الخميس 18 ابريل 2024

عن الإسكندرية وجغرافيتها

مقالات14-12-2021 | 13:10

 الجغرافيا؛ عرفت بعلم التوزيعات المكانية كواحدة من العلوم الاجتماعية شديدة الصلة بالمجتمع وهدفها الأساسي أفراده، كانت المادة الخام للخيال في التاريخ القديم ومُلهمة الأساطير والملحمات والسرديات في مصر القديمة وبلاد بابل والحضارة اليونانية والفارسية والصينية.

ثم جاءت العصور الوسطى فكانت الجغرافيا أداة خادمة للاستعمار، ومنها خرجت شرارة الحملات الحربية الاستعمارية كوسيلة في يد الطُغاة والمُستبدين، حتى جاء القرن العشرين ومعه حقبة ما بعد الاستعمار؛ فانتبه الكثير من علماء الجغرافيا إلى دور هذا العلم الإنساني، ورنوا إلى استخلاص كونه علم تفتيش عن مواطن الخلل الاجتماعي في توزيع الثروات والخدمات ومعالجة الفائض والعوز كما استنبطوا كونه علم التنبؤ بالقادم من زوال مدن وولادة أخرى؛ وتوصلوا أنه من شأن ذلك العلم إصلاح ميزان العدل وهو ما أُطلق عليه (جغرافية العدالة والمساواة).

ولا شك أن العدالة والمساواة هنا يشملا مأمن المعيشة وديمومتها دون التعرض لأخطار من ظواهر جغرافية وخاصة إن كانت من فعل البشر؛ وهو ما لمسناه السنوات الماضية في ظل التغيرات المناخية المُستجدة على عالمنا ،وهو ما دفع رئيس وزراء بريطانيا في مؤتمر جلاسجو الأخير للمناخ بأن يؤكد حتمية زوال العديد من المدن الساحلية - ومنها الإسكندرية- بسبب مُعضلة المناخ وارتفاع درجات حرارة الكرة الأرضية وزيادة غازات الاحتباس الحراري ؛والذي من شأنه التعجيل بذوبان الثلوج في القطبين الشمالي والجنوبي؛ حيث ارتفع مستوى سطح البحر خلال القرن الماضي حوالي من ١٦إلى ٢٠ سم، مما أسهم في تعاظم ظاهرة المَدْ أو النحر والذي من شأنه تهديد الإسكندرية وما شابهها من مدن شاطئية، ومما أكد صدق تحذيرات قمة المناخ هي ما نشهده مع كل نوة شتوية بعلو موج البحر ومده القوي وتضاؤل رقعة رماله.

وبمطالعتي لبعض علماء الجغرافيا في الآونة الأخيرة؛ تم الإجماع على أن مشكلة النحر في شواطئ الإسكندرية وانحسارها ليست بظاهرة جديدة؛ بل بدأت فعلياً منذ أكثر من خمسين عاما وقُسمت لمراحل؛ الأولى مع تشييد السد العالي وبحيرة ناصر؛ وذلك بتوقف مياه النيل وطميه ورواسبه عن الوصول للبحر المتوسط حيث تراكمت من قِبل السد؛ ولم تعد داعمة وظيفياً كمصدات طبيعية للأمواج وحماية ربانية للدلتا من هجوم البحر، وبالتوازي كان إغلاق ترعة المحمودية في السنوات العشر الأخيرة بفعل نضوب الماء فيها وتلوثها كان له أبلغ الأثر على منع وصول الطمي كمصد طبيعي للشواطئ ،وتلاشت معه وظيفة المحمودية كأحد روافد نهر النيل ،بعد أن كانت  مصباً غرب المدينة -في منطقة المكس.

ونأتي للعامل الأهم في نحر شواطئ الإسكندرية؛ ألا وهو ذلك الذي بدأ منذ ثلاثين عاماً؛ حين بدأت مشروعات قرى ومنتجعات الساحل الشمالي بدءًا من قرية مراقيا ومارابيللا وحتى مارينا ومراسي، بامتداد 120 قرية غرب الإسكندرية وحتى العلمين؛ وكان العامل المشترك في تشييد تلك القرى هو جلب الرمال وإقامة الحواجز الخرسانية مع تعديلها لبنية الشواطئ وتشكيل بحيرات ومرسى لليخوت؛ مما أثر على الجغرافية الشاطئية للإسكندرية وساهم في النحر وتآكل رمالها.

لا ننكر الجهود المبذولة من الدولة من أجل درء خطر مد البحر بزرع الصخور الصناعية بطول الشاطئ السكندري كوسيلة للحد من تآكل الرمال ولمنع خطر مداهمة البحر للكورنيش، وإذا كان التغير المناخي مبعث قلق للعديد من دول العالم بارتفاع سطح البحر وبظاهرة الاحتباس الحراري فلا ننكر تحمل الإنسان لمسؤولية الإسراع من وتيرتها وخطورتها؛ بنشاطه الجائر وبنشر التلوث دون إدراك لغضب الطبيعة ؛فهجوم البحر هو فعلياً صراع الإرادة والقوة وهو ما يطلق عليه صراع ( الجيوبولوتيك) بالفرنسية أي هجوم قوة على أخرى حين تتكشف للأولى ضعف الثانية وتتمكن من حصتها منها؛ فلنتكاتف جميعاً من أجل إنقاذ مدينتنا الخالدة.