يَذكُره التاريخ في أروقة المحاكم كأعظم محامي في عصره؛ بطل صاحب قُدرة على الكلام وبلاغة الإقناع، ماهر في المناورة بارع في المُناظرة، تدعمه هيئته الجُسمانية؛ طويل القامة عريض الكتفين وجهه بيضاوي بين الإسمرار والإحمرار، كان القطار يقف له حيث لا يقف لأحد، خاطب وده الملوك والأمراء وكسب مئات الألوف من الجُنيهات نظير خدماته لهم.
إبراهيم الهلباوي من بَلدة (العطف) بمُديرية البحيرة، التحق بالأزهر الشريف في عمر الثانية عشر وقت قدوم (جمال الدين الأفغاني) إلى مصر، فتتلمذ على يديه بفكره الثوري اللوثري، مُتمردًا على التبعية السلفية من أجل تجديد الإسلام، وبعد نفيّ الأفغاني التصق الهلباوي بالأمام (محمد عبده) ليساعده في تحرير جريدة (الوقائع) وظهرت توجهاته أثناء الثورة العُرابية حينئذٍ؛ حيث لم يكن له موقفًا إيجابياً منها، فتلاعب بثوارها وتَلَون مُتملقًا الإنجليز، ومع نهايتها المُفجعة عُيّن سكرتيرًا لرئيس مجلس النواب ونال لقب سير من الملكة (فيكتوريا) كمُكافأة له، ومن هنا بدأت رحلته مع المُحاماة في يناير 1886، ومن مكتب متواضع في طنطا إلى مستشار للأوقاف الخصوصية ومستشار لديوان الخاصة الخديوية حيث فاقت شهرته الأساطير ورويت عنه الخيالات .
وجاءت حادثة دنشواي الشهيرة، عندما توقف أربعة ضباط إنجليز بالقرب من تلك القرية من أجل ممارسة هواية صيد الحمام في وقت موسم حصاد القمح ودرسه؛ وعلى أثر مشادة مع أحد الفلاحين الذى أمرهم بالابتعاد، أطلق الضابط ( بوستك) تسع طلقات خرطوش فاشتعلت النيران بالجُرن، وهجم الأهالي على كتيبة الصيد، ووسط هَرج ومَرج انطلقت دفعة أخرى من الرصاص، فأصيب العديد من الفلاحين وأحد الضباط في كتفه ومنها فَرّ باقي الإنجليز في هلع عدوًا على معسكرهم وسط طقس صيفي حارق ومسافة ثمانية كيلومترات أدت لوفاة أحدهم بضربة الشمس.
وكان لابد من عقاب جماعي للفلاحين كي يكونوا عِبرة؛ من خلال محاكمة دُشنت على الفور إعمالا لأحد بنود الأمر العالي الذي صدر في فبراير 1895 بوجوب إنشاء محكمة مخصوصة للحُكم فيما يرتكبه الشعب المصري من جنايات؛ وبالطبع جاء اختيار الهلباوي ليكون مُدعيًا عموميًا في محاكمة دنشواي.
ونزل الهلباوي لأرض الملعب؛ وصال وجال وحاول بشتى الطرق وكافة أنواع الحُجج والبلاغة تكييف الواقعة لإثبات أن حريق الجُرن هو حادث تالٍ لاعتداء الفلاحين على الضُباط؛ ثابتًا بالشهود الزور استحالة اشتعال النار في الجُرن من جَراء طلقة خرطوش، بل عرج لإثبات ركن سبق الإصرار والترصد على القتل والشروع فيه؛ بتوكيد أن فكرة القتل كانت مُبيتة النية لعلم أهل البلد بقدوم الضباط للصيد مُسبقاً! وحَشد أعيان القرية لحضور المحاكمة والشَدْ على يده فيما قدمه من أدلة.
وتحولت المحاكمة إلى عرض مسرحي سياسي هزلي؛ يترافع فيه الهلباوي عن الاحتلال صابًا جهوده لعودة هيبته وجبروته. لم تستغرق تلك المحاكمة ثلاثة أيام نال المُحتل ومن قبله الهلباوي ما طمح إليه؛ بإعدام أربعة وجلد أثنى عشر وأشغال شاقة للبقية .
ومن هنا بدأت نهاية الهلباوي (جَلَّاد دنشواي)؛ لم يغفر الشعب المصري له؛ بل عاش بعدها ثلاثين عامًا حاملًا لعناتهم في كل مجال طَرقه، شَرع في كتابة مُذكراته 1929 -والتي لم تُنشر ليومنا هذا - ساق فيها كل المُبررات لاشتراكه في هذه المُحاكمة مُقدمًا الأعذار لفعلتهِ الذي أراد بها أن يُنجي مصر من آثار لم يكن يعلمها إلا الله على حد قوله، وعندما فكر عام 1913 أن يُرشح نفسه لعضوية الجمعية التشريعية -لعل هذا الترشح يُمحي خطيئة دنشواي- لُفِظ من المنصب، وانفض عنه بعدها المتقاضون، أغلق مكتبه واحتجب في مزرعته في البحيرة، وعند اغتيال (بطرس باشا غالي) على يد الصيدلي (إبراهيم الورداني) تَطوع للدفاع عن المتهم؛ كتكفير للذنب ومنها للدفاع عن المتهمين في مقتل اللورد (كتشنر)، والتحق بحزب الوفد بعد ثورة 1919 ورشح نفسه في مجلس نواب 1923 وكانت اللعنات تطارده في أي مَحفَل أو بهو محكمة أو سُرادق عند ظهوره بجملة (ليسقُط جلاد دنشواي)، أفلس عام 1930 وحُجز على أراضيه ووقف باكيًا في ساحة المحكمة يترافع في قضية ملكيته لمنزلهِ.
قفز هذا النموذج لذهني وأنا أطالع السنوات العشر الأخيرة على الساحة السياسية والاجتماعية في مصر؛ من كُتاب وسياسيين ونُشطاء وصحفيين ومُمثلين ومُذيعين وحتى لاعبي كرة القدم؛ نماذج لم تَتبع الضمير واستَعدْت الوطن وانساقت خلف الأموال؛ سواء بالعمالة الصريحة لدول أرادت بمصر الشر أو سرًا بتوجيه الرأى العام للبلبلة والإثارة وتَعمُد التشكيك ليومنا هذا في أى إنجازات على أرض الواقع، أو بتبني أيديولوچية جماعات أرادت الخراب للوطن؛ هؤلاء لم ينتبهوا للتاريخ ولطبيعة الشعب المصري؛ الذي على الرغم من طيبته وتسامحه وضعف ذاكرته أحيانًا إلا أنه يملك حسًا شفافًا لفرز العُملاء وقد يغفر أي شيء إلا خيانة الأرض، فيلفُظ هؤلاء ويشطب أسمائهم من مضبطته؛ ويعيش الخائن بين مُطاردٍ وملعونٍ ينشُد المَرحَمة من الشعب، والنهاية من وإلى الهلباوي.