى يخوضها فريق المتحف المصرى كى يقوموا بنقل القطع الأثرية من جميع أنحاء مصر ومتاحفها ومواقعها الأثرية إلى داخل المتحف المصرى الكبير. ليست رحلة واحدة بل هى آلاف الرحلات التى قامت بنقل أكثر من 100 ألف قطعة أثرية بمختلف أنواعها وأشكالها تماثيل، مومياوات، توابيت، مسلات، من مكان إلى آخر, منها الضخم ومنها الهش, منها الجرانيتى أو الحجرى الذى يفوق وزنه عشرات الأطنان ومنها المصنوع من مواد عضوية قد تتأثر بالاهتزازات أو حتى من نفحات الهواء. بطريقة تتناسب مع حالة كل قطعة ومكوناتها. يقطعون طرقات مصر شمالاً وجنوباً ليؤدوا الأمانة الى مستقرها الأخير. عيونهم وقلوبهم وأدواتهم تحمى تلك الكنوز كى لا تتعرض لمخاطر الكسر أو التدمير. يخوضها فريق محترف وعلمى متعدد التخصصات، يضم أثريين، مرممين، خبراء تصوير ثلاثى الأبعاد، ومهندسين متخصصين فى النقل الهندسى المعقد.

يسيرون ليلا بسرعة لا تتجاوز 7 كم فى الساعة. وسط موكب أمنى وعلمي. الرحلة التى قد تستغرق وقتاً أقل بكثير إذا قام بها أى شخص لكنها شاقة وبالغة الصعوبة على تلك القطع الأثرية عند نقلها من مكان الى آخر. تحتاج إلى ساعات طويلة تسير خلالها الهوينى بسرعة السلحفاة. قد تتوقف خلالها المسيرة لدقائق لالتقاط الأنفاس والاطمئنان على حالتها. الأمر قد يستغرق ساعات الليل كله وبعضاً من ساعات النهار المبكرة. بعض عمليات النقل تتحول إلى رحلة مصورة يطالعها العالم أجمع كما حدث مع رحلة موكب المومياوات الملكية من ميدان التحرير إلى مستقرها داخل المتحف القومى للحضارة المصرية. وبعضها يكون شديد الخطورة أو الحساسية نظراً لكونها قطعاً أثرية فريدة أو مهددة بسبب النقل. كما حدث مع عمليات نقل بعض القطع الفريدة مثل نقل رأس مسلة الملكة «حتشبسوت» المنحوتة من صخور الجرانيت الأحمر، وتحمل ألقاب التتويج الخاصة بها وعليها نقش يصور الإله “آمون” ويبلغ وزنها 14 طناً تقريباً. كذلك نقل تابوت الملك “توت عنخ آمون” الذهبى من الأقصر إلى القاهرة، ونقل مقاصيره وأسرته الجنائزية. وبعضها يحتاج للحذر الشديد نظراً لهشاشة وضعف القطع مثل نقل مراكب الشمس التى تخص الملك خوفو. وبعضها يتحول إلى مسيرات شعبية مثل عملية نقل تمثال الملك رمسيس الثانى القطعة رقم (1) داخل المتحف.

رحلة القطع الأثرية لا تنتهى بالوصول. لايزال طريقها طويلاً حتى تبلغ مستقرها الأخير. عليها أولاً أن تدخل فى مراحل الفحص والتعقيم والترميم المجهري. ترقد بين أنامل المرممين الخبراء للتأكد من سلامتها معالجتها وترميمها كى تعود لحالتها الأصلية. وذلك قبل خروجها للعرض المتحفى سواء داخل القاعات وما بها من فاترينات أو حتى لتقف فوق عتبات الدرج الملكى أو وسط البهو العظيم.

رحلات نقل القطع الأثرية وسفرها وتنقلها عبر شوارع وميادين مصر نجحت فى تأسيس مدرسة متفردة فى علوم نقل وصيانة الآثار وترميمها. كل حالة نقل أصبحت مرجعًا علميًّا. وكل قطعة وصلت إلى المتحف شهادة على أن مصر حارسة الحضارة. وذلك بفضل أبطال العلماء الذين بدأوا العمل داخل تلك المدرسة حتى أصبحوا بحكم خبراتهم أساتذة عظاما. ونتيجة لعظمة جهودهم، باتت مصر تملك أهم مدرسة علمية وأثرية متخصصة فى نقل القطع الأثرية على مستوى العالم. وفى مقدمتهم الدكتور عيسى زيدان مدير عام الشؤون التنفيذية لترميم ونقل الآثار داخل المتحف الكبير. الذى بات أحد أبرز خبراء النقل حول العالم.

وبالرغم من خبرته الطويلة نجده يصف عملية النقل بقوله : «لم تكن هينة أبداً..» بل جاءت بعد دراسة مستوفية لحالة القطع قبل نقلها وترميمها بشكل أولى ثم القيام بالتغليف بشكل علمى مدروس. والذى يفتخر دوماً بدور مدرسة الترميم ونقل القطع الأثرية الفريدة من نوعها على مستوى العالم. وأنها بشكل غير مسبوق أضافت بمجهودات أبطالها إلى علم نقل الآثار.

وبعد الانتهاء من عمليات النقل للقطعة الأثرية التى تحمل تقرير حالة مفصلاً بصورة دقيقة. تخضع مرة أخرى لعملية مسح رادارى كامل وتصوير ثلاثى الأبعاد وليز سكان. تمهيداً لفك التغليف والتعامل مع القطعة الأثرية المخزنة داخل قفص معدنى مبطن بالفوم لحمايتها من أية اهتزازات أثناء عملية النقل. حيث يتولى فريق عمل من المرممين المحترفين أعمال ترميمها تمهيداً لعرضها فى الأماكن المقررة لها.

وسيظل التاريخ يذكر بانبهار تفاصيل رحلة نقل مراكب الشمس التى تخص الملك «خوفو» من أمام هرمه الأكبر إلى داخل المتحف المصرى الكبير. تلك المركبة الخشبية الضخمة التى ليست كغيرها من المراكب أو السفن. فهى مركبة مقدسة تحمل تاريخاً قديماً من العقائد الثابتة داخل نفوس المصريين القدماء. فاق عمرها الخمسة آلاف عام ولايزال كثير من التساؤلات مثارا حول طبيعتها. هل هى مراكب جنائزية تحمل مومياء الملك لتستقر بها داخل هرمه، أم هى مراكب طقسية تحمل روحه بصحبة الإله «رع» إله الشمس نهاراً وليلاً، أو أنها مراكب خشبية عتيقة دفنها المصرى القديم واحتفظ بأسرارها فى قلب هضبة الجيزة الصخرية. وفى حقيقة الأمر هى مركب ضخمة يبلغ طولها أكثر من 42 متراً ووزنها أكثر من 20 طناً مصنوعة من الأخشاب المجلوبة من خارج مصر. ظلت ترقد تحت أقدام الهرم الأكبر الخاص بالملك “خوفو” العظيم. مخبأة بعناية بعدما أدت مهمتها واصطحبت روح مليكها إلى العالم الآخر. لكن رحلتها الأبدية التى سجلتها نقوش الكتابة الهيروغليفية فوق جدران المعابد المصرية القديمة، تختلف عن رحلتها القصيرة التى قطعتها لتستقر داخل متحف تم بناؤه خصيصاً لها ملحق بالمتحف المصرى الكبير. صحيح أنها ظلت على حالها حتى بعد اكتشافها فى عام 1952 على يد الأثرى والصحفى كمال الملاخ، حيث خرجت إلى النور وتم تجميعها وترميمها ووضعها داخل مبنى زجاجى أمام الجانب الجنوبى للهرم الأكبر. فى حين بقيت المركب الثانية تحت الربوة الصخرية حتى نالتها يد الترميم. وما بين الاكتشافات وبين الرحيل مرت أكثر من 65 عاماً. لذا كان لابد من اتخاذ أهم وأخطر قرار يمس تاريخ البشرية. وهو نقل أقدم قطعة أثرية عضوية صنعها الإنسان من الأخشاب والحبال على الإطلاق من موقعها الأصلى إلى مستقرها الأخير داخل المتحف المصرى الكبير. وبالفعل الرحلة التى استغرقت 48 ساعة، خاضها رجال الترميم والنقل الشجعان. تحملوا مسؤولية تحقيق اشتراطات النقل الآمن لأن الإنسانية جمعاء لن تغفر لهم إذا تسببوا فى فقدان أقدم أثر عضوى صنعه الإنسان على وجه الأرض.

تبقى أمام فريق الترميم والنقل مهمة صعبة وخطرة حتى تكتمل منظومة العرض داخل المتحف الكبير. تمثل قلب العرض المتحفي. وهى استكمال عمليات نقل مقتنيات الملك توت عنخ آمون من المتحف المصرى بالتحرير إلى مستقرها الأخير داخل أكبر قاعة عرض متحفية فى العالم مخصصة لعرض مقتنيات الملك الذهبي. المهمة بدأت من سنوات معدودة بعد دراسات علمية متعمقة لكل قطعة من مقتنياته البالغ عددها أكثر من خمسة آلاف قطعة أثرية. ونحن على مشارف شهر يونيو بدأت ساعة الصفر لنقل أهم وأغلى قطعة أثرية فى العالم وهى القناع الذهبى للملك توت عنخ آمون الأكثر شهرة على مستوى العالم. الفريق نجح فى نقل عدد من مقتنياته الملكية أهمها المقاصير الخشبية المذهبة والأسرة الطقسية والعربات الحربية للملك والتى كانت تعانى من تدهور حالتها. علماً بأن وزارة السياحة والآثار كانت قد عقدت مؤتمراً دولياً خصيصاً لبحث طرق النقل بشكل آمن لمقتنيات الملك. حضره أشهر علماء المصريات وخبراء الترميم ومديرى المتاحف الكبرى لمناقشة كيفية نقل تلك الكنوز التى تعتبر تراثاً إنسانياً إلى مبنى المتحف المصرى الكبير مع بحث طرق الترميم الأفضل لها قبل النقل وبعده. وتلك قصة أخرى من قصص بناء المتحف المصرى الكبير نحكى فصولها فى حلقة أخرى.

 

أخبار الساعة