الرؤية الثاقبة للأحداث، وحُسن تقدير المواقف، والقراءة الصحيحة للوقائع، جميعها عبارات موجزة تجسِّد بوضوح تام حكمة الدولة المصرية فى وصف الروشتة الناجعة لاستقرار الشرق الأوسط، ووضع النهاية السليمة لإطفاء حرائقه التى تلتهب من فترة لأخرى، وهى إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وفقًا للقرارات الأممية وقواعد القانون الدولى، ولا ضمانة غيرها لتحقيق السلام الدائم والعادل بالمنطقة، فالتجارب المتعددة، والأزمات المتتالية بين دولة الاحتلال من جهة باعتبارها أسَّ البلاء ومكمن الداء فى المنطقة، والشعب الفلسطينى الباحث عن حقوقه المشروعة، تؤكد فى كل مرة أن فتيل الصراع يشتعل تدريجيًّا، ثم تتطاير شراراته مع استمرار العمليات العسكرية الوحشيةضد الفلسطينيين إلى دول أخرى، وتنتقل عدوى الحرب كالقطط المشتعلة من عاصمة لأخرى، فتتصاعد وتيرة النزاعات، وتتأزم الخلافات، وهو ما حدث فعلًا على خلفية حرب غزة الحالية، فطالت النيران لبنان واليمن وسوريا والعراق وصولًا إلى المواجهات الإسرائيلية الإيرانية مفتوحة السيناريوهات، غامضة التداعيات.
القاهرة من منطلق دورها الريادى فى المنطقة بحقائق التاريخ ووقائع الجغرافيا وامتلاكها القوة الشاملة مع الخبرة الكاملة، والإدراك المتراكم بجولات الصراع العربى الإسرائيلى، تحركت قبل الجميع، وحذرت منذ اليوم الأول لأحداث 7 أكتوبر 2023 من خطورة مواصلة العدوان الإسرائيلى الغاشم على المدنيين فى قطاع غزة وماحوله من المناطق والمخيمات الفلسطينية؛ لأن توسيع جيش الاحتلال لعملياته العسكرية، وجرائمه الهمجية لا محالة يدفع الأمور فى منطقة الشرق الأوسط إلى حافة الهاوية، كما سارعت الدولة المصرية الخطى بتنظيم «قمة القاهرة للسلام» من أجل الوقف الفورى للحرب بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية خلال أسبوعها الثالث، بمشاركة دولية وإقليمية واسعة لأكثر من 31 دولة وعدة منظمات دولية، إلى جانب عدد من الشخصيات الاعتبارية حول العالم.
وبحسم شديد ولغة واضحة لفت الرئيس عبدالفتاح السيسى الانتباه فى افتتاح القمة إلى أننا أمام أزمة غير مسبوقة، تتطلب الانتباه الكامل للحيلولة دون اتساع رقعة الصراع بما يهدد استقرار المنطقة كلها، وأن الوقف الفورى للحرب والتوافق على خارطة طريق تستهدف إنهاء المأساة الإنسانية الحالية، مع التأكيد على الرفض المصرى لتهجير الفلسطينيين من القطاع المحاصر إلى سيناء، والتحذير من تصفية القضية الفلسطينية، وأن هذا لن يحدث فى كل الأحوال على حساب مصر أبدًا، ثم تتابعت التحركات المصرية على كافة الاتجاهات ومع جميع القوى الفاعلة لمحاصرة مراوغة حكومة الاحتلال لزيادة رقعة الحرب، مع مواصلة المساعدات للأشقاء فى غزة وما حولها من المناطق والمخيمات، واستقبال الوفود الرسمية من كل الدول والمنظمات للاطلاع على مجريات ما يحدث من انتهاكات صارخة ضد الفلسطينيين من تجويع وحصار ودمار، فضلًا عن قيادة مسار المفاوضات مع قطر والولايات المتحدة الأمريكية؛ للوصول إلى وقف فورى ودائم لتلك الحرب الظالمة، وكله موثق بالصوت والصورةوالكلمة، وما خفى كان أعظم للدور المصرى فى دعم القضية الفلسطينية وتثبيت أركانها، والتصدى لمخططات دولة الاحتلال فى توسيع دائرة الصراعات.
ورغم أن حكومة اليمين المتطرف بقيادة مجرم الحرب نتنياهو وشلته من الإرهابيين من عينة بن غفير وبتسائيل، الذين أصاب أعينهم العمى، وضرب آذانهم الصمم، فتحصنوا بالحماقة التى أعيت منْ يداويها، واحتموا بالعنف المفرط، فتورطوا فى جرائم الإبادة الجماعية، وارتكبوا المجازر الوحشية، ومن المعلوم بالضرورة أن العنف يولِّد عنفًا، وليس كل مرة تسلم الجَرّة، اتسعت بؤرة الصراع فى عدة بلدان، حتى وصلت إلى استهداف القنصلية الإيرانية بدمشق فى أبريل 2024، وقتل 16 شخصًا من بينهم قائد بفيلق القدس التابع للحرس الثورى و7 ضباط آخرين، ومن يومها دخلت طهران على خط الحرب بشكل مباشر، صحيح أن ردها الأول كان هادئا من أجل حفظ ماء الوجه، لكن يبدو أن هذا الموقف زاد من الجرأة الإسرائيلية، وكسر هيبة الدولة الإيرانية، فتوالت الهجمات على أذرعها فى لبنان وسوريا مثل حزب الله الذى انهار بسلاح الخيانة وعملاء الموساد قبل الضربات العسكرية، ثم تكرر نفس السيناريو داخل جنبات إيران نفسها، بعدما نجح الموساد فى ذرع عملائه فى أماكن عدة وجهات مختلفة لدرجة وجود منصات تطلق المسيرات من طهران، وتحدد الأهداف النووية، وترصد كبار الشخصيات العسكرية فى الداخل وليس الخارج، وكل يوم يتم اكتشاف عملاء جدد حتى داخل المؤسسات الأمنية والعسكرية، والأخطر هو تدمير الدفاعات الجوية الإيرانية؛ مما سمح بالعربدة لسلاح الجو الإسرائيلى فى عموم البلاد، وجعله يتباهى بقدرته على اغتيال أى مسئول إيرانى وصولًا إلى المرشد الأعلى خامنئى.
لكن فى ذات الوقت، ولأول مرة حقيقة، يصبح العمق الإسرائيلى تحت القصف، فها هى الصواريخ الباليستية تتساقط على تل أبيب وأخواتها من المدن، وأصبح العالم كله يسمع ويرى على الهواء مشاهد النيران تلتهم المبانى فى دولة الاحتلال، وأرقام القتلى فى تزايد مستمر وأعداد المصابين فى ارتفاع متواصل، وتحولت الملاجئ إلى عادة يومية لدى الإسرائيليين للهروب من ويلات تلك الحرب المستعرة، التى حاول نتنياهو وعصابته فى الحكم إشعالها حتى يضمن البقاء فى السلطة أطول مدة ممكنة، ونسى أنه وعد مواطنيه بالأمن ففقدوه بجدارة فى أحداث السابع من أكتوبر، ثم انكشفت حقيقة القبة الحديدية، التى فشلت sفى صد الهجمات المتتابعة من الفصائل الفلسطينية وجماعة الحوثى وعناصر حزب الله، وأخيرًا أفقدتها الصواريخ الإيرانية فاعليتها رغم إنفاق مليارات الدولارات فى إقامتها، والتغنى بقدراتها، ناهيك عن أنظمة الحماية السرية والعلنية التى يوفرها حلفاء دولة الاحتلال وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوربى، وهذا ليس بجديد، فهم دائما متورطون حتى فى التحيز الأعمى، والازدواجية المفرطة لصالح دولة الاحتلال، وعلى الباغى تدور الدوائر.
إن مصر انطلاقًا من مكانتها كقوة رشيدة فى إقليم مضطرب، تسعى جاهدة مع الدول والأطراف المختلفة للسيطرة على الصراع الإيرانى الإسرائيلى المدمر عبر مختلف القنوات، وجميع الوسائل الدبلوماسية بتوجيهات رئاسية لا تتوقف، ومنها المبادرة المصرية للتوافق على بيان مشترك بين وزراء الخارجية فى كل من مصر، الأردن، الإمارات، إندونيسيا، باكستان، مملكة البحرين، بروناي دار السلام، تركيا، تشاد، جامبيا، الجزائر، جمهورية جزر القمر المتحدة، جيبوتي، السعودية، والسودان، الصومال، العراق، سلطنة عمان، قطر، الكويت، ليبيا، ماليزيا، موريتانيا، وأكدوا جميعا فى هذا البيان رفض وإدانة الهجمات الإسرائيلية ضد إيران منذ فجر يوم 13 يونيو 2025، وضرورة احترام سيادة الدول ووحدة أراضيها ومبادئ حُسن الجوار وتسوية النزاعات بالسبل السلمية، والإعراب عن القلق البالغ حيال هذا التصعيد الخطير، والذى ينذر بتداعيات جسيمة على أمن واستقرار المنطقة بأسرها، وأهمية العمل على خفض التوتر وصولاً إلى وقف لإطلاق النار وتهدئة شاملة، وأهمية إخلاء منطقة الشرق الأوسط من الأسلحة النووية وغيرها من أسلحة الدمار الشامل، وضرورة العودة لمسار المفاوضات فيأسرع وقت، مع التشديد على أهمية احترام حرية الملاحة في الممرات المائية الدولية وفقاً لقواعد القانون الدولي ذات الصلة، وعدم تقويض أمن الملاحة الدولية.
من المؤكد أن العالم أجمع فى حاجة ماسة إلى الاستماع لصوت العقل ونداء الحكمة، الذى يعلو من مختلف مؤسسات الدولة المصرية، وفى مقدمتها مؤسسة الرئاسة التى فطنت مبكرًا إلى ضرورة قيام المجتمع الدولى كله، وواشنطن على وجه الخصوص بدور مؤثر فى مضاعفة الضغوط، وممارسة كل أدواتها على تل أبيب لإجبار حكومة الاحتلال على الوقف الفورى لجولات العدوان، وحلقات التخريب سواء فى فلسطين أو إيران أو غيرهما منعًا لانفجار الأوضاع، والدخول فى متاهة من الصراعات تحمل فى طياتها ما لا تُحمد عقباه إقليميًّا ودوليًّا، والشواهد على الأرض خير دليل، فالكل يرى أن حلقة الهجمات بين طهران وتل أبيب تتسع فى ظل إصرار الأخيرة على التدمير وإلحاق الأضرار كافة بخصمها بدءًا من المنشآت النووية إلى محطات الوقود والكهرباء وصولًا إلى اغتيال القيادات، يشجعها على تلك البلطجة الدعم غير المحدود من الرئيس الأمريكى ترامب الذى كلما تحدث أكد أن الأمريكان ضالعون فى تلك الحرب، وأنه هو شخصيًّا صاحب الرأى والمشورة فيها بالتنسيق مع نتنياهو، وعلى سبيل المثال لا الحصر، دعوته لإخلاء طهران فورًا، وقبول صفقة التفاوض التى طرحها عن وقف البرنامج النووى، وهنا ترامب يلعب لصالح نفسه وليس دعمًا لدولة الاحتلال فقط، وبالطبع تلاقت رغبات الجانبين، فهو يريد إلهاءالرأى العام الأمريكى والعالمى عن الاحتجاجات فى الشوارع والساحات بجميع أنحاء الولايات المتحدة اعتراضًا على سياساته المناهضة للديمقراطية الأمريكية تحت شعار «لا للملوك»، فضلًا عن التغطية على قراراته المرفوضة ضد حقوق المهاجرين، لدرجة أن هناك أحاديث حول مطالبة بعض الولايات بالانفصال، وتحديدا كاليفورنيا الأكثر كثافة سكانية وأكبر خامس اقتصاد على مستوى العالم وفقًا لصندوق النقد، أما الطاغية نتنياهو فهو لا يكلّ ولا يملّ من مؤامرات صرف أنظار العالم كله عن جرائمه البشعة فى غزة من أجل تنفيذ مخطط التهجير الملعون، وتصفية القضية الفلسطينية، وهذا لن يحدث أبدًا؛ لأن الشعب الفلسطينى واعٍ لتلك المكيدة، ومصر دائمًا سندللقضية، ولن تسمح بالتهجير مهما كانت التحديات لا على حساب مصر أو غيرها من الدول، فهذا خط أحمر.
وفى الختام، من الأهمية بمكان، أن نشير إلى أمرين، الأول: علينا أن نطمئن على الأمن القومى المصرى؛ لأن الرئيس السيسى تنبه منذ تولى مسئولية البلاد وشئون العباد إلى ضرورة التحصن بالقدرة الشاملة فى كل القطاعات وجميع المجالات؛ لأن خيارنا للسلام العادل والمستدام، يفرض علينا الاستمرار فى بناء قدرات القوة الشاملة لهذا الوطن، كونها السبيل الوحيد لصون وحماية السـلام، وردع أى محاولة للتفكير فى الاعتـداء عليــه، والحفاظ على قوة الدولة الشاملة بكل معانيها سواء العسكرية أو الاقتصادية أو الثقافية، وفقا لتعبير الرئيس خلال كلمته في الندوة التثقيفية الـ40 للقوات المسلحة، الأمر الثانى: الوعى السليم لكل المصريين؛ لأنه كلمة السر لدعم قوة الدولة ضد المؤامرات كافة، والمهددات جميعًا، فلا تستمعوا لشائعات أهل الشر، وتجنبوا مكائد الكتائب الإلكترونية، واحذروا المرجفين الذين يعملون مع سبق الإصرار والترصد لضرب استقرار وطننا الغالى، والإساءة إلى صورته الناصعة، والتآمر على دوره العربى والإقليمى والدولى.
حمى الله مصر وشعبها وقيادتها
ومؤسساتها الوطنية من كل سوء.

