الخميس 25 ابريل 2024

أنهم يقتلوننا

مقالات23-12-2021 | 14:31

قبل سنوات قليلة وفى إحدى الزيارات خارج مصر توجهت إلى أحد مطاعم الوجبات السريعة لتناول ساندوتش قبل اللحاق بموعد هام لم يكن المطعم منتميا لإحدى السلاسل الشهيرة أو ضخم لكنه مطعم صغير يديره عدد قليل من العاملين، طلبت من البائع ساندوتش "برجر" أخبرنى البائع قبل تأكيد الطلب أنهم لايستخدمون فى ما يقدمونه اللحم الطبيعى، بل يقدمون ما يسمى باللحم المقلد وهو بدون أى بروتين حيوانى بل لحم مصنع من فول الصويا وتتولى تصنيعه شركات متخصصة، وافقت على سبيل التجربة وعندما تذوقته وجدته غير مختلف فى مذاقه عن اللحم الطبيعى وفارق السعرأيضا واضح. 

سألت البائع لماذا نبهتنى لطبيعة ماتقدمونه من الوجبات رغم أن المذاق لايشكل فارقا كبيرا؟، نظر لى البائع فى حيرة غير مستوعب طبيعة السؤال الذى سألته كأن ملامح وجهه المندهشة ونظراته المستغربة تقول لى هذا أمر طبيعى، عندما كررت عليه السؤال أخبرنى من الواضح أنك فى زيارة سياحة أو عمل ورغم وجود علامة على مطعمه تشير لتقديم هذا النوع من اللحوم إلا أنه خشى ألا أكون منتبها بالإضافة أنه يمكنهم تقديم ساندوتش من اللحم الطبيعى لو أردت.

بالتأكيد هذا البائع لايوجد فى مطعمه مراقب أو جهة قانونية ستقبض عليه لو غشنى وقدم لى اللحم الخالى من اللحم، وحتى لو اكتشفت تغيرا فى المذاق سيخبرنى بعدها أنهم يقدمون هذا النوع وتوجد علامة على المطعم من الخارج تشير لذلك، وليس مسؤوليته أننى لم أنتبه، لكنه بمجرد استشعاره أننى فى زيارة وهذا النوع من الطعام غر منتشر فى كثير من دول العالم، قرر أن يطلعنى على حقيقة ما سأتناوله.

هل ما دفع البائع لذلك امتلاكه لضمير حى يرفض فكرة الغش أم خوفه من القانون، لأنى من الممكن أن أدعى بعد ذلك أنى أصبت بضرر من نوعية هذا الطعام، وكثيرا ما تكون هناك عقوبات رادعة وغرامات تصل بالملايين على المخالفين؟، أيا كان السبب سواء الضمير أو الخشية من تطبيق القانون، فهذا البائع يمثل فى فعله فعلا إنسانيا طبيعيا وقد يكون وراء ما فعله امتلاك ميزة الضمير أو أنه منضبط السلوك ولا يريد مخالفة القانون. 

بالتأكيد نوعية هذا الإنسان أو البائع لو انتقل إلى عمل آخر ليتولى الإشراف على إنتاج المواد الغذائية، وليس بيعها فإنه سيطبق نفس قواعد الأمانة فى عملية الإنتاج، بدون وجود أى رقيب عليه سوى ضميره أو انضباط سلوكه واتباع قواعد القانون. 

لكن فى مجتمعنا  نجد شخصا يدير مصنعا لإنتاج مواد غذائية، وغذائية هنا تعتبر مصطلحا مجازيا ويتناولها الملايين ويخلطها بمواد طلاء الجدران ويستخدم فى إنتاج هذه السموم كل ماهو فاسد ولم يكتف بذلك بل المكان الذى يدير منه مصنع السموم لايصلح لأى إنتاج وغارق فى مياه الصرف الصحى.

يجب أن نسأل هنا ما طبيعة هذا الشخص الذى لا يمتلك أى أبجديات الإنسانية لأنه يعلم جيدا أن هناك بشرا سيتضررون من هذه السموم وقد يفقدون حياتهم نتيجة تناولهم هذا السم؟، بل أن هذه الشخصية التى تنتج هذه السموم أكثر انحطاطا فى إجرامها من إجرام تاجر المخدرات، لأن من يذهب إلى تاجر المخدرات يعلم جيدا أنه يشترى سموما ستضره، أما هذا القاتل الغشاش فهو يتعمد خداع المشترى حسن النية الذى أراد فقط شراء مواد غذائية لأسرته ولا يعلم أنه يقدم لهم سموما صنعها هذا القاتل. 

الحقيقة أن سوق المواد الغذائية لاتتوقف كوارثه وحجم الغش فيه على مصنع ينتج الجبن بطلاء الجدران، فنحن أمام مافيا من أحط أنواع المجرمين تتاجر بحياة البشر المخدوعين فى هذه السموم فلا مانع أن تجد مجرما آخر يبيع الدواجن النافقة ويلهث وراء شراء هذه النفايات مجرم ثانى يقدمها لزبائنه فى مطعمه وكل ما يفعله هو "تبييضها " بالمواد الكيماوية للتخلص من الروائح ولون العفن ثم يقف داخل مطعمه وهو يرى أمام عينه الآلاف وهم يتناولون هذه السموم دون أى وازع من ضمير أو خشية من قانون. 

عندما تتابع سوق اللحوم تكتشف أن الأمر ليس سرا وأصبح طبيعيا أو كأنه قدر المصريين أن يتحكم أحط أنواع المجرمين فى صحتهم فهم يصنعون مايسمونه لحوم من بقايا النفايات ومواد لايعلم أحد مصدرها ويتلقف هذه السموم نفس أصحاب المطاعم ليقدموها لزبائنهم المخدوعين، ويشعر هؤلاء المجرمون بسعادة من تحقيق المال الحرام القادم من وراء استنزاف صحة المصريين.

بالتأكيد الأجهزة الرقابية فى الدولة بكافة تخصصاتها تطارد هذه النوعية من المجرمين وتصادر كميات ضحمة من الأغذية الفاسدة والتى تصدمنا العبارة المستخدمة فى وصفها أنها غير صالحة للاستخدام الآدمى، فهذا المجرم الذى يصنع أو يبيع هذه السموم يعلم جيدا أنها لاتصلح للبشر ولكنه يصنعها ويبيعها غير مهتم بقتل من يتناولها، رغم هذه المطاردة والملاحقة التى لا تتوقف إلا أن حجم السوق المصرى الضخم تعطى للمجرمين فرصة لممارسة إجرامهم على حساب صحة المصريين. 

توجد تجربة هامة قامت بها الدولة فى التصدى للسلع المغشوشة و كانت هناك مافيا أخرى تتاجر فيها باستيراد قمامة السلع من الخارج غير عابئة بما تسببه من كوارث تنهى حياة من يستخدمها وعندما تصدت الدولة لهذه المافيا الإجرامية استطاعت ضبط السوق وتطهيرها من هذه السلع بعد أن اشترطت معرفة مصدر الاستيراد والتأكد من جودته ورغم أن هذه المافيا حاولت الإفلات بغشها لكن أمام صرامة الإجراءات المطبقة من الدولة تلاشت المافيا وغشها من السوق. 

تقوم الدولة بنفس الجهود فى ملاحقة هذا الإجرام فى سوق الأغذية لكن خطورة هذا السوق أن المافيا التى تخربه تعمل بالداخل وفى الخفاء عكس مافيا السلع المغشوشة والمستوردة من الخارج فيمكن إحكام السيطرة على دخولها لذلك يجب أن نعود لنفس السؤال وهو ماهى طبيعة هذا المجرم الذى لايمتلك أى ضمير أو خشية من قانون ليمارس أحط أنواع الخداع القاتل؟، لايمكن أن تكون هذه الشخصية السيكوباتية المعتدية على المجتمع وصحته وأرواح أبنائه نشأت فجأة بل هى نتاج لسنوات طوال مضت من التهريج وترهل آليات السيطرة من الدولة على إدارة الأسواق بكافة أنواعها بل أن هذا العبث امتد للمستهلك نفسه الذى استسلم لهذه المافيا الإجرامية وصدق فى بلاهة دعايتها السوداء بأن "معدة المصريين تهضم الزلط" ولم ير ارتفاع نسب الإصابة بالأمراض وانهيار الصحة العامة لللمواطنين. 

لم تخرج هذه الشخصية الإجرامية المتاجرة فى أرواح المصريين من عباءة التهريج والترهل فقط بل كان هناك جو عام أفرزته عصابات الإخوان والمتسلفة من التدين الشكلى جعل لكل مجرم مرجعية تعطيه الحق فى الخداع والقتل مادام هو يرتدى مسوح التدين ويحرص على الشكل لا المضمون لأجل مزيد من الخداع، ولا مانع هنا أن يكون أمام الناس وفى العلن "الحاج فلان" أما فى الحقيقة فهو يصنع السموم الغذائية ويبيعها للمساكين المخدوعين الذين يفقدون صحتهم مع كل وجبة يتناولونها. 

منذ العام 2014 تبنى مصر دولتها الحديثة بكل جدية ولا تراجع عن هذه الحداثة واستطاعت الدولة المصرية القوية طوال ثمانى سنوات التصدى للتهريج وإنهاء حالة الترهل فى العديد من المجالات وتخليص هذا المجتمع من إفرازات عصابات الإخوان والمتسلفة، واعتقد حان الوقت الآن لمواجهة هذه المافيا الإجرامية المصنعة والمتاجرة فى السموم الغذائية بقوة القانون. 

فيجب معاملتهم على حقيقتهم الإجرامية فهم مفسدون فى الأرض ويمارسون قتلنا مع سبق الإصرار والترصد دون أدنى جهالة بما يفعلونه، بل يجب أن يكون العقاب الموقع عليهم بالقانون أشد من عقوبة المتاجر فى السموم المخدرة بسبب خداعهم لأن من لم يوقفه ضميره عن ارتكاب الجريمة فى حق المجتمع يتولى القانون ردعه. 

الأهم فى هذه المعركة أن نتخلص نحن المواطنون أو المستهلكون المخدوعون من السلبية ولا نصدق أن معدتنا تهضم الزلط ونقف مع الدولة عندما تتخذ إجراءاتها القانونية الرادعة ضد هذه المافيا الإجرامية ولا تأخذنا بهم شفقة أورحمة أو يردد البعض فى ميوعة أن الدولة تتشدد فى إجراءاتها وعلى هؤلاء المرددين الاطلاع فقط على طبيعة القوانين وصرامة العقوبات التى توقع فى العديد من الدول عند وقوع هذه النوعية من الجرائم، عندما يردع القانون هؤلاء المفسدين ويقضى على هذه الآفة ولا تعتادها أجيال جديدة تولد فى ظل الدولة القوية ستمتلك هذه الأجيال ضميرا أكثر شدة وقوة من ردع القانون. 

Dr.Randa
Dr.Radwa