السبت 23 نوفمبر 2024

مقالات

العقل العربى بين قداسة النص وصرامة العلم

  • 3-11-2021 | 20:36
طباعة

فى إجابته عن سؤال حول: ما هى النصيحة التى توَجه للباحث فى تاريخ علم الأديان للتوفيق بين قداسة النص وصرامة العلم، أجاب «فراس السواح» المفكر السورى المعروف بقوله:

"إن أفضل وسيلة لفهم النص؛ هى نزع القداسة عنه مادام الباحث تحت سلطة النص فلن يستطع أن يفهمه فهمًا صحيحًا، كلما نزعت عن النص الدينى رداء القداسة كلما نجحت فى دراسته دراسة موضوعية». نعم.. إن تطور المجتمعات حضاريًا وفكريًا ومعرفيًا وعلى نحو دائم ومستمر، يقتضى – كما ذكر المفكر العربى الأستاذ مصطفى سكرى – أن يكون الدين، أى دين، متطورًا من الناحية المعرفية والاجتماعية والاقتصادية ليلائم الأوضاع الجديدة التى تطرأ، ويتكيف معها بغية تحقيق وحدة حضارية تضم كل البشر تحت جناحيها. ويقول المفكر الإيرانى على شريعتي: «إن الأمة التى تفكر على نمط واحد أمة ميتة، لأنها فى الحقيقة لا تفكر.. التفكير على نمط واحد بمنزلة عدم التفكير".

 

وفيما يتعلق بموقف مجتمعاتنا من العلم يؤكد د. فؤاد زكريا فى كتابه «التفكير العلمي» أنه فى الوقت الذى أفلح فيه العالَم المتقدم فى تكوين تراث علمى راسخ امتد فى العصر الحديث إلى ما يزيد على أربعة قرون، وأصبح يمثل فى حياة هذه المجتمعات اتجاهًا ثابتًا يستحيل العدول عنه أو الرجوع فيه، فى هذا الوقت ذاته يخوض المفكرون فى عالمنا العربى معركة ضارية فى سبيل إقرار أبسط مبادئ التفكير العلمي، ويبدو حتى اليوم، ونحن نمضى قدمًا إلى منتصف القرن الحادى والعشرين، أن نتيجة هذه المعركة مازالت على كفة الميزان، بل قد يُخَيَّل إلى المرء فى ساعات تشاؤم معينة أن احتمال الانتصار فيها أضعف من احتمال الهزيمة.

وفى هذا السياق يشير د. فؤاد زكريا إلى أمرين يدخلان فى باب العجائب حول موقفنا من العلم فى الماضى والحاضر:

الأمر الأول هو أننا، بعد أن بدأ تراثنا العلمي، فى العصر الذهبى للحضارة الإسلامية، بداية قوية ناضجة سَبَقنا بها النهضة الأوروبية الحديثة بقرون عديدة، مازلنا إلى اليوم نتجادل حول أبسط مبادئ التفكير العلمى وبديهياته الأساسية. ولو كان خط التقدم ظل متصلاً، منذ نهضتنا العلمية القديمة حتى اليوم، لكنا قد سَبَقنا العالَم كله فى هذا المضمار إلى حد يستحيل معه أن يلحق بنا الآخرون. ومع ذلك ففى الوقت الذين يصعدون فيه إلى القمر والكواكب الأخرى، نتجادل نحن عما إذا كانت للأشياء أسبابها المحددة وللطبيعة قوانينها الثابتة، أم العكس.

وأما الأمر الثانى فهو أننا لا نكف عن الزهو بماضينا العلمى المجيد، ولكننا فى حاضرنا نقاوم العلم أشد مقاومة. بل إن الأشخاص الذين يحرصون على تأكيد الدور الرائد الذى قام به العلماء المسلمون فى العصر الزاهى للحضارة الإسلامية، هم أنفسهم الذين يحاربون التفكير العلمى فى أيامنا هذه. ففى أغلب الأحيان تأتى الدعوة إلى الدفاع عن العناصر اللاعقلية فى حياتنا، والهجوم على أية محاولة لإقرار أبسط أصول التفكير المنطقى والعلمى المنظم، وجعلها أساسًا ثابتًا من أسس حياتنا – تأتى هذه الدعوة – من أولئك الأشخاص الذين يحرصون، فى شتى المناسبات على التفاخر أمام الغربيين بأن علماء المسلمين سبقوهم إلى كثير من أساليب التفكير والنظريات العلمية التى لم تعرفها أوروبا إلا فى وقت متأخر، وما كان لها أن تتوصل إلى ما توصلت إليه لولا الجهود الرائدة للعلم الإسلامى الذى تأثر به الأوروبيون تأثرًا لا شك فيه.

ومن الواضح أن هذا الموقف يعبر عن تناقض صارخ: إذ إن المفروض فيمن يزهو بإنجازاتنا العلمية الماضية أن يكون نصيرًا للعلم، داعيًا إلى الأخذ بأسبابه فى الحاضر، حتى تتاح لنا العودة إلى تلك القمة التى بلغناها فى عصر مضى، أما أن نتفاخر بعلم قديم، ونستخف بالعلم الحديث أو نحاربه، فهذا – كما يقول د. فؤاد زكريا – أمر يبدو مستعصيًا على الفهم.

يفسر فؤاد زكريا هذا التناقض بقوله: «يكمن تفسير هذا التناقض فى أحد أمرين، فمن الجائز أن أولئك الذين يفخرون بعلمنا القديم إنما يفعلون ذلك لأنه «من صنعنا نحن»، أى أنهم يعبرون بذلك عن نوع من الاعتزاز القومي، ومن ثمَّ فهم لا يأبهون بالعلم الحديث مادام «من صنع الآخرين». ومن الجائز أيضًا أن تأكيدهم لأمجاد المسلمين فى ميدان العلم إنما يرجع إلى اعتزازهم «بالتراث»، أيًا كان ميدانه، ومن ثمَّ فإن كل ما يخرج عن نطاق هذا التراث يستحق الإدانة أو الاستخفاف فى نظرهم. وسواء أكان التعليل هو هذا أو ذاك، فإن العلم الذى وصلنا إليه فى الفترة الزاهية من الحضارة الإسلامية لا يُمَجّد لأنه «علم»، بل لأنه واحدٌ من تلك العناصر التى تتيح للمسلمين أن يعتزوا بأنفسهم، أو بتراثهم.

وإذا شئنا أن نكون متسقين مع أنفسنا، وإذا أردنا أن نتجاوز مرحلة اجترار الماضى والتغنى بأمجاد الأجداد، وإذا شئنا ألا نبدو أمام العالَم كما يبدو أولئك العاطلون الذين لا رصيد لهم من الدنيا سوى أن أجدادهم القدامى كانوا يحملون لقب «باشا» أو «لورد» أو «بارون»، فعلينا أن نحترم العلم فى الحاضر مثلما احترمناه فى الماضي، وأن نعترف بأن هذا الأسلوب من التفكير العلمى ينبغى أن يكون هدفًا من أهدافنا الرئيسة التى نحرص عليها فى الحاضر، وأن المعركة التى يشنها الفكر المتخلف ضد كل من يدعو إلى النهج العلمى فى التفكير، سيقف عائقًا فى وجه جهودنا من أجل اللحاق بركب العصر.

أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس

الاكثر قراءة