الجمعة 19 ابريل 2024

رحلةٌ عبر آثار مصر الخالدة (1)

مقالات5-12-2021 | 16:19

مدينة الأقصر وطريق الكباش

 

يخترق قلبها النيل، يشطرها إلى شطرين لا ينفصمان، يلتقيان ولا يفترقان، كأنما سهمُ الحب اخترق قلبها فسكنه دون أن يشطره. ينام النيل فى أحضانها، وتضمه بين ذراعيها إلى صدرها، تتخذه وسادة لها، وتعيش معه فى عناق ممتد من الأزل وإلى الأبد.

هى مدينة تكسنها الشمس، تفترش ساحاتها، ولا تبرح أبواب بيوتها، ونوافذها، وساحاتها، فلا غرو أن كانت تُنسب إلى الشمس فتعرف بـ "مدينة الشمس"، أو "مدينة النور".

طيّبةٌ أرضها، تلك الطيبة التى صبغت بها أهلها حتى أدرك الرومان الغرباء هذه الطيبة، فأطلقوا عليها اسم "طيبة"، وكثيرةٌ أبوابها المفتوحة الأذرع للغريب والقريب، وكثيرةٌ أبوابها المبتسمة، المرحبة بالضياء وبالبشر، حتى وصفها وصفها الشاعر الإغريقى هوميروس فى الإلياذة بــ "مدينة المائة باب".

عاشت الأقصر عصوراً من الزهو والسطوة والسلطة فكانت مدينة المُلك والحكم و"مدينة الصولجان"، وما أكثر ما كان فيها من قصور تستلب النظر، وتستثير الدهشة والعجب، حتى أطلق عليها العرب "الأقصر"، وهو جمع الجمع لكلمة قصر، من كثرة ما شاهدوا فيها من أبنية الفراعنة ومعابدهم، التى استرعت أنظارهم وأخذت بعقولهم، فتصورورها كقصور كسرى والنعمان تلك التى لم يشاهدوا غيرها.

عجوز هى مدينة الأقصر، لكنها لا زالت تحتفظ بشبابها، شبابها المتجدد دائماً، تضرب بجذورها فى عمق التاريخ، حيث تصل جذورها إلى عصر الأسرة الرابعة حوالى عام 2575 ق.م، فتحولت من مجموعة من الأكواخ الفقيرة البسيطة المتجاورة إلى مدينة عظيمة البنيان، قوية الأركان، مدينة للسلطة والصولجان، فعاشت عصراً طويلاً وممتداً من المجد والسيادة، خلال عهدى الدولة الوسطى والحديثة فى مصر القديمة وحتى نهاية حكم الفراعنة والأسرة الحادية والثلاثون على يد الفرس 332 ق.م. وعبر هذا التاريخ الطويل الممتد كوّنت الأقصر شخصيتها، وشكلت هويتها، واحتفظت بتراثها وآثارها فكانت لها هذه المكانة التى وصلت لها واحتفظت بها فى سجل التاريخ حتى يومنا هذا.

مدينة الاقصر وطريق الكباش

 وهى مدينة الأحياء.. والأموات، فكما تحتفى مدينة الأقصر بالأحياء والحياة بين جنباتها وعلى صفحة نيلها وعلى ضفافه، وعلى الرغم مما تعج فيها من صخب وضجيج، فهى لا تنسى الأموات، ولا ذكرياتهم، وتحتفظ برفاتهم مختلطاً بترابها، وبآثارهم بين جنباتها، فى برها الغربى وبرها الشرقي. فكانت الأقصر مدفناً كبيراً للحكام والنبلاء الأقاليمِ منذ عصر الدولة القديمة وما بعدها. وقسمت نفسها ما بين الحياة والموت، فجعلت للحياة والأحياء نصيباً منها، وجعلت للموت والموتى مكاناً فيها، فقد اعتبرها المصريون القدماء، أو بالأحرى اعتبروا الشاطئ الشرقى للنيل منها، داراً للحياة ففيه يسكنون، ويعيشون، ويذهبون للتعبد فى المعابد المجاورة لهم، بينما اعتبروا جانبها الغربي، أو البر الغربى لها، داراً للممات والأموات، فكانوا ينحتون فيه مقابرهم، أو يبنونها، مع عدد قليل من المعابد الجنائزية، أما المعابد الكبيرة ومنها الأقصر، والكرنك فكانت فى مدينة الأحياء على الضفة الشرقية للنيل.

وهى مدينة متحفية بحق، قصدها ويقصدها الزائرون على مرِّ التاريخ، المتجول فيها يتجول فى متحف مفتوح للآثار الفرعونية، أينما وقعت عينه وجد الأثر، والبشر الذين يحفظون التاريخ والأثر. ومن وقت لآخر، نُفاجىء بما يحتفظ باطن أرضها من كنوز، ولعل هناك الكثير مما لم يكشف عنه بعد.

يقال أنّ الأقصر تضمّ ما يقارب ثلث آثار العالم، كما أنها تضم العديد من المعالم الأثرية الفرعونية القديمة مقسمة على البرّين الشرقى والغربى للمدينة، يضم البر الشرقى معبد الأقصر، معبد الكرنك، وطريق الكباش الرابط بين المعبدين، ومتحف الأقصر، أما البر الغربى فيضم وادى الملوك، ووادى الملكات ودير المدينة، مقر عائلات العمال والحرفيين والفنانيين الذين كانوا يقومون ببناء مقابر الفراعنة والنبلاء بالقرب منهم، ومعبد الدير البحرى المعبد الجنائزى للملكة حتشبسوت، ومعبد الرامسيوم المعبد التذكارى للملك رمسيس الثاني، ومعبد مدينة هابو للملك رمسيس الثالث، وتمثالا "ممنون" وهما كل ما تبقى من المعبد الجنائزى للملك أمنحتب الثالث.

والأقصر مدينة فريدة فى تاريخها، وطابعها، وآثارها، كانت ولا تزال محط أنظار العالم وحديثه، وآخرها افتتاح طريق الكباش، الذى يربط بين معبد الكرنك ومعبد الأقصر، وقد تم اكتشافه فى مدينة طيبة القديمة، حيث تصطف تماثيل أبو الهول والتماثيل برأس الكبش على الجانبين.

 

يُعرف هذا الطريق تاريخياً بأنه طريق مواكب الآلهة، ويعود لعصر الأسرة الثامنة عشرة من الدولة المصرية القديمة فى عهد الملكة حتشبسوت للاحتفال بعيد "الإبت" قبل أن يندثر الطريق تحت الأرض بمرور القرون وتعاقب الأزمنة. وهو احتفال مصرى قديم كان يقام سنوياً فى عهد الدولة الحديثة وما بعدها، وفيه كانت تصطحب تماثيل آلهة ثالوث طيبة (آمون وموت وابنهما خونسو) مختفين عن الأنظار داخل مراكبهم المقدسة فى موكب احتفالى كبير، من معبد آمون فى الكرنك، إلى معبد الأقصر، فى رحلة تمتد لأكثر من كيلومترين، وما يتم إبرازه فى هذا الطقس هو لقاء أمون رع من الكرنك مع أمون الأقصر، وتجديد الولادة هو الموضوع الرئيسى فى احتفال "الإبت"، وعادة ما يتضمن احتفالية لإعادة تتويج الملك كذلك.

يزيد عمر هذا الطريق على 3500 عاماً، ويبلغ طوله 2700 متراً، وعرضه 75 متراً تقريباً، ويتكون من رصيف حجرى فى المنتصف بطول الطريق، يصطف على جانبيه قرابة 1300 تمثالاً، تتخذ أشكالأ ثلاث، منها: ما هو على شكل كبش كامل، أو على شكل رأس كبش وجسد أسد، أو على شكل أبى الهول برأس إنسان وجسد أسد.

بعض تماثيل الكباش في طريق الكباش التي تأخذ شكل رأس كبش وجسد أسد

بعض تماثيل الكباش في طريق الكباش التي تأخذ شكل رأس كبش وجسد أسد

بدأ بناء طريق الكباش خلال عصر الدولة الحديثة واكتمل فى عهد حاكم الأسرة الثلاثون "نختنبو الأول" (362-380 ق.م)، لكن الطريق دُفن تحت طبقات من الرمال على مر القرون. وتمَّ العثور على أول أثر للطريق فى عام 1949م عندما اكتشف عالم الآثار المصرى زكريا غنيم ثمانية تماثيل بالقرب من معبد الأقصر، مع اكتشاف 17 تمثالًا آخر من 1958 إلى 1961 و55 تمَّ اكتشافها بين عامى 1961 إلى 1964، كل ذلك فى محيط 250 متراً.

ومنذ عام 1984 إلى عام 2000، تم تحديد مسار الممشى بالكامل أخيرًا، تاركًا للحفارات ‏للكشف عن الطريق، ولكن الأمر كان صعباً حيث ترتب عليه عمليات هدم لافساح المجال ‏للطريق. وقد بدأ فى مشروع تطوير طريق الكباش عام 2007، وتوقف فى 2011، ثم استؤنف العمل فى 2017 حتى عام 2021. وفى 25 نوفمبر 2021، افتتحت مصر طريق الكباش للجمهور، بحضور الرئيس المصرى عبد الفتاح السيسي، فى احتفال مهيب وعرض مبهر، بعد أن أنهت أعمال الترميم التى استغرقت أكثر من سبعة عقود.