الإثنين 25 نوفمبر 2024

مقالات

حانة الست: أم كلثوم تروى قصتها المحجوبة

  • 9-12-2021 | 12:04
طباعة

الانتقام من تقديس ما لا يقدس!

إن أحد وظائف الأدب هو أن ينقل لنا الروائى رؤاه للعالم والمجتمع ثم يمضى لملاقاة مصيره: إما بالقتل والاختفاء القسرى على يد رولان بارت ذاك إذ كان حظه عسرًا! أما إذا امتلك بعضًا من يسر القدر فسيحيا على يد ماركس وفرويد والمناهج النقدية التاريخية والاجتماعية والنفسية.
فما هى رؤية الروائى محمد بركة للعالم فى روايته البديعة حانة الست: أم كلثوم تروى قصتها المحجوبة؟
أشعر أن المؤلف يهاتفنا بشكل ضمنى داخل روايته قائلًا لنا: أيها السادة: لقد قدستم ما لا يقدس، فجعلتم من بشر عادى إله ورمز، فحولتموه إلى شخص لا يخطأ ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ولا حتى من حنجرته! فنزعتم عنه انسانيته وبشريته، فدعونى أقل لكم الحقيقة هنا بداخل روايتي، ولكى تتأكدوا من صدق أدلتى فأم كلثوم ذاتها هى التى ستقدمها لكم وأنا لست مجرد سوى راصد لسيرتها المحجوبة.
هذا هى رؤيته كما فهمها عقلى البسيط، فماذا تحمل تلك الرؤية بداخلها؟

إن رحلة نزوح الروائى محمد بركة من دمياط إلى القاهرة تشابه رحلة وصول أم كلثوم لذات المدينة من المنصورة واستقرارهما بها، فكلاهما ينتميان لطبقة اجتماعية بسيطة تحمل بداخلها أحلام البروليتاريا فى التخلص من الطبقة البرجوازية المسيطرة فماذا كانت نتيجة ذلك الصراع؟
أم كلثوم استطاعت الصعود لقمة الهرم الغنائى فتحولت إلى مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا كرد فعل لمرحلة افتراسها فى بداية حياتها، فتحكمت فى كل من حولها وحولته لأداة إنتاج بيدها، بينما بركة فى رحلة صعوده واجهته صعوبات جمة من أجل التحقق والانتشار فاختار طريق الصدام مع ثوابت أو ما يعتقد فى الضمير الداخلى أنه ثوابت، بدا ذلك جليًا فى روايته الأولى الفضيحة الايطالية التى اصطدم فيها بأولى الثوابت بإقامته علاقة جنسية فاضحة مع حسناء ايطالية فى شهر رمضان! وها هو الآن فى حانة الست يصدم المجتمع ويضرب فى مقتل ثابتا من ثوابته المهمة وهو تأليه الرموز، وإذا مددنا الخط على استقامته للأمام ومن قراءة ماضى وحاضر محمد بركة الروائى فيمكننا بكل بساطة إرهاص مستقبله، فالمتوقع أن يكمل بركة مسيرته الروائية التصادمية من خلال خطوطها المتعددة بالاصطدام مع الدين والسياسية فى أعماله المقبلة حتى تكتمل الصورة الجزئية لصورة كلية متسقة مع ذاتها.


إن المؤلف هنا فى حانة الست ينتقم من المجتمع الذى قدس رمزًا بشريًا وأحاله لإله وأزالوا عنه كل ما هو بشرى وألصقوا به كل ما هو سماوى.

إن منطقة الهو حسب تسمية فرويد والتى تشكل الجزء الأكبر من الجهاز النفسي: هذه المنطقة التى تحمل غرائزنا ومكبوتاتنا الدفينة باعتبارها تمثل الجزء الشيطانى الشرير فى النفس الانسانية هى التى تتحكم كليًا فى ذلك العمل الروائي، يتضح ذلك من أفعال أم كلثوم التسلطية والقاهرة لكل من حولها واستعبادها للآخرين وتحصيل أفضل ما لديهم وتطويعه لخدمة ذاتها، ولعله انتقام داخلى مكبوت هو الآخر بداخلها نتيجة النشأة القاسية والنظرة الدونية للنفس فى حياتها الأولى قبل انطلاقتها فى القاهرة، فكيف لفتاة أن تعيش بملابس ذكورية حتى نهاية العشرينيات تقريبًا، كيف لسلوك قهرى مثل هذا أن يترك آثارًا وخدوشًا بداخل روح أم كلثوم!


ومثلما كان سلوك أم كلثوم بداخل الرواية صادرًا عن منطقة الهو اللاشعورية فإن الروائى محمد بركة قد تملكته تلك المنطقة أيضًا حين قرر التصدى لهذا العمل، يظهر هذا أولًا فى دلالة اسم الرواية وهو حانة الست، فالحانة هنا لها دلالة معنوية كبيرة وهو ما استقر عليه العرف من أنها مكان يجمع الباحثين عن اللذة من خلال تناولهم للخمور وخلافه وهو فى اعتقادى قصف متعمد للتشويه وهذا يتضح أكثر وأكثر بداخل بنية وأنساق الرواية من استخدام لغة تبدو محملة بأقصى درجات العنف اللفظى المباشر والخفى ضد أم كلثوم وتصرفاتها وكأنه يقول: سأسقطك من برجك العاجى أيتها السيدة التى خلبت الوجدان متنكرة فى صور انسانية بعيدة عن جوهرك الحقيقي.


إن الإثارة التى ينشدها بركة فى حانة الست تعاظمت وظهرت جلية فى إشارته الخفية الباطنية بمثلية أم كلثوم الجنسية، هنا يصل الرجل إلى الحد الأقصى من الصدام ومحاولة زعزعة الصورة الملائكية التى ارتسمت فى العقول عنها، وهو يدير معركته بخبث روائى فى كل مرة مستنطقا أم كلثوم من مرقدها وكأنها هى التى تعترف بحقيقتها المحجوبة مستريحة على شيزلونج المحلل النفسى -الذى احتكره المؤلف ذاته- فى جلسة تطهير روحى بإفشاء اللاشعور المختبئ للوصول إلى مرحلة التوازن النفسي.
إن مسيرة التنوير فى حياة الشعوب تقتضى أحيانا استخدام لغة وأفكارًا صدامية حتى يستيقظ العقل الغافل وينتبه فالصدمة من قوة ارتجاجها تخلف تصدعًا قد يغير قناعات ويقيم مفاهيم جديدة ولعلنا أحوج إلى نزع القداسة ليس فقط عن أم كلثوم ولكن عن كل الشخصيات والرموز التى بالتأكيد سنحتفظ لها بمحبتنا لكننا سنرفض تأليهها - امتدادا إلى التراث ذاته - إن كانت نوايانا حقيقية فى التقدم والازدهار.


لقد فعل بركة فعلته بلغة شاعرية جذابة وكأنها كتبت بماء رقراق فوق صفحة بيضاء، ودمج التاريخ بالخيال بشكل فنى بديع حتى اختلطا، فاختلط الأمر على المتلقى فتحول الخيال إلى واقع والواقع إلى خيال، أما الأسلوب الذى تضمنته بنيات الرواية وأنساقها فبارع فى الايحاءات والإسقاطات واستدعاء المضمر الدلالى الخفى المسكوت عنه دون عناء من فرط حضوره المقّنع، إن تسارع إيقاع المتواليات القصصية والسرد بشكل متصاعد لهو جزء من الحبكة التى اختارها المؤلف وهو ما يجعل المتلقى لاهثا للبحث بين ثنايا الجمل والأسطر عله يظفر بشيء وما أكثر ما عاد به المتلقى بعد رحلة صيد ثمينة.

 وأظن أن تلك الرواية قد تحقق للمؤلف المجد الذى يسعى جاهدًا لبلوغه ويستحقه ولكن يبقى السؤال: ما الضامن الذى يجعلنا نثق أن محمد بركة ذاته لن يتصرف بنفس طريقة أم كلثوم عندما تضعه حانة الست فى خانة المجد والشهرة؟

 

تعريف بالروائي:

محمد بركة روائى وصحفى مولود فى إحدى قرى محافظة دمياط عام ١٩٧٢، حاصل على بكالوريوس التربية قسم اللغة الانجليزية من جامعة المنصورة، قدم استقالته من وزارة التربية والتعليم بعد أقل من عام واحد على تعيينه وقرر الانتقال إلى القاهرة فى رحلة مجهولة بحثًا عن التحقق الأدبي، نشر له من قبل أربع روايات: الفضيحة الإيطالية، عشيقات الطفولة، الزائر، وأشباح بروكسل، كما نشر له عدد من المجموعات القصصية القصيرة منها كوميديا الانسجام، ثلاث مخبرين وعاشق، عشيقة جدي، والحزن طفل نائم.

أخبار الساعة

الاكثر قراءة