أحيانا يجد الصحفى نفسه مضطراً لنشر وثيقة مهمة مجهولة، بدون مناسبة، وهذا ما حدث معى هذا الأسبوع حين وقعت فى يدى وثيقتين مهمتين، الأولى عنوانها (طالب الكلية الحربية) عن الزعيم جمال عبد الناصر وكتبها الأميرالاى محمد فوزى مدير الكلية الحربية.. والوثيقة الأخرى عنوانها: (الأومباشى الطالب.. "جيمى".. و"روبنسون ").. وصاحبها اللواء ا.ح عبد الواحد عمار أول مدير للكلية الحربية بعد الثورة.
للحظة.. فكرت وبعدها قررت أن أنشر تلك الشهادة الوثيقة عندما تقترب ذكرى ميلاد الزعيم الخالد فى 15 يناير 1918.. سيما أن ذكرى وفاته فى 28 سبتمبر 1970 قد عدت وفاتت.
ولكن.. من الذى يضمن ألا تجد هذه الوثائق المنسية طريقها إلى صحفى أخر.. فينشرها قبلى!
وبسبب خشيتى أن تجد هذه الوثائق طريقها للنور فكرت وقررت بشكل نهائى أن أنشرها.. بدون مناسبة.. فهى نفسها الكشف عنها ونشرها مناسبة ..وليس مهماً أن يطلق سراحها وتخرج للنور في يوم مولد الزعيم الخالد.. ولا في يوم رحيله العظيم ولا فى يوم ثورته المجيدة!
فى هذا المقال ستعرفون ما الذى كتبه الأميرالاى محمد فوزى عن جمال عبد الناصر.. والأسبوع المقبل ستعرفون كيف نشأت ونمت وترعرعت داخل أسوار الكلية الحربية قصة الصداقة المتينة الحميمة بين الزعيم جمال عبد الناصر- جيمى- والمشير عبد الحكيم عامر روبنسون كروزو، وهو اللقب الذى كان جمال يناديه به.
ستقرأ الآن النص الكامل للوثيقة الأولى طالب الكلية الحربية حسبما كتبها وقتها مدير الكلية الحربية الذى أصبح فيما بعد قائداً عاماً للقوات المسلحة بعد حرب 1967:
"دخل جمال الكلية الحربية طالبا لأول مرة فى 17 مارس سنة 1937، مع مجموعة من الطلبة المستجدين تتألف من 44 طالباً.. وكان طلبة الكلية الحربية وقتئذ ينقسمون إلى سريتين.. سرية أولى وسرية ثانية، وكانت الأخيرة من نصيب جمال عبد الناصر.
وتبدأ الدراسة فى الكلية بفترة اختبار لا تتجاوز خمسة شهور، يراقب خلالها سلوك الطالب الخلقى والرياضى وميوله النفسية وجهوده التعليمية، ويتلقى خلال هذه الفترة بعض العلوم العسكرية، تمهيد لمعرفة مدى صلاحيته للحياة العسكرية.
وفى نهاية فترة الاختبار هذه، أصدر مجلس الكلية قراراً بصلاحية الطالب جمال للحياة العسكرية، وقيد اسمه بالقسم الاعدادى بالكلية، وقبل ضمن طلبتها.
وفى القسم الإعدادى تعرف جمال على الأسس المشتركة بالنسبة للوحدات الصغرى فى جميع الأسلحة، وتدرب عملياً على أعمال الميدان، وتلقن صفات القيادة ومقوماتها والاصطلاحات الفنية والتكتيكية التى تسمح له بالإلمام بطرق الحرب ووسائلها، كفرد وكقائد جماعة فى الميدان.
ومن القسم الإعدادي انتقل جمال إلى القسم المتوسط، حيث تدرب على قيادة الجماعة المشاة، وتأهل ليكون قائد فصيلة فى الميدان، وبذلك ألم بالوسائل الميدانية الخاصة بمواد الحرب، وهي فن القتال وهندسة الميدان والطبوغرافيا والإشارة.
وخلال هذه المراحل، كان جمال مثال الطالب الكفء المجد، حتى إذا انتقل من القسم المتوسط إلى القسم النهائي، أو المرحلة الأخيرة فى الدراسة، كانت كفايته العسكرية قد بلغت درجة عالية جداً جعلت القائمين علي الكلية يسندون إليه سلطات قائد الجماعة.
ورتبة قائد الجماعة رتبة عسكرية، لا تمنح إلا للطلبة المتفوقين فى الدفعة، ومن سلطاتها أنها تمنح حاملها الحق فى تأهيل الطلبة المستجدين، فيعلمهم كيفية معاملتهم لرؤسائهم بالطريقة التى توحى بها إليه شخصيته وتكوينه العسكرى، واستعداده لاكتساب القيادة من طريقة التأهيل والتعليم.
وأذكر أن بين الذين استجدوا، عندما كان الطالب جمال عبد الناصر قائد جماعة فى الكلية، الطالب محمد عبد الحكيم على عامر القائد العام للقوات المسلحة.
فقد التحق بالكلية فى أوائل سنة 1938، وكان جمال مسئولأ عن تأهيله عسكرياً مع المستجدين، الذين كان مكلفأ بإرشادهم إلى طريقة ارتداء ملابسهم، وإظهارهم بالمظهر اللائق عسكريا، وأسلوب معاملتهم لزملائهم، واستعدادهم من الناحية العسكرية، وتفاهمهم مع بعضهم، وتعارفهم بالشكل الذى يولد "الجماعة" لفظا ومعنى.
ما زلت أنقل إليكم ما حوته وثيقة أو شهادة الأميرالاى محمد فوزي مدير الكلية الحربية عن طالب الكلية جمال عبد الناصر.
وأمضي جمال في الكلية 16 شهراً، دخل بعدها الامتحان النهائي للتخرج، وحصل على نسبة مئوية قدرها 71% من مجموع درجات النجاح في جميع المواد.
ففى مادة التنظيم القومى التى نسميها اليوم مادة القومية العربية وهى المادة التى يجب أن يعرفها ويتفهمها جيداً كل مواطن يسعى لبناء الوطن العربى حصل جمال عبد الناصر على 72% من مجموع درجاتها.
كما حصل على 95% فى مادة التنظيم والإدارة، وهى المادة التى تؤهل الفرد العسكرى للعمل السريع المنتج، على أسس سهلة، وقواعد تنظيمية دقيقة، مع توفير فى الوقت والجهد.
وفى مادة التاريخ العسكرى والإستراتيجية، حصل جمال على 68%، وهذه النسبة تعتبر عالية إذا قيست بمستوى الطلبة وقتئذ، لأنها كانت مادة جديدة، يصعب على الطالب أن يصل إلى مستواها دون أن تكون لديه الرغبة الصادقة فى دراسة هذا النوع من الثقافة العسكرية التى تحتاج إلى استنتاجات سليمة لحوادث تاريخية، يجب أن يدرسها الطالب بعمق وفهم.
وفى مادة الرياضيات والعلوم، حصل على 81%، وهي نسبة كبيرة جدا، يندر أن يحصل عليها طالب من الكلية الحربية في الوقت الحاضر، وتدل على أنه يتمتع بقدرة عددية وتفكير منطقي سليم.
هكذا كانت أرقام الطالب جمال عبد الناصر فى القسم النهائي، وهى تدل على طالب مجد واع فاهم، يريد أن يثبت وجوده، ويطمع فى بناء مستقبل باسم.
ونجح جمال وتخرج فى الكلية الحربية يوم أول يوليو1938، والتحق ملازما ثانياً بسلاح المشاة.
وسلاح المشاة هو السلاح الرئيسى للجيش الذى يكسب المعركة فى النهاية، أما باقى الأسلحة فتساعده على تحقيق هذا الغرض، وشعار هذا السلاح هو "النصر لنا".
ولذلك يختار الجيش ضباط سلاح المشاة ممن تتوفر فيهم القدرة على القيادة والدراية التامة بالتنظيم وقوة التحمل البدنية والنفسية والجرأة والإقدام.. لأن الضابط فى سلاح المشاة هو المضحى الأول، ورأس الحربة عندما يبدأ القتال فى الميدان.
ومازلت أنقل لكم شهادة الأميرالاى محمد فوزى عن الطالب جمال عبد الناصر.
لقد تنقل جمال فى مختلف أنحاء البلاد.. فعمل بكتيبة البنادق الخامسة فى منقباد، ثم سافر إلى الخرطوم وجبل الأولياء، ورقي ملازما أول فى مايو1940، ثم إلى رتبة يورباشى فى سبتمبر 1942.. وفى يوم 7 فبراير 1943 انتدب للتدريس بالكلية الحربية.
وعمل جمال مدرسأ بالسرية الأولى، وتتلمذ على يديه كثيرون من ضباط الجيش الحاليين، وكان فى عمله مثالاً للمدرس الفاهم الواعى الذى يحترم نفسه احتراماً شديداً، ويحترم علمه، ويحترم تلاميذه، ويحترمه تلاميذه...لا.. بل أستطيع أن أقول أكثر من هذا.. فقد اتخذه بعض الكلبة مثلأ أعلى لهم من بين 50 مدرسأ فى الكلية الحربية وقتئذ.
وقد لا يعلم الكثيرون أن الطالب فى الكلية الحربية -وقد يكون فى غيرها من المعاهد والكليات- يعجب بأستاذ ما بين أساتذته، يجد فيه ما يرضى مثله الأعلى، فيتخذ من شخصيته هاديأ له فى حياته العملية، ويقلده فى مشيته وكلامه وحركاته وضحكاته وغير ذلك من أمور.. ومن هنا ترى الطالب يفخر بأنه تلميذ الأستاذ فلان، فى حين أن هذا الأستاذ كان أحد 20 أو30 مدرسأ يمثلون هيئة التدريس للطالب وزملائه، ولكن التلميذ يختار واحدأ، يشرف نفسه بالتلمذة على يديه وحده، لأنه فى نظره القدوة الحسنة.. ولقد ظفر جمال بإعجاب جميع الطلبة الذين تولى التدريس لهم..وكان لهذا الإعجاب فيما بعد أثر كبير فى تأييدهم له، وإصغائهم إلى أرائه، والتفافهم حوله، عندما قام ينادى بالحرية والاستقلال الوطنى، ويتزعم ثورة مصر الكبرى.. ثورة 23 يوليو1952.