الثلاثاء 14 مايو 2024

ساحر الساحرة المستديرة وأشياء أخرى

مقالات18-12-2021 | 00:53

كنت الفتى الأصغر لأبي -طيب الله ثراه- لا فتاته في كثير من الأحيان، فقد كان دائم اصطحابه لي أثناء قضائه للعديد من التزامات المنزل، لذا أتذكر جيداً اصطحابه لي في منطقة العتبة منذ حوالي أربعة سنوات لشراء قطع غيار ما، وبدخولنا لأكثر من محل لاحظت التفاف كل العاملين حول مباراة كرة قدم بدت لي وكأنها مباراة دولية، حتى أنهم كادوا لا يلحظون وجودنا بالمكان، لدرجة جعلت الاستغراب والفضول يتملكان مني، حتى تشجعت وبادرت بسؤالهم، وجاءني الرد "ده ابننا محمد صلاح بيلعب في فريق إيطالي"، فقلت لهم وما الجديد فكثير من لاعبينا يحترفون بالخارج ولم أرى هذا الالتفاف يوماً ما لمشاهدة مباراة لهم، فجاء الرد باستنكار "حضرتك بتفهمي في الكورة"، قلت بكل بساطة " لأ "، فقيل لي حرفياً "حتى لو ملكيش فيها اتفرجي ده واد لعيب وعامل شغل جامد".

ويعود بي الأمر من جديد خلال إحدى سفراتي بالخارج منذ سنوات بسيطة وتحديداً في إسبانيا، كنت بصحبة أحد الأصدقاء من بلجيكا في جولة بمنطقة جراند بيا بالعاصمة مدريد، وكنت أحدثه عن انطباعي بهوس الإسبان بكرة القدم، حتى أنني شاهدت بعيني جموع غفيرة من الجماهير تمر بالشارع الذي كنت أقطن به، لدرجة أشعرتني أن الشعب بأكمله في طريقه للاستاد، فقال لي تعلمين جيداً ولعي الشديد بالكرة، وأنا أتابع جيداً لاعبكم محمد صلاح الذي انتقل لنادي ليفربول مؤخراً، أتوقع له مستقبلاً مميزاً، فهو ذكي وخطير بالمعنى الحرفي.

أحدثكم صدقاً، شعرت بفخر شديد رغماً عن عدم إلمامي أو اهتمامي باللعبة ولا بمعظم لاعبيها المصريين، لكن ولأنني أعلم اهتمام هذا الشخص باللعبة بشدة، وتأكدي أنه متابعاً جيداً لكافة تفاصيلها ومستجداتها على المستويين المحلي والدولي، علاوة على درايتي الكاملة بشفافية ونزاهة معظم الأوروبيين الذين لا يعلمون شيئاً عن فقه المجاملة وتزيين الكلمات، تأكدت أن اللاعب محمد صلاح هو شخص يبدو استثنائياً، بخلاف العديدين ممن سبقوه للاحتراف، فعلى ما يبدو أنه يحمل كاريزما ما تؤهله لاختراق قلب القارة الأوروبية بخطوات ثابتة مع إصرار ويقين.

وتشاء الظروف أن أسافر إلى انجلترا في أواخر عام 2019 خلال منحة دراسية، وتحدث الصدفة أن يخوض محمد صلاح حوالي مبارتين خلال فترة تواجدنا هناك وكعادته يحرز أهدافه الساحرة، إلى الدرجة التي جعلته حديث أساتذتنا داخل أروقة الجامعة وفي بعض الأحيان داخل المحاضرات.

حتى أن أثره المباشر امتد لنطاق عائلتي الصغيرة، فابن أخي ذو الست أعوام والذي يهوى صدفة لعبة كرة القدم منذ عمر العامين تقريباً، ويعشق "مو صلاح" بطريقة جنونية إلى الدرجة التي جعلتني أتفنن  في انتقاء ألعاب الألغاز له بصورة صلاح.

وتمر الأيام، وتتردد أخبار محمد صلاح في الصحف العالمية وعلى مواقع التواصل الاجتماعي، وأتابع مع العالم ومع أسرتي وأصدقائي أخباره، وأرى تلك الابتسامة الساحرة العابرة للقارات المرتسمة على وجهه في كل وقت ومع كل إنجاز جديد يضاف لرصيده المكتظ برغم صغر سنه.

هذا الفتي النحيل الذي يبدو ضعيف البنية، قد أذهل العالم خلال إحدى المباريات بإظهاره بعضاً من عضلاته التي يصعب بنائها، هو نفسه من أسموه "بالملك المصري"، وهو أيضاً الذي غنى له البريطانيون "إذا كان محمد صلاح مسلماً فأنا أيضاً أريد أن أكون مسلماً"، وهو نفسه من جعل معدلات العنف ضد المسلمين في انجلترا وما يسمى "بالإسلاموفوبيا" تنخفض انخفاضاً ملحوظاً في فترة وجيزة، إلى الدرجة التي تعجبت معها كل مراكز بحوث استطلاعات الرأي العام هناك.

لم يتحدث يوماً عن الإسلام، لكنهم رأوه ساجداً عقب كل هدف يحرزه، لما يتباهى بمهاراته، لكنهم رأوها في الملعب وفي كل مباراة وهدف، لم يعتاد التحدث عن حجم اعتزازه بمصريته، لكننا اعتدنا منه التزين بالعلم المصري مع كل تكريم داخل الملاعب الإنجليزية، ونما إلى علمنا أعماله المتعددة بقريته ومحافظته وبلده دون ضجة تذكر، كل هذا الحب الرباني والجماهيرية الدولية العظيمة لم تجعل منه شخصاً مغروراً، فعلى العكس لم يتنكر لماضيه، ولم يستنكر الظروف العصيبة التي مر بها وخذلان البعض له، ولم يخرج للمصريين يوماً يحدثهم عن حجم الإساءات والاستهزاء التي تعرض لها من القائمين على اللعبة في مصر.

حتى أنه على مدار عدد الحملات التي تبنتها وزارة التضامن الاجتماعي لمكافحة الإدمان، ممثلة في صندوق مكافحة الإدمان وبالاشتراك مع العديد من الفنانين ورموز الرياضة، كشفت البحوث واستطلاعات الرأي أن حملة محمد صلاح لمكافحة الإدمان أظهرت أكبر تجاوب على الإطلاق على خطها الساخن منذ بداية انطلاق الحملات، وبالتالي عدد المتجاوبين مع الحملة.

محمد صلاح، ساحر الكرة، هو نفسه رب الأسرة، الذي يحتفل مع أسرته بتزيين شجرة الميلاد، ويقوم بنفسه بتزيين منزله بزينة رمضان، ويحتفل بعيد ميلاد ابنته مكة التي صارت أيقونة شجعت الكثيرين على إطلاق نفس الاسم على بناتهن، وهو الذي يحتفل مع أسرته بمنتصف الملعب، ويقصد الغردقة ومرسى علم لقضاء إجازاته من آن لأخر، فيقوم دونما قصد بأكبر دعاية مجانية لبلده.

أسرد كل تلك القصص لاستشعاري الإحساس بالمسؤولية تجاه هذا البطل صغير السن عظيم الأثر، فأنا أدين له منفردة "كمصرية مسلمة" بكل مشاعر الامتنان والفخر التي منحني إياها في كل قصة قمت بسردها، فقد كان لبلدي ولديني خير سفير وداعية دونما نية مبيتة.

الساحر محمد صلاح هو صاحب فطرة لم تتلوث، وعزيمة لم تتأثر، وأصل طيب لم يتغير، وذكاء ومهارة جعلته محط أنظار العالم حتى صار أيقونة منفردة لا يمكن مقارنتها أبداً ببديل آخر سابق أو حالي.

نموذج القدوة مطلوب تسويقه والتسويق له بشدة، فهو "منفرداً" قوة ناعمة بحق، نحن أحوج ما يكون لها في زمن اختلت فيه معايير النموذج القدوة، والملهمين، وصانعي المستقبل، وقادة الرأي.

Dr.Radwa
Egypt Air