إنه «السحر الإسرائيلى الذى انقلب على ساحره»، ففى الوقت الذى وضع فيه رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو خطته بضرب إيران للتشويش على مشروع قانون المعارضة الذى يهدف إلى إسقاط الحكومة، لم يكن يتوقع مشاهد الدمار التى ملأت شوارع تل أبيب، والتى تشهدها إسرائيل للمرة الأولى منذ عام 1948، ما أسفر عن مقتل عدد من الإسرائيليين وتدمير عشرات المبانى، فيما انتقل سكان تل أبيب من المنازل إلى الملاجئ منذ بداية التصعيد.
وفى حوار حول لعبة نتنياهو السياسية التى انقلبت إلى تراشق بالصواريخ الباليستية، وتُرجمت إلى مشاهد دمار فريدة من نوعها فى الداخل الإسرائيلى، وما قد تؤول إليه الأوضاع خلال الأيام القليلة المقبلة، تحدثت «المصور» إلى الخبير بالشؤون الإسرائيلية وأستاذ اللغة العبرية الدكتور أشرف الشرقاوى، وكان الحوار التالي:
فيما يخص الداخل الإسرائيلى.. هل اختيار نتنياهو لتوقيت الضربة العسكرية ضد إيران كان بهدف سياسى لإنقاذ ائتلافه؟
فى الواقع، توقيت بداية الحرب كان غريبًا، ولكن من الواضح بالطبع أن ما أثَّر فى اختيار التوقيت أكثر من أى شيء آخر هو عنصر السياسة الداخلية، فرغم نجاح حكومة نتنياهو فى التوصل لتفاهم مع جزء من التيار الدينى الأرثوذكسى يضمن ألا يتم إسقاط الحكومة، فى مقابل بلورة اتفاق خلال أسبوع لإعفاء دارسى التوراة (طلبة المدارس الدينية) من التجنيد؛ فإن هذا الاتفاق أولًا لا يعطى نتنياهو مهلة كافية ولا يمنع سحب الثقة لاحقًا من الحكومة إذا اتفق على هذا 6 أعضاء كنيست.
أُضيف إلى هذا أن اتفاق نتنياهو مع جانب من التيار الأرثوذكسى تسبب فى استقالة وزير البناء والإسكان «جولدكنوفيف» من الحكومة، وهو ما يعنى لنتنياهو مزيدًا من عدم الاستقرار. وربما لا تكون الرغبة فى بقاء حكومته هى الدافع الوحيد لنتنياهو للتحرك، ولكن من الواضح أنه فى الغالب سيندم على هذا التحرك المتسرع؛ خاصة بعد أن انقلب السحر على الساحر وتبيَّن أن إيران ليست بالضعف الذى تخيَّله.
كما انخدع نتنياهو بالمساجلات السابقة بين البلدين، وظن أنه سيضرب ضربة ويتلقى ردًا هينًا وينتهى الموضوع، ولكن الرد الإيرانى كان مفاجئًا. والواقع أن الرد لم يكن مفاجئًا لإسرائيل وحدها، بل لكافة الأطراف الإقليمية والدولية. وعلى سبيل المثال، فقد كانت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا تعرف بالضربة الإسرائيلية قبل حدوثها، وتجهزت بالفعل للمشاركة فى مهاجمة إيران بحجة القضاء على البرنامج النووي. ولكنها فى الواقع كانت تسعى للقضاء ليس على النظام السياسى الإيرانى فحسب، بل وعلى القدرات الإيرانية بالكامل وربما لاحتلال الأراضى الإيرانية إلى أن تتمكن من منع دور إيران كدولة فاعلة فى الشرق الأوسط. وبعد فترة انتظار لبضع ساعات بدأت خلالها بعض النوايا تتكشف، وفوجئت هذه الدول بقوة الرد الإيرانى.
هذا أول هجوم حقيقى تتعرض له إسرائيل من الداخل منذ عام 1948.. هل يخضع الكيان فى النهاية أم يستمر الوضع فى التصاعد؟
ليس هذا أول هجوم يتعرض له الداخل الإسرائيلى، وبدأت التهديدات للداخل الإسرائيلى اعتبارًا من أكتوبر 73، عندما فرض السادات رحمه الله معادلة الردع: «العمق بالعمق»، وأعلن فى كلمته يوم 16 أكتوبر أن الصواريخ المصرية تم نصبها فى بورسعيد، وأن أى ضربة للعمق المصرى ستُقابلها ضربة للعمق الإسرائيلى، وأن تل أبيب وحيفا باتتا فى مرمى الصواريخ المصرية، وهو ما أجبر إسرائيل على التراجع عن مهاجمة العمق المصرى، الذى كان مستباحًا فى يونيو 67. فيما استمرت هذه التهديدات بقصف حزب الله اللبنانى للداخل الإسرائيلى فى حرب لبنان 2006، وكان على نطاق واسع استوجب مليارات لخطة إعادة إعمار امتدت على خمس سنوات، كما استمرت مهاجمة الداخل الإسرائيلى مؤخرًا بواسطة المقاومة الفلسطينية، ولكن القصف الإيرانى بحجم ونطاق مختلفين. ورغم أن المدن الإسرائيلية فى الداخل سبق أن شهدت مساحة تدميرية كبيرة فى حرب لبنان 2006 عندما قصف حزب الله تل أبيب وحيفا ردًا على قصف ضاحية بيروت، ووقتها أصاب مصفاة النفط فى حيفا ونُشرت صور لأكثر من سبعين قتيلًا إسرائيليًا فى القصف، استُتبعها وقف النشر لكل ما يتعلق بخسائر إسرائيل فى الحرب؛ إلا أن هذه المرة الأولى التى تُهاجم فيها مدن إسرائيلية بصواريخ بهذه الكثافة وبهذه القوة.
وربما لا تخضع إسرائيل بمفهوم الاستسلام الكامل وتقديم فروض الطاعة والولاء، ولكن هناك تسريبات أمريكية وإيرانية ومن دول عربية توضح أن إسرائيل بدأت مساعى لطلب وساطة دول عديدة لوقف القتال.
بعد تداول الأنباء حول توقيع «اتفاق الردع المهين».. هل حققت تل أبيب هدفها بتدمير المشروع النووى الإيراني؟ وما السيناريو المتوقع فى حال نجحت طهران فى ضرب المفاعل النووى الإسرائيلى؟
الإجابة المبدئية بالطبع هى: لا، لم تحقق إسرائيل هدفها بوقف البرنامج النووى الإيرانى، ولن تُحققه. ولا أعتقد أن هذا الهدف كان هدفًا حقيقيًا. كما أوضحت سابقًا، الهدف من هذه الحرب يتعلق فقط بالسياسة الداخلية الإسرائيلية وبقاء نتنياهو فى الحكم.
كما توجد أنشطة خاصة بالبرنامج النووى الإيرانى فى بوشهر ودارخوين وبوردو ونطنز وأماكن أخرى أكثر سرية. تم إخلاء منشأة بوردو تمامًا من كل المصانع التى بها تحسبًا لقصفها. أما منشأة نطنز التى يتباهى الإعلام الإسرائيلى بقصفها، فهى من الناحية العلمية البحتة تعمل فى إنتاج الماء الثقيل لتبريد المفاعلات ويمكن الاستغناء عنها تمامًا. ورغم ذلك لم يكن قصفها مؤثرًا على الإطلاق، أما النشاط الحقيقى لتخصيب اليورانيوم فيجرى فى منشآت أُقيمت تحت جبال لا تتأثر حتى لو تم قصفها بأسلحة ذرية، وإذا كنت أنا كباحث محدود القدرات أعلم هذا، فلا شك أن أجهزة المخابرات الإسرائيلية تعلمه، وبالتالى تعلمه القيادة السياسية الإسرائيلية. وبناءً عليه، فالهدف ليس البرنامج النووى بالتأكيد.
وربما يرى البعض فى اغتيال عشرة علماء إيرانيين عنصرًا مؤثرًا على البرنامج النووى، ولكن الواقع هو أن بعض هؤلاء كان قد تقاعد عن العمل بالفعل، وبعضهم ليس له دور مؤثر فى البرنامج النووى وإن كان له دور مؤثر فى تأهيل الباحثين. وهناك -بدون مبالغة- عشرات آخرون ممن هم أكثر منهم كفاءة وأكثر تأثيرًا فى البرنامج النووى لم يتم المساس بهم. وبالتالى، فالبرنامج النووى مستمر إلا إذا قبلت إيران التنازل عنه، وهو ما أستبعده فى هذه المرحلة. بل وأتوقع أن تقوم إيران خلال بضعة أسابيع -على أقصى تقدير- بإجراء تفجيرها النووى العلنى الأول لتنضم رسميًا للنادى النووي. أما عن مفاعل ديمونة، فهو فى الواقع أيضًا لم يعد بالأهمية التى تُنسب له، بعد حدوث تسرّب إشعاعى به منذ بضع سنين، حيث يقتصر العمل به الآن على النشاط البحثى.
إلى أى مدى يمكن أن تجر إسرائيل واشنطن لحرب إقليمية ومواجهة مباشرة مع طهران؟
لا أعتقد أن إسرائيل يمكن أن تجر الولايات المتحدة لحرب لا ترغب فيها. وقد سبق أن أوضح الرئيس ترامب هذا فى عدة مناسبات. وأعلنت مصادر فى البنتاجون أن إسرائيل طلبت رسميًا من الولايات المتحدة أن تشارك فى الحرب وتلقت ردًا بأن الوقت غير مناسب. أضف إلى هذا أن إعلان دول مثل روسيا والصين وباكستان بشكل مباشر دعمها لموقف إيران، بل والأنباء الواردة عن إمدادها لإيران بصواريخ ومعدات، تجعل انخراط الولايات المتحدة أو أى من القوى الغربية الأخرى فى الحرب يُنذر بتحولها لحرب إقليمية كبيرة إن لم تكن عالمية. ولا أعتقد أن هناك من يرغب فى هذا الآن.
«تل أبيب تحارب نيابة عن العرب».. ماذا يرغب الكيان من تلك الادعاءات؟
ليست هذه المرة الأولى التى تدعى فيها إسرائيل أنها تحارب نيابة عن العرب. فقد سبق أن صدرت من قادة إسرائيل تصريحات بهذا المعنى أثناء الحرب ضد غزة، حيث ادعت إسرائيل أنها تحارب ضد التطرف الدينى الذى يمكن أن يعصف بالمنطقة العربية، بينما هى تحارب ضد قوى تحرر وطنية تسعى لإقامة دولة فلسطينية حسب القرارات الدولية والمبادرات العربية. ولم يتقبل العرب تصريحات إسرائيل بخصوص غزة، وواصلوا التمسك بالمبادرة العربية. ولا أعتقد أن أغلب الدول العربية ستقبل الادعاءات الإسرائيلية بخصوص إيران، ولا سيما بعد التقارب الكبير الذى تحقق مؤخرًا بين إيران والسعودية برعاية صينية من ناحية، وبين إيران ومصر بعد زيارة وزير الخارجية عراقجى لمصر ولقائه مع الرئيس السيسى، والذى تبعه قيام بلدية طهران بتغيير اسم شارع الإسلامبولى (قاتل السادات) ليصبح شارع حسن نصر الله.
ولن تنطلى الألاعيب الإسرائيلية على أغلب العرب، ولكنها يمكن أن تُغازل العنصرية الأوروبية بالزعم بأنها ممثل «للحضارة البيضاء» وسط المنطقة العربية «السامية».
يُهدد الإسرائيليون باغتيال المرشد العام الإيرانى «خامنئى».. هل سيؤثر هذا السيناريو القائم فى تلك المواجهة؟
الإجابة بوضوح: نعم، سيؤثر بالتأكيد. ولكن ليس التأثير الذى ربما يعتقده الإسرائيليون والغربيون. فالفكر الشيعى بطبيعته قائم على فكرة التضحية والاستشهاد. وفى حالة اغتيال خامنئى، ربما يترتب على ذلك أمران:
الأول: أنه سيُعتبر عند الشيعة – فى العالم كله وليس فى إيران فحسب – شهيدًا وسيرتفع قدره إلى حد التقديس، وسيُطالب الجميع بألا يقل ثمن رأسه عن عدة ملايين من الإسرائيليين. وهذه ليست مبالغة من جانبى.
الثاني: سيضمن الإسرائيليون بهذا أن الحرب مع إيران لن تتوقف لفترة طويلة جدًا، ربما تصل إلى عدة سنوات، ولا أُبالغ إذا ظننت أن إيران ستلجأ خلالها إلى عمليات فدائية برية ضد إسرائيل من خلال الدول المجاورة لها، ولو اضطرت إلى محاربة هذه الدول التى لها فيها جاليات داعمة كبيرة.
عندما تفجرت الحرب العراقية - الإيرانية، واصلت إيران الحرب بقوة لنحو عقد كامل دون كلل أو ملل أو اعتراضات داخلية أو معارضة، ولم تتوقف الحرب حتى تقدم صدام حسين بعرض سلام أشبه بالاستسلام. ولو حدث اغتيال للإمام، ربما تزيد الحرب بين إسرائيل وإيران عن هذه الفترة. ربما يرى البعض أن الدعم الأمريكى سيكفى، ولكن الواقع هو أن أمريكا كانت تدعم صدام فى حربه ضد إيران وأُخفق فى النهاية. فى حرب طويلة سيُقدِّم الإيرانيون مصلحة الأمة وسيبذلون الشهداء، وسترتفع روحهم المعنوية بهذا، بينما بعد بضعة أشهر ستعلو أصوات الإسرائيليين إلى عنان السماء ليطالبوا بوساطة لوقف الحرب. وإذا لم يتم اغتيال الإمام، لن يكون هناك تغيير تقريبًا، فبعد بضعة أسابيع ستبدأ إسرائيل – وإن كنت أعلم أنها بدأت بالفعل – فى البحث عن وساطة لوقف الحرب. وأخطأ نتنياهو فى بدء حرب مع إيران، دون أن يكون لديه القدرة على إنهائها، وأظن أنها ستكلفه منصبه ومستقبله السياسى كله، ولن تتوقف سوى بشروط إيرانية حتى لو لم يكن ذلك مُعلنًا.

