الثلاثاء 23 ابريل 2024

سر السقوط

مقالات15-12-2021 | 21:44

قبل 30 عامًا من الآن كانت هناك امبراطورية تسمى الاتحاد السوفيتى ترهب أعداءها، وتدافع عن أصدقائها، وتمتلك ترسانةً نوويةً مخيفةً، وجيوشًا جرارة منتشرة فى كل أنحاء الكوكب، لكن فى صباح يوم 25 ديسمبر 1991 استيقظ العالم فلم يجد للامبراطورية الجبارة أى أثر كأنها تلاشت فى الهواء، بعد أن ظلت متربعة على عرش القوة لأكثر من 70 عامًا.

ما زال سر الاختفاء الغامض يؤرق الروس الذين ورثوا غبار الامبراطورية السوفيتية المتلاشية، فى الذكرى الثلاثين زاد الأرق الروسى عن الحد وكأن اكتمال ثلاث عقود دون حل اللغز فتح جرح الاختفاء الغامض على مصراعيه من جديد، وجعل الورثة الروس يصرون على معرفة السبب، فحتى اللحظة هم غير مصدقين بل يحاولون إحياء امبراطوريتهم الضائعة كما اتهمهم خصمهم الأمريكى منذ أيام مع حلول موعد الذكرى.

يتألم الروس فى شتاء ديسمبر من كل عام، وفى هذا العام الثلاثينى ارتفعت حدة الألم إلى أقصى درجة وهم يتذكرون وسائل القوة التى امتلكتها امبراطوريتهم المختفية فهم أول من ذهبوا إلى الفضاء وأطلقوا الأقمار الصناعية، والمفارقة أن المحركات الصاروخية التى يذهب بها خصمهم الأمريكى إلى الفضاء هم من صنعوها وحتى الآن يستوردها منهم، أما عن السلاح فأمام كل طائرة وسفينة ودبابة غربية وأمريكية كان هناك سلاح سوفيتى أكثر تطورًا، ورؤوسهم النووية التى يمتلكونها تستطيع حرق أعدائهم والعالم ألف مرة.

بعيدًا عن السلاح والرؤوس النووية، كانت الامبراطورية المختفية مصنعًا جبارًا للثقافة والفنون والعلوم، فلا يوجد على ظهر الأرض مسرح ينافس البلوشوى، وتتلهف باريس ولندن وواشنطن منتظرة زيارة من فراشات فرقة البلوشوى، لايتوقف هدير المطابع عن طباعة أرقى ما أنتجت البشرية من فنون الأدب ديستوفسكى، تشيكوف، بوشكين، تولوستوى، فى صالات الموسيقى تعزف مقطوعات كيرساكوف، تشايكوفسكى، وفى قاعات الدرس بجامعات موسكو تطرح أحدث النظريات وأكثرها تطورًا فى علوم الرياضيات، هذا العلم الذى تتأسس على معادلاته قواعد التقدم البشرى فى كافة المجالات فكان السوفيت هم سادة هذا العلم بلا منازع.

يقف العالم مبهورًا وهو يشاهد الرياضيين السوفييت يمارسون هوايتهم المعتادة فى حصد الميداليات الذهبية فى الدورات الأولمبية ويحاول الغرب اللحاق بهم، نفس العالم الذى يحارب من أجل برميل بترول ومتر مكعب من الغاز ومحزون القمح من أجل طاقته وغذائه يمتلك السوفيت الملايين من البراميل والأمتار والأطنان تحت أرضه وفوقها .. فكيف ولماذا اختفت الامبراطورية الرهيبة؟

رغم شدة الألم التى تعصف بالروس كلما طرحوا السؤال على أنفسهم عندما تحين الذكرى وخاصة فى العام الثلاثينى إلا أن الأكثر ألمًا من سؤال بلا إجابة أو الاختفاء السوفيتى هو المهانة التى صاحبت وأعقبت تلاشى الامبراطورية.

أكثر من عبر عن الألم بسبب المهانة التى صاحبت الاختفاء وأعقبته كان الرئيس فيلاديمير بوتين معتبرًا إن تفكك الاتحادالسوفيتي قبل ثلاث عقود مازال مأساة بالنسبة لغالبية المواطنين الروس.

كشف بوتين الرئيس الحالى ورجل الكى جى بى السابق من خلال فيلم وثائقى أنتجته وستبثه القناة الأولى الروسية وأذاعت وكالة الأنباء الرسمية رايا نوفستى مقتطفات منه، أنه عقب انهيار الاتحاد السوفيتى اضطر بوتين أن يعمل سائق تاكسى حتى يستطيع تحسين دخله ولكن كان الأخطر هو ما قاله بوتين قبل أيام أثناء اجتماعه بأعضاء مجلس تنمية المجتمع المدنى بأن عددًا كبيرًا من عناصر وكالة المخابرات المركزية الأمريكية عملوا كمستشارين وموظفين رسميين فى الحكومة الروسية وأشرفوا على كل ماحدث فى فترة التسعينات من القرن الماضى.

 يعتبر عقد التسعينات  هو الأشد قسوة ومهانة بالنسبة لروسيا والروس على كافة المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية عقب انهيار الاتحاد السوفيتى، واعتبر بوتين أن مهمته الأولى كانت مع بداية الألفية هى تطهير روسيا من هذه العناصر ومحاكمتهم جنائيًا واستطاع تحقيق النجاح فى ذلك.

يبقى السؤال المحير الذى لم يعثر له الروس على إجابة وهو كيف ولماذا اختفى الاتحاد السوفيتى ؟ لجأ الروس إلى تحليلات متعددة للإجابة عن السؤال اللغز فهناك تحليل يرى أن السبب الرئيسى هوتحالف ثلاث أجهزة مخابرات هى الأمريكية والباكستانية والسعودية ضد الاتحاد السوفيتى أثناء تورطه فى حرب أفغانستان وأنها استطاعت استنزافه على مدار عشر سنوات حتى هوى ولكن هذا التحليل لم يلق صدى كبيرًا فالاتحاد السوفيتى تعرض لهزيمة سياسية كما تعرضت الولايات المتحدة لنفس الأمر بسبب تورطها فى فيتنام ولكن حجم الآلة العسكرية السوفيتية الضخمة لم تؤثر فيها حرب بهذا الحجم وظلت متماسكة دليل على ذلك الانسحاب شديد التنظيم من الجيش الأحمر من أفغانستان.

اتجه تحليل آخر إلى أن شخصية جورباتشوف آخر من تولى قيادة الاتحاد السوفيتى هى السبب الرئيسى وسياسته البيريسترويكا  فهو متردد ولم يحسم عملية التطوير فى هيكل الامبراطورية السوفيتية التى تبنتها سياسته  لكن هذا التحليل أو الإجابة على السؤال تمت تنحيتها بسبب الحزب الشيوعى.

كان بناء الحزب الشيوعى متماسكًا بشدة والجميع يمتثل للأوامر بدقة شديدة، وكل الدلائل طوال فترة حكم جورباتشوف كانت تشير إلى أن الحزب متحكم فى خيوط اللعبة وجرى الاستفتاء على بقاء الاتحاد السوفيتى ووافقت الأغلبية عدا جمهوريات البلطيق وجورجيا وأرمنيا، ونفس  قيادات الحزب تحركت لمنع الانهيار قبل قليل من حدوث الاختفاء لعزل جورباتشوف مما يعنى أن هناك حالة رفض لتفكيك الاتحاد السوفيتى لكن الوقت كان قد انتهى وتدخل التاريخ ليقول كلمته.

رأى آخرون أن التماسك الظاهر على بنية الحزب الشيوعى كان غير حقيقى بالمرة فالصراعات على المراكز والامتيازات بين قياداته وأعضائه أدت لحالة من التفكك ثم الانهيار، لكن تاريخ الاتحاد السوفيتى وحزبه يثبت عكس ذلك فمنذ الثورة الروسية وهناك حالة دائمة من الصراع الداخلى بين قيادات الحزب فستالين ينقلب على رفاق لينين  وخروشوف ينقلب على رفاق ستالين وبريجينيف ينقلب على خروشوف وهكذا، ولم يتأثر الاتحاد السوفيتى بل أصبح هذا الصراع هو أسلوب حكم داخل الامبراطورية السوفيتية.

أغلب التحليلات لم تجب على السؤال لأنها لم تكن مقنعة بنسبة كبيرة وسمحت الذكرى الثلاثين بظهور شهادات من عاصروا الحدث ومنهم رئيس كازاخستان الأول نورسلطان نزار باييف ففى حوار لقناة 24 الروسية رأى باييف أن من أبرز أسباب انهيارالاتحاد السوفيتى نفاد الموارد التي اعتمدت عليها المنظومة الاقتصادية الاشتراكية وكان يجب على المسئولين عن الاقتصاد الاهتمام بهذه المشكلة والتعامل معها وإجراء التعديلات الضرورية على إدارة الحياة الاقتصادية من أجل الحفاظ على قوة الدولة مثلما فعلت الصين بإجراء إصلاحات اقتصاية مع الحفاظ على تماسك الدولة وقوتها.

أرجعت شهادة باييف الانهيار أو الاختفاء إلى سبب رئيسى وهو السبب الاقتصادى، لكن جاءت شهادة أخرى من قيادة رئيسية كانت داخل مطبخ صناعة القرار فى الامبراطورية السوفيتية وشاهدت كل شيء ثم تكلمت الآن بعد 30 عامًا من الانهيار لتكشف مفاجأة وسببًا خطيرًا لم يتوقعه أحد وفى نفس الوقت تعطى درسًا عميقًا فى أن مهما امتلكت أى دولة أسباب القوة وصعدت بقوتها لدرجة الامبراطورية فمصيرها الزوال إذا سلمت أمرها لهؤلاء.

قال روسلان خسبولاتوف آخررئيس لمجلس السوفيت الأعلى والبروفسير فى الاقتصاد فى شهادته لم تكن هناك ظروف مسبقة لانهيار الاتحاد السوفيتي، وتم تدميره من قبل أشخاص عديمي الموهبة كانوا في السلطة. يتساءل روسلان فى شهادته هل سقط الاتحاد السوفيتي بنفسه؟  ويجيب على سؤاله طبعا لامعللا ذلك "هذه المنظومة لم يكن لها أن تهلك. كانت ضخمة جدا، ومهيبة وعظيمة كانت منارة أمل لملايين الناس" وينفى روسلان وجود مؤامرة وراء الانهيار السوفيتى بل أن السقوط والاختفاء جاء من الداخل فقد تم تدميرالمنظومة ليس على يد بعض الخبثاء، ولكن ببساطة مجموعة من ضعاف الشخصية والجهلاء وعديمي الموهبة ، تواجدوا فى السلطة أو بمعنى آخر استعانت بهم الدولة لإدارة شئونها، ويرى روسلان أنه لم يكن هناك ولا حتى شرط مسبق واحد لسقوط الاتحاد السوفيتى وأنه كان بسهولة يمكن عمل الإصلاحات لكن الظروف التى أوجدها هؤلاء من عديمى الموهبة والجهلاء أدت للانهيار.

رغم وضوح السبب الذى أورده البروفيسير روسلان ليبين سبب اختفاء الاتحاد السوفيتى إلا أن هذا السبب يطرح سؤالا يضاف إلى قائمة الأسئلة من سمح لعديمى الموهبة والجهلاء وضعاف الشخصية بالتسلل إلى السلطة أو إدارة شئون الدولة السوفيتية ؟ وهو سؤال يخلق مزيدًا من الأسئلة هل تساهلت الدولة السوفيتية فى اختيار من يتولون المناصب؟ أم كان شرط الولاء مع ضعف الموهبة أهم من الكفاءة ؟ هل سيطر الغرور على الدولة السوفيتية ورأت أن قوتها تحميها حتى لوكان من اختارتهم جهلاء ولكنهم يطيعون الأوامر بلا نقاش؟ أسئلة وراء أسئلة دون إجابة، لكن الحقيقة الأكيدة أن فى 25 ديسمبر 1991 سقط الاتحاد السوفيتى.

Dr.Randa
Dr.Radwa