الخميس 16 مايو 2024

لماذ تخلفنا.. وتقدم الآخرون؟

مقالات8-12-2021 | 17:38

يحكى أن ذئبًا سكن أعلى أحد التلال على مقربة من نبع ماء، وفي صباح أحد الأيام وقع بصر الذئب على حَمَل صغير وسمين يتهادى عند سَفْح التل، وحين أقدم الحَمَل على الشرب من الماء المنحدر من أعلى التل؛ انتابت الذئب رغبة جامحة في افتراسه، فاتهمه بأنه يعكر عليه صفو الماء؛ قاصدًا إهانته وإيقاع الأذى به.

 

استنكر الحَمَل هذه التهمة الباطلة، ودافع عن نفسه؛ قائلاً: «كيف أعكر عليك صفو الماء!! وأنا أرتشف منه عند السفح، في حين أنك سيدي تسكن أعلى التل؟! فهل يجري ماء النهر من أسفل إلى أعلى؟!». 

صمَّ الذئب أذنيه، ولم يُعْر دفاع الحَمَل أدنى اهتمام، وانقض عليه والتهمه.  

لا أدري لماذا تذكرت هذه الحكاية  الرمزية حين علمت بصدور حكم يقضي بسجن المستشار أحمد عبده ماهر خمس سنوات بتهمة «ازدراء الأديان»، أو حين صدور أية أحكام بسجن أو اعتقال كل صاحب رأي مخالف لما هو سائد دينيًا أو سياسيًا. إن تهمة «ازدراء الأديان» هى تكئة لمصادرة حرية الفكر والاعتقاد؛ وهى أشبه بتهمة تعكير الماء التي ألصقها الذئب بالحَمَل. إن قانون «ازدراء الأديان» يتعارض مع بعض نصوص الدستور المصري، وهو يُطَبّق عادةً على من يُرَاد تكميم أفواههم وقصف أقلامهم. فضلاً عن أن لفظ «الأديان» في هذا القانون يعتريه اللبس والغموض. ما المقصود «بالأديان»؟ هل المقصود حماية «الدين الإسلامي» وحده دون غيره؟ أم المقصود الأديان الثلاثة السماوية؟ أم أن المقصود كافة الأديان سواء أكانت سماوية أو وضعية؟ وإذا كان الغاية حماية كافة الأديان؛ فلماذا نجد أن كل مَنْ أُلْصِّقت به تلك التهمة كان مسلمًا نُسِبَ إليه الإساءة إلى الإسلام والتطاول على رموزه ومقدساته الدينية. في حين أن بعض الدعاة المتشددين يقوم الواحد منهم بتوجيه سهام النقد للديانة المسيحية أو اليهودية أو غيرهما، ويصل به النقد إلى حد الطعن في صحة تلك العقائد دون خشية اتهامه بازدراء الأديان. يقوم بذلك، وهو مطمئن تمامًا أن قانون ازدراء الأديان لن يطاله، لذلك لم نسمع يومًا أن أحدًا قد حُوكِمَ بتهمة ازدراء الديانة المسيحية أو اليهودية أو البهائية؛ رغم كم السب والشتائم الموجه، ليل نهار، لتلك الأديان ومعتنقيها. إن قانون «ازدراء الأديان» يفتقر إلى الضوابط التي تحدد بدقة مَنْ المخول له توجيه هذه التهمة؟ وإلى من يجب توجيهها؟ أي: ما هو السقف الذي إذا تجاوزه المرء جاز اتهامه بتلك التهمة الهلامية؟   

إن المجتمعات التي ارتقت، كان سر رقيها سماحها بحرية الرأي والاعتقاد، وسيادة الرأي والرأي الآخر، وفتح المجال رحبًا أمام حرية نقد الحاكم ومحاسبته. وصارت الحرية مكونًا رئيسيًا للضمير الجمعي. لقد أدركت تلك المجتمعات أنه لا وجود لعصا سحرية يمكن بواسطتها تغيير الواقع المعيش إلى واقع أكثر رقيًا وتقدمًا، وإن تغيير البنى التحتية لا يؤدي حتمًا إلى تغيير مماثل في البنية العقلية والنفسية للإنسان. وهذا معناه أنه مهما بلغت قيمة الجهود المبذولة لتطوير الحجر، فإنها لن تؤدي بالضرورة إلى تطوير البشر ورقيهم. 

في بلادنا ترسخت «الطاعة» في وجدان الناس بوصفها فضيلة كبرى تطالب بها الأسرة كصفة يتحلى بها «الولد الشاطر» و«البنت الجميلة المؤدبة»، وتطالب بها المدرسة والجامعة كصفة تميز الطالب المجتهد، وحين يلتحق المرء بالعمل تكون الطاعة هى السبيل المضمون للحصول على رضاء الرؤساء، والحصول على تقرير «ممتاز» سنويًا. والطاعة هى دومًا مطلب الدعاة الدينيين ورجالات السياسة. 

وإذا حاول  شخص ما التغريد خارج السرب لاحقته اتهامات سياسية بالخيانة والعمالة وتعريض أمن البلاد للخطر، أو اتهامات دينية بالكفر والإلحاد وازدراء الأديان. 

إن تهمة «ازدراء الأديان» هى إذن واحدة ضمن قائمة طويلة من الاتهامات التي لها أول وليس لها آخر؛ وجميعها تستهدف مصادرة حرية التعبير عن الرأي. إن وجود ذلك القانون الذي يسمح بتوجيه تهمة «ازدراء الأديان» لكل من يحاول فحص التراث الإسلامي ونقده ليس هو العقبة الوحيدة التي تحول دون رقي مجتمعاتنا وتقدمها؛ ذلك لأن التراث لا ينحصر وجوده بين دفتي كتاب لهذا الفقيه أو ذاك، بل هو مخزون عقلي ووجداني لدى رجل الشارع في بلادنا، يقود الناس ويوجه سلوكهم! من هنا ندرك أهمية فحص تراثنا ونقده مما يؤدي بدوره إلى فحص الأفكار المعتمة والمتجذرة في عقول الناس حتى اليوم؛ أفكار جاءت عبر قرون مضت، وسادت في الماضي نتيجةً لظروف معينة انقضت، وتختلف في جوانب كثيرة عن ظروفنا التي نعيشها في بداية العقد الثالث من الألفية الثالثة. إن مصادرة حرية المفكرين في فحص التراث ونقده تعني إجهاض كل محاولة لتنوير عقول الناس والأخذ بيدهم نحو طريق الرقي والتقدم. هكذا ندرك من أين يستمد رجال الدين والسياسيون سلطتهم؛ إنهم يستمدونها من تملقهم العواطف الدينية للجماهير. وبالتالي فإن إلغاء ذلك القانون لن يُصلح حال البلاد والعباد؛ بل المطلوب هو ألا يقتصر الأمر على إلغاء  هذا القانون وحده؛ بل الأمر يتطلب إلغاءه وإلغاء كافة القوانين المقيدة لحرية الإنسان في التعبير عن رأيه. إن غياب حرية التعبير عن الرأي هو السبب الحقيقي لتخلف مجتمعاتنا في الوقت الذي تقدم فيه غيرنا ممن أدركوا قيمة الحرية. 

حين يصدر حكم بالسجن على المستشار أحمد ماهر أو غيره ممن أحسنوا الظن بالدعوة إلى تجديد الفكر الديني؛ فإن هذه العقوبة تعني أمرين اثنين: 

أولاً: معاقبة من تجاسر على الكلام بما يخالف ما هو سائد. 

ثانيًا: ردع كل من يحاول أن يقتدي بمن تجاسر على الكلام. 

النتيجة الطبيعية لذلك هى أن الصمت سوف يخيم على الجميع، كما سيتولد نوعٌ من الخوف الداخلي لدى الكافة، خوفٌ يمثل رقيبًا داخليًا يمنع المواطن من التجاسر على مخالفة ما هو سائد. وهكذا يُغْتَال الفكر والإبداع. إن إخصاء المجتمع فكريًا يؤدي حتمًا إلى عقم ذلك المجتمع وتخلفه. المشكلة لا تكمن في «ازدراء الأديان»؛ وإنما تكمن في «ازدراء حرية الإنسان».  

 

** أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس