الأحد 9 يونيو 2024

جمال السجيني فنان الجماهير

21-6-2017 | 10:56

د. سماء يحيى - فنانة تشكيلية مصرية

"هذه المعاناة التي أعيشها خلقت فنا لا أزعم أنه مرتبط بالجماهير بل أقول الصدق إنني اجتهدت دائما أن أعبر عن هذه الجماهير". كلمات لخص بها النحات الرائد جمال السجيني (1917 ـ 1977) مسيرة تجربة فنية ثرية أفنى عمره فيها لإيصال انفعالاته وأحاسيسه ورؤيته عن معاناة الجماهير ومشاكل الناس عبر أسلوب نابع من تراثهم وكيانهم وحضارتهم. وككل المثابرين أصحاب الرؤى الخاصة والغايات النبيلة نجح في ذلك ولعل أبلغ تعبير عن هذا النجاح هو الاحتفاء بالمعرضين اللذين أقيما (23 أبريل ـ 16 مايو 2017) في قاعتي الزمالك للفنون ونهضة مصر بمتحف محمود مختار في ذكرى مئويته، ليتأكد لنا أن السجيني بعد أربعين عاما على وفاته مازالت أعماله التي تحمل بصمة وجوده وروح انفعالاته وقدرته الهائلة على الخلق الفني قادرة اليوم على إثارة نفس الإحساس بالتعاطف والتفاعل لدى المتلقي، كما كانت لدى المتلقي الذي رآها يوم عرضها الأول.

  فأعماله ذات مسحة رومانتيكية شبيهة بموسيقى تشايكوفسكي وأشعار شيلي وقد وصفها الناقد الراحل كمال الملاخ بأنها تعكس روحا واقعية اجتماعية والمتأثرة برودان منذ بواكيرها باعتراف الفنان نفسه عندما قال "تأثرت منذ كنت طالبا بمدرسة الفنون الجميلة بمأساة التعبير والتشكيل عند المثال الفرنسي رودان إذ وجدت في ثنايا تشنجاته التشكيلية ترديدا عجيبا للنغمة الحزينة التي كنت أعيشها وتعيشها معي بيئتي المصرية مازالت تعبر حتى يومنا هذا عما يجيش في وجدان المصريين وفي وجدان الإنسانية جمعاء ذلك لأن صاحبها وجد اللغة الصحيحة التي تجعل الفنان متفردا، يمتلك لغة التعبير الشامل عما يجيش في وجدان المبدع وما يرغب في التعبير عنه في مجتمعه، اللغة المفهومة للجميع دون تمييز تلك اللغة هي التي تجعل من العمل الفني عملا فنيا بحق لأن الفن الحقيقي هو إخراج المشاعر لحيز الموضوعية بطريقة واعية فيها نقد وتوجيه". والسجيني كان يطلق مشاعره وانفعالاته وأفكاره لحيز الموضوعية عبر أكثر من وسيط مادي ليناسب هذا الوسيط ما يريد هو أن يعبر عنه مستعينا بقدرة ثرية على الخلق الفني ومهارة تقنية لاستعمال وسائط الفن المتنوعة وإدراك تام لأهمية الأسلوب وأهمية الوسيط نفسه كونه يحمل في داخله المفاتيح التي تعمل وتساعد على تكوين الصورة وإيصال الفكرة وإعادة خلقها وتكوينها في ذهن المشاهد، ولذلك ترك أعمالا عابرة للزمان والمكان، تنطبق عليها مقولة فيرون "إن الفن يتجاوز الجمال، لأنه يضم ما هو مخيف أو حزين، قبيح أو مرح" وهذا ما أنتجه السجيني، فن يتجاوز مقاييس الجمال العادية ليعبر عن حال المجتمع وإن كان لا يهمل هذه المقاييس بل يدعمها بالفكر الاجتماعي، فقد كان مدركا أن عصره شهد موجات من الإقبال على التصنيع والسعي لرفع مستوى المعيشة وأن دور الفنان الحقيقي هو تعضيد الفكر المواكب لهذا العصر والطموحات بغد أفضل ألا تهمل القيم التي تجعل من الإنسان إنسانا، قيم الجمال التي يعبر عنها الفن.

   ما أكسب السجيني تفرده وأصالته إيمانه بالجمع ما بين المضمون الاجتماعي للفن والرؤية الفردية للفنان والتي تجعله قادرا على التعبير عن روح الجماعة دون أن يفقد روحه وتميزه. وهذا أيضا ما جعل له بصمته رغم تأثره بفنانين كرودان وكلوديل ومور وكذلك بأسلوب محمود مختار في بداياته، لكن رغم هذا ظل متفردا، وفرادته كمنت في أن أعماله دائما ما عكست رؤيته الفنية والكونية، وكانت دنياه فيها واضحة المعالم تخصه وحده دون مؤثرات من أحد يحذف فيها ما يحذف ويضيف لها ما يضيف، بدون أي مؤثر سوى قناعته فقط. دعم هذه القناعات بمهارة مبدعة في النحت الكلاسيكي وتأثر بنزعات الرومانتيكية والتعبيرية كان أميل إليها بحكم العاطفة الجياشة التي ميزته وملامح من خبراته وبيئته استلهمها من المنحوتات الشعبية الخشبية وأحصنة وعرائس الحلوى في مولد سيدي الشعراني الذي عشقه منذ نعومة أظافره وصواني وأعمال النحاس المطروق ولوحات الخط العربي التي كانت شوارع القاهرة العتيقة تمتلئ بها.

   ولا يمكن إنكار تأثر جمال السجيني بالنزعة الدرامية الرومانتيكية عند رودان إذ وجد فيها أسلوبا للتعبير عن مشاعره، واستيحائه للقومية البنائية في أعمال بورديل، وتقفيه أثره في عودته لتراثه المصري كما عاد بورديل للتراث القوطي، كذلك انبهاره بمعادلة مختار التي جمعت التجدد بالأصالة والتراث بالحداثة، كل هذه المؤثرات أضافها لذلك الميراث الذي يحمله في قلبه من قبل انفتاحه على عالم الفن، ميراث الصناع المهرة والحرفيين روائح أزقة المدينة القديمة المتربة التي يتردد في جنباتها صوت الأذان ووداعة المراكب النيلية منتفخة الأشرعة عند الغروب، كل هذا انصهر في داخله ليصنع سبيكة خلت من أي نزعة غربية أو استشراقية غلب عليها مسحة صوفية رقيقة طبعت أعماله من المبدأ إلى المنتهى، فكانت هذه المسحة الأقرب إلى توحد المتصوف مع المحبوب وكان المحبوب في حالة السجيني هو الوطن، وبقدر اهتمامه برسالته في محاربة الفساد والاستبداد والقهر كان مهموما بجماليات عمله الفني فعكست أعماله بهذه المعادلة عظمة الوطن اللامرئية في أعمال مرئية وملموسة محسوسة للمتلقي تدخله في حالة من التسامي، تتوحد فيها جماليات العمل الفني مع جماليات الفكرة التي يسعى الفنان لإيصالها للمتلقي لتخلق حالة من الدهشة والصدمة الممزوجة بالمتعة لدى هذا المتلقي، هنا كان مكمن فرادة السجيني الحقيقية في كل مراحله وكل أعماله على تنوعها، أعماله التي تميزت دائما بالخطوط الأفقية والرأسية لتعكس توحده مع الأرض والزرع والروح الإنسانية لأبناء وطنه. هذا العشق الذي جعله يمزج كل هذه العناصر في وحدة واحدة كانت هي تيمة أغلب أعماله الفنية على اختلاف الوسائط والخامات.

   ففي سعيه هذا لم يكتف السجيني بالنحت المجسم وحده ولا بسطح اللوحة وتماثيل وأطباق وقطع الخزف بل تعداهم لسطح النحاس المطروق ليجسم المسطح ويحول فنا تراثيا هو طرق النحاس إلى فن معاصر، ودائما كان يدرك أن لعمله الفني عمرا خاصا به ولذلك دائما ما عكست أعماله إيقاعا سريعا معادلا للزمن استطاع الوصول به للذروة رغم الحفاظ على البناء الهندسي الأفقي والرأسي المحكم مع الحفاظ على الحس الإنساني أو القومي أو كليهما كتيمة وجوهر للعمل الفني، فبطريقته الخاصة استطاع أن يعطي شعورا بصخب الحياة والفوران الديناميكي، واعتمد في كل مراحله ولكن بدرجات متفاوته تبعا لتغير الخامة ولتطور أدائه على حاسة اللمس البصري حيث تعمل البروزات والتجاويف والمساحات الخشنة والناعمة عمل التضاريس الجيولوجية فوق سطح العمل، وكان هذا يتبدى في أعماله النحاسية الأشبه بالجداريات الفرعونية والتي جمع فيها بين الزخرفة والتشخيص والكتابة وتضاريس الوجوه الدرامية المعبرة وحركة الأجساد أكثر من غيرها من الأعمال وملأ فيها فراغ الأسطح بالكامل، ولكي يحقق هذا لجأ إلى الطابع الرمزي بجرأة ولعل جدارياته شجرة المصير والمسيح والجوع أبلغ مثال على هذا الأسلوب، ففي هذه الأعمال ديناميكية وإيقاع متناغم في وحدة متسقة متعددة الجوانب تجعل المشاهد يحس بنوع من النبض في العمل الذي دائما ما يكون بطله الشجن والنشوة وكأن له قلب، وهنا يتجلى الأثر الفني الحقيقي للسجيني بوضوح، فقد وعى أهمية ترك أثر فني هو منفذه للوصول لشخصيته بقدر ما هو مرآة لعصره وللتراث الفني السابق عليه وللعوامل الفردية والاجتماعية والحضارية التي أحاطت بوجدانه، والأثر الفني هو نتاج لهذا الوجدان، هذا الوعي هو الذي أهله ليكون حلقة للوصل وحلا لكل المعضلات الفنية التي عاشتها الحركة الفنية المصرية منذ بداياتها وجعلتها تعيش رحلة بحث في الحركات الفنية المتنوعة في العالم منذ منتصف أربعينيات القرن العشرين ببصمته السهلة والعذبة والمعبرة التي كانت جوابا على كل التساؤلات والمعضلات رغم أنه بدأ حياته الفنية بأسلوب هو امتداد لأسلوب قدوة جيله من النحاتين في تلك الفترة محمود مختار ممتزجا ومطعما ببعض التعاليم الأوروبية الرومانتيكية على الأخص أنه ومبكرا جدا رأى الأسلوب الرومانتيكي هو الأكثر مواءمة في التعبير عن هدفه الاجتماعي ولكنه لم يجد ضالته في هذا الأسلوب وحده، ولذلك أسس لاحقا جماعة صوت الفنان مع مجموعة من زملائه الرسامين والنحاتين بهدف التجديد في الفن ومن خلال مشاركته في هذه الجماعة أعلن السجيني الثورة على أسلوب مختار وتقاليده الفنية التي كان معاصروه يرونها تشكل قاعدة وأساسا لمدرسة مصرية في النحت.

   وربما كان اختلاف عصر الفنانين له دور كبير في ثورة السجيني؛ فقد كان أسلوب مختار مزيجا من صرحية ورسوخ الفن الفرعوني وتقاليد الكلاسيكية الجديدة المستمدة من الفن الروماني مع مسحة من رومانتيكية رودان تعطي نوعا من التوتر الذي يؤدي لديناميكية العمل الفني، فبينما كان هدف مختار الأساس بعث عظمة التاريخ المجيد وجلاله وفخامته وجماله كان هدف السجيني صناعة فن للجماهير بأسلوب معبر عنهم لذلك فقد كان ميله أكثر لاستلهام تراث الفن الشعبي والقبطي بزخمه ممزوجا بقوة ورسوخ الفن الفرعوني ورشاقة الفن الإسلامي، ففي زمن السجيني كان سعي المجتمع للنهوض أكثر تحررا وقوة مما جعل فنه أكثر التصاقا بنبض الجماهير وأكثر التصاقا بوعيه؛ فتميزت أعماله في البدايات بالإضافة للرومانتيكية برمزية ومبالغة في النسب على الأخص نسب الأيدي والأقدام لإيضاح أهمية قيمة العمل وبوجود الديك كرمز للتوق لفجر جديد، ثم تأثر بفن ما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا، وعلى الأخص بالنحات البريطاني هنري مور، فمنه أخذ السجيني فكرة التجسيد والتبسيط والانسيابية وليونة الحركة والخطوط لكنه فعل هذا بطريقته الخاصة ودون أن يتخلى عن الصرحية والرسوخ لكنه ظل محافظا على قوة الكتلة وإعطاء الشعور بأن لها جذورا تمتد في باطن الأرض، وعزز هذا باللجوء للأسطح العريضة محافظا على المسحة الدرامية التي تعطي ذلك الحس بالحياة للمنحوتة.

   ومع ثورة 1952 شهد السجيني مرحلة جديدة من مسيرته الفنية إذ بدأ إضافة إبداعات جديدة للنحت المجسم، تماثيل خزفية ونحت بارز وتشكيل معادن وصك للميداليات ولوحات زيتية بالإضافة للنحاس المطروق فظهرت عروسة المولد والمراكب الشراعية في تصوير السجيني كتيمة ترمز لمصر بكل تجلياتها.

   وجاءت المرحلة الثالثة (المعمارية) في أواخر الخمسينيات، وتميزت بكونها أكثر بنائية ومعمارية وعكست جانبا اجتماعيا أكثر منه سياسيا، كما تميزت عن غيرها باستلهام الطرز الريفية والقبطية والإسلامية في خلق علاقات تشكيلية تتجاوب جماليا وروحيا مع روح العصر عن طريق تقنيات التجويف واللعب بالكتلة والفراغ وانعكاسات ودخول وخروج الضوء والتوازن الدقيق بين عناصر التكوين كان هدفه خلق حالة مجردة تترك أثرا موضوعيا عميقا على المشاهد. عكست هذه المرحلة عشق السجيني للمعمار الشعبي والقبطي والإسلامي لإحساسه بأنه جزء لا يتجزأ من الإنسان.

   ثم أتت الهزيمة بعد يونيو 1967 لتنعكس على أعمال السجيني المعبر عن الجماهير وجاءت معها لوحات عرائس المولد المهشمة والمصلوبة والغارقة الدامعة التي تغطي وجهها خوفا من المصير المجهول. رسم السجيني عروسته مستخدما كل الوسائط التي تعطيك أحاسيس وانفعالات مختلفة ملامس خشنة وناعمة، زجاجا مهشما، زينة وألوان براقة ليظهر كم هي جميلة رغم الهزيمة والمعاناة، قطع من المرايا تحيط بمراوحها المزخرفة لتعطي أحاسيس متباينة للرائي فكأنه موجود داخل اللوحة كجزء لا يتجزأ منها أو كأنه جزء من تكوين وكيان العروسة لا تكتمل دون وجوده، فاستطاع كعادته أن يفرض على خامته جزءا من فكره ووجدانه وأن يشاطر متلقيه ويشاطره المتلقي جزءا من الشعور بالمرارة والخديعة والانكسار مازال يشعر به من لم يكن موجودا عند وقوع الحدث، ثم يشاطره وعروسته أيضا شعوره بالفخار، وهي تحمل شعلة المجد بعد الانتصار، في كل أحوالها كانت مصر العروسة الجميلة حتى لو كانت مكسورة وكأنه في كل أعماله الفنية يهتف كما يقول حسين بيكار (يا حلاوتك يا مصر) ويحاول دائما أن يحميها بأزميله وفرشاته ويده، ليشاطره المتلقي أيضا هذا الشعور والقول في تماثيله وأعماله النحاسية التي عكست كل مراحل رحلة كفاح الشعب والسعي للتحرر والتنمية، كما شاطره ذلك الشعور بالثبات والإصرار والفخار والقوة الراسخة سواء المتنبئة بالغد الأفضل في منحوتته "الانتصار" عقب حرب 1956، أو المعبرة عن الرهيب الذي حاق بالوطن بعد هزيمة 1967 من خلال جداريته "الليل".

   في مرحلته الأخيرة أوائل السبعينيات تبدى نضج السجيني وتبلورت تجربته فجاءت إبداعاته محملة بالعرائس والمراكب والبيوت المنحوته والمرسومة زاهية الروح، مغرقة في الصوفية تبلور فيها شعور بالانتماء أقرب إلى الاندماج تحول فيه الفنان من التبعية إلى التوحد، واختزل فيه مضمون الوطن إلى عنصر رمزي حميم وقريب ودافئ، هو البيوت الشعبية البسيطة بخطوطها الطينية اللينة المتعانقة لوحات ومنحوتات ذابت فيها ثنائية الجسد والبيت، المحب والمحبوب، لتصبح ذات طبيعة واحدة في حالة صوفية اتحد فيها الزمان والمكان، الإنسان والمبنى في تلك العجينة النحتية المعمارية المجردة الشاملة الموجزة المتفاعلة مع العناصر المحيطة بها من ضوء وهواء والمعجونة في مبدئها بالماء والنار لتلخص كل المعاني الإنسانية التي أراد السجيني التعبير عنها، وكرس لها حياته وأهمها أن ينتج من أجل الجماهير فنا وصفه تقرير اليونسكو في مصر بأنه فن وضع في خدمة الفكر، ويمكن وصفه بالواقعية الاجتماعية، وركز على أن "جاذبية أعمال السجيني تكمن في قدرته على خلق نماذج وأنماط إذا ما نظرنا إليها أدركنا أن هذه الأشياء والأشخاص قريبة منا، وعندما نراها من خلال أعماله نستشف في الوقت نفسه تاريخا عريقا يمتد لآلاف السنين توحي به هذه الأشياء والأشخاص ببساطة أشكالها وعظمتها".