حمزة قناوي - شاعر مصري
برحيل الناقدة المصرية الدكتورة ثناء أنس الوجود، ينطفئ قنديل آخر من قناديل الثقافة والفكر. ورغم رحيلها في "عام الحزن" على الثقافة المصرية والعربية، فإن غيابها فاجأ الجميع، من طلابها ومتابعيها، بعدما كانت تضجُّ بالحياةِ والحيوية والنشاط الفكري، قبل أن تخبو فجأة وتقع فريسة لمرض قصير غادرت بعده عالمنا تاركة إرثا مضيئا من المؤلفات النقدية والمحاضرات العلمية والمقالات المنشورة في مجلات ودوريات نقديّة مُحكّمة ومئات المشاركات النقدية والفكرية في مؤتمرات وملتقيات علمية مصرية ودولية عبر 35 عاما من العمل البحثي الرصين.
لم أستطع الكتابة عن أستاذتي الراحلة إلا بعد مرور عام كامل على رحيلها، للأسى الشديد الذي انتابني من رحيلها، ولأنني ظللت، لفترة طويلة، غير مُصدِّق نبأ رحيلها، حين علمت به من اتصال أتاني من مصر، وكنت في المغرب آنذاك، فلم أستطع إكمال مشاركتي في الفعالية التي كنت مدعوا لها وقد حطّ الاكتئاب على روحي.
كانت ثناء أنس الوجود من أبرز أساتذة الأدب الشعبي في مصر، ولها دراسات كثيرة في هذا المضمار، كما كانت من أهم من تخصصوا في الأدب الجاهلي في بدايات مشوارها العلمي، بمؤلّفات قلّ أن تُجارى في توجهها، مثل “صورة الصحراء في الشعر الجاهلي” و”رؤية العالم عند الجاهليين. قراءة في ثقافة العرب قبل الإسلام”، و”رمز الماء في الأدب الجاهلي”، و”رمز الأفعى في الأدب الجاهلي”، وفي مرحلة تالية أنهت مؤلفها عن “تجليات الطبيعة والحيوان في الشعر الأموي”، و”دراسات تحليلية في الشعر العربي”.
كنت واحدا من آلاف الطلاب الذين درسوا هذه المؤلفات على يديها وكانت مُقرّرة علينا في سنوات الدراسة الجامعية عبر أربع سنوات، أسعدتني الأقدار بأن أتلقى العلم على يديها خلال هذه السنوات جميعا. وخلال هذه السنوات المليئة بالبحث العلمي والاجتهاد، لم تتوقف عن العمل في الجامعة والمشاركة في الملتقيات والندوات الخاصة بالأدب ومناقشة الأعمال الأدبية للكتاب الشباب والكبار معا دون تمييز، أو الارتكان إلى معيار سوى القيمة، وعندما تولّت رئاسة قسم اللغة العربية بكلية الآداب جامعة عين شمس- لدورتين متواليتين- لم يدفعها المنصب إلى التطلُّع لأي مكتسبات من ورائه، أو البحث عن مناصب أخرى تتعلق بالكلية أو الجامعة ككل “وكان هذا مهيأ لها” فلم نشعر نحن طلابها بأي شيء من ذلك وهي تدخل قاعات الدراسة وتواصل محاضراتها ومناقشتنا في مناهج النقد المختلفة، وكانت تنزعج بشدة في حال وجدتنا غير "مُحضّرين" مادة المحاضرة، أو لم نقرأ الرواية- النموذج التطبيقي- الذي ستُخضعه لمنهج النقد المحلل للنص.
وكانت قد تخرجت عام 1977 في كلية الآداب، وقبل ذلك تخرجت في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة. وقد عملت في بدايات مشوارها العلمي مع أستاذها الراحل “أستاذي أيضا” الدكتور عز الدين إسماعيل، وهو أحد الكبار المؤسسين من الجيل الثاني من رواد النقد في مصر والوطن العربي بعد جيل طه حسين ومحمد مندور وعبد القادر القط، وكان مدرسة نقدية وحده.. عملت معه في مجلة "فصول" بعد تخرجها في الجامعة، وتعرض الرسائل الجامعية على صفحات المجلة، متناولة إياها بالتتبع والتحليل والتعليق، وكان هذا أول محكّات العمل الميداني النقدي لها، والذي أضافت له بعدا عضويا لاحقا بمشاركاتها المتعددة في الندوات وورش النقد والأدب.
أكتب عن أستاذتي الراحلة باعتباري واحدا من آلاف الطلاب الذين تعلموا على يديها. وأكتب أيضا باعتباري مدينا لها بدراستها النقدية التي قدّمت بها ديواني الشعري الأول منذ عشرين عاما وأنا طالب أمامها على مقاعد الدراسة، وبعدما اعتذر لي الكثير من الأساتذة "الكبار" الآخرين عن عدم كتابة هذه المقدمة، “وكانت كتابتها شرطا لنشر الديوان في الهيئة المصرية العامة للكتاب” وبعدما كدت أيأس من الأمر. تلقت هي الديوان وأمهلتني بعض الوقت، وبعد شهر أعادت إلي الديوان بمقدمة وافية عنه وتحمل الكثير من التشجيع لشاعر شاب في مقتبل طريقه. حتى أنني دمعت وأنا أنهي قراءة المقدّمة عام 1997.
وكان هذا هو النهج الذي يحكم رؤيتها وعملها، فقد كان انحيازها دائما للنصوص لا الأسماء، وظلّت حتى آخر لحظة في حياتها تبشر بأصوات أدبية جديدة وكُتّاب لم ينشروا سوى عملهم الأول، وتدير حول أعمالهم الندوات، تماما كما تناقش أعمال الكتاب الراسخين في المشهد الأدبي، في موضوعية ومنهجية نقدية حيادية تحتكم إلى ضمير نقدي صاف، لم يتلوث بما استجد على الساحة الثقافية من العلاقات والمصالح وتبادل المكاسب والتطلُّع إلى مقابل أيا كان، نظير كلمتها المضيئة. لم أعرف يوما عنها أنها سألت عن مكافأة أو مقابل مادي لنشاط أدارته أو مقال كتبته.
كانت تعتمد المنهج الأسطوري التحليلي في دراساتها النقدية الأولى المتناولة للنصوص القديمة، في العصر الجاهلي، والمعتمد على الموروث الشعبي والتقاليد الطوطمية "الشعائرية"، رابطة الأسطورة بعلم الاجتماع في تحليلها للنص الذي يتمحور حول ظاهرة في الطبيعة بذلك العصر “كالماء أو الصحراء أو الأفعى” وتجلياتها في الأدب الشعبي والموروث الفكري للجماعة الإنسانية، وصياغاتها المختلفة في الشعر ورمزيتها وتأويلها.
في الشهر الأخير قبل وفاتها، عرفت أنها أوكلت إلى أحد الأساتذة في القسم الإشراف على رسالتي للماجستير، التي استشعرت بحسها الشفيف، أن القدر قد لا يمهلها إلى أن تُناقش في أروقة الجامعة، وكان أن رحّب الأستاذ الثاني بالأمر، حزينا، وقبِل الإشراف على الرسالة، وقد أوصته أن يُسرع بإنهائها معي لكيلا يضيع مجهود السنوات هباء لو رحلت.
هذه لمحة صغيرة فقط من مواقفها النبيلة مع الجميع، وقد عرفت أنها وزّعت كل رسائل الماجستير والدكتوراه التي كانت تشرف عليها، قبل وفاتها، على أساتذة آخرين وحصلت على توقيعاتهم عليها وقد وافقوا على إكمالها.
بعد وفاتها رحمها الله، أصررتُ على كتابة اسمها على رسالتي للماجستير كمُشرِفة، وقدّمت طلبا رسميا بذلك إلى الجامعة “التي لا تجيز قواعدها ذلك بعد وفاة الأستاذ.. ألا يوضع اسمه على رسالة لم يكملها مع الطالب بعد رحيله” وكدت أخفق في مسعاي لولا مساندة المشرف الجديد على الرسالة د. سعيد الوكيل، الذي أصرّ على الأمر أيضا في نُبل حقيقي- وكان من بين طلابها يوما- وأصر على أن يوضع اسمها- بعد غيابها- على الرسالة. فوافقت إدارة الجامعة.
كنت مع أستاذتي في لقائي الأخير بها أثناء سفر قصير لمصر، وقالت لي بينما تودّعني في طريقي إلى المطار، أن "أبكّر بزيارتها المرة القادمة وألا أتأخر كثيرا هذه المرة". وخانني حدسي أن أستشعر في كلماتها ظلال الغياب، وأنني سأكتب اليوم لرثائها لا للقائها، فليتها تقبل كلماتي المتأخرة هذه وردة لروحها المغادرة وقنديلا على مثواها الأخضر، كروحها الخضراء اليانعة، وككلماتها التي ستستمر في روحي دائما.