د. نبيل حنفي محمود - كاتب مصري
لو أن أحدا قال اليوم إن خريجا من جامعة الأزهر، أو منتسبا لها، نظم نصا غنائيا يترنم به أحد الأصوات الغنائية، لقامت مصر ولم تقعد، ولاعتقد أغلبية المصريين أن ما قيل فرية يراد بها النيل من مكانة الأزهر وتاريخه في الذود عن الإسلام وقضايا المسلمين، فما بال المصريين المعاصرين إذا علموا أن شيخين للأزهر، قد حفظت لنا مصادر التاريخ ومدوناته نصوصا غنائية، نظماها وتغنت بألحان وضعت لها أصوات غنائية تعددت بين مطربين ومطربات، ومازال البعض من تلك الألحان، مما لحق بوسائل حفظ الصوت، يتردد في أسماع الأجيال المعاصرة. والإمامان هما الشيخ عبد الله الشبراوي والشيخ أحمد العروسىّ.
الإمام الشبراوي
هو عبد الله بن محمد بن عامر بن شرف الدين، الشبراوي الشافعي، وقد عرّفه الجبرتي في "عجائب الآثار في التراجم والأخبار" بقوله: "الشيخ الإمام الفقيه، المتحدث الأصولي، المتكلم الماهر، الشاعر الأديب". ولد علي وجه التقريب بالقاهرة عام 1092 هجري، وقال الجبرتي: "وهو من بيت العلم والجلالة، فجده عامر بن شرف الدين، ترجمه الأمينيّ في الخلاصة، ووصفه بالحفظ والذكاء"، وتلقي أول إجازة دراسية وعمره نحو ثماني سنوات من الشيخ محمد بن عبد الله الخرشي، وإن كانت مصادر كثيرة وحديثة أثبتته باسم (الخراشي)، وهو أول شيخ للأزهر في العصر الحديث ومنذ ابتداء الاحتلال العثماني لمصر، وكان شيخ المذهب المالكي في ذلك العصر، ثم أخذ العلوم عن مجموعة من الشيوخ كالشيخ خليل بن إبراهيم اللقاني والشهاب الخليفي والشيخ محمد بن عبد الباقي الزرقاني والشيخ أحمد النفراوي وغيرهم، فمضي يترقي في الأزهر، حتى أقر شيخا للجامع عام 1137هجري (1724 / 1725 ميلادي) بعد وفاة الشيخ إبراهيم بن موسي الفيومي المالكي، ليكون الشبراوي سابع شيخ للجامع الأزهر في تاريخه الحديث، وأول شيخ للأزهر من الشافعية (أحمد البلك: شيوخ الأزهر... من الخراشي إلي طنطاوي، مجلة "أكتوبر"، 20 سبتمبر 2009).
عرف الشيخ الشبراوي بحب العلم والإقبال علي تحصيل المعرفة، ويأتي الدليل علي ذلك مما ذكره الجبرتي عن شغفه باقتناء "الكتب المكلفة النفيسة بالخط الحسن"، مما رفع من مقامه وأسبغ عليه الهيبة في أعين الخواص قبل العوام، وقد مكنه طول مقامه في موقع شيخ الأزهر، حيث استمرت مشيخته للأزهر قرابة خمسة وثلاثين عاما، من بناء دار عظيمة علي بركة الأزبكية وبالقرب شارعي البكرية والرويعي، فصار كما يقول الجبرتي: "ذا جاه ومنزلة عند رجال الدولة والأمراء، ونفذت كلمته، وقبلت شفاعته، وصار لأهل العلم في مدته رفعة مقام ومهابة عند الخاص والعام". وما تحقق له من مكانة وثراء، لم يصرفه عن الإنتاج العلمي، وها هو موقع دار الإفتاء المصرية بشبكة المعلومات (الإنترنت) يبسط قائمة بمؤلفاته، ففي مجال العقيدة قدم الكتب التالية: "العقد الفريد في استنباط العقائد من كلمة التوحيد"، "شرح الجامع الصغير"، "شرح أحكام ابن عطاء الله السكندري"، "الإتحاف بحب الأشراف"، وله في مجال الأدب كتب منها: "عروس الآداب وفرحة الألباب في تقويم الأخلاق ونصائح الحكام وتراجم الشعراء"، "عنوان البيان وبستان الأذهان في الأدب والأخلاق والوصايا والنصائح"، "نزهة الأبصار في رقائق الأشعار"، "نظم بحور الشعر وأجزائها". وأدلي بدلوه في مجال التاريخ بكتاب "شرح الصدر في غزوة بدر". ولما كان الشيخ شاعرا فقد سخر ملكاته الشعرية في نظم بعض العلوم شعرا، ومن ذلك نظمه للأجرومية في علم النحو، بالإضافة إلي ديوانه "مفاتح الألطاف في مدائح الأشراف" والذي طبع مرارا، و"الأجرومية" أو "متن الأجرومية" عنوان لكتاب في علم النحو، ألفه أبو عبد الله محمد بن محمد بن داود الصنهاجي المعروف بابن أجروم (توفي 723 هجري).
كان نظم العلوم مقياسا لشاعرية الشاعر ومدي تمكنه من أدوات فنه، وهو ما نهض دليلا عليه. وديوان الشبراوي "يحتوي علي غزليات ومقاطيع"، كما سجل الجبرتي، واشتهر الديوان بين الناس وتداولته الأيدي، وصار منهلا لأهل الغناء، نهلوا منه كل عذب وصاف من المشاعر الرقيقة والوجدانيات العفيفة، ولسنا نعلم الآن شيئا عن ذلك الديوان، سوى قصائد وقطع تناثرت بين بعض كتب التاريخ والتراجم، ومن ذلك ما أورده الجبرتي، ومنها قصيدة طويلة يبلغ عدد أبياتها ستة وخمسين، بعث بها الشيخ الشبراوي إلي والي مصر عبد الله باشا الكبورلي مع تابع للوالي، واستهلها بالأبيات التالية:
مُحبك يا شقيق الروح يرجو
مجيئك للتأنس والسرور
ويُنهي أنه لك ذو اشتياق
تضيق له فسيحات السطور
ويأمل منك في ذا اليوم تأتي
وتُنعم بالجلوس أو المرور
وفي "المنتخب من أدب العرب" (أحمد أمين وآخرون) جاء أن الشبراوي أنشد متشوقا إلى مصر في إحدى رحلاته قصيدة استهلها بالأبيات التالية:
أعد ذكر مصر، إن قلبي مُولعٌ
بمصر، ومن لي أن تري مقلتي مصرا؟
وكرر علي سمعي أحاديث نيلها
فقد ردت الأمواج سائلهُ نهرا
بلاد بها مدّ السماح جناحه
وأظهر فيها المجد آيته الكبرى
فأين ذلك ممن يقول الآن: "طظ في مصر" أو ممن يهدد بحرقها؟!
عرف الشيخ الشبراوي بكرم النفس وسعة الأفق، مما ينبئ بفطرة إنسانية سليمة، وليس هناك ما هو أدل علي ذلك من موقفه إزاء حج نصارى مصر إلي بيت المقدس، فبينما اعترض بعض الشيوخ علي خروج موكب لمن أرادوا الحج من النصارى عام 1166 هجري (1752 – 1753 ميلادي)، وأوعزوا للعامة أن يغيروا علي الموكب وينهبوه، كتب الشيخ الشبراوي فتوى جاء فيها: "إن أهل الذمة لا يمنعون من دياناتهم وزياراتهم" (الجبرتي: المرجع السابق). إن شاعرا علي هذا القدر من الرقي الإنساني والتسامح، لا بد أن تلمس أشعاره شغاف القلوب وكوامن النفوس، لذلك مثل ديوانه موردا عذبا لأهل الغناء في عصره ومن بعده، كي يقتطفوا منه القصائد والمقطوعات الجزلة ليجملوا بها أصواتهم، وقد حفظت بعض الكتب التي أرخت للغناء نماذج مما ترنم به البعض من شعر الإمام الشبراوي، ومن تلك النماذج قصيدة أثبتها محمد بن إسماعيل بن عمر شهاب الدين في كتاب "سفينة الملك ونفيسة الفلك"، وتبدأ بالأبيات التالية:
أما ومن الجمال أنعم
وعم بالحسن منك مبسم
وأودع السحر في عيون
هاروت من جفنها تعلم
وما حوى الثغر من لآلي
فريدها فيه قد تنظم
وطيب أخلاقك اللواتي
بطيبهن النسيم يعلم
هذه النماذج علي قلتها، لا يجد قارئها مشقة أو عظيم جهد، كي يسلكها في عداد الشعر الغنائي، الذي يكد كبار الملحنين في البحث عنه، ليسبغوا عليه من فضل مواهبهم لحنا تطرب له العقول قبل الآذان، ومن هؤلاء الملحنين الشيخ أبو العلا محمد (1868 ـ 1927)، الذي يعد من أعلام مدرسة الشيوخ في الغناء المصري، وقد نبغ في تلحين القصائد وإلقائها، وتأثر في ذلك بطريقة الملحن والمطرب الشهير عبده الحامولي، وكان إلقاؤه للقصائد في بداية مشواره مع الغناء يتم دون الاستعانة بفرقة موسيقية، ومن تلك القصائد التي أذاعها الشيخ بصوته وسجلها علي إحدى أسطوانات شركة بيضافون عام 1912، قصيدة "وحقك أنت المني والطلب" للشيخ عبد الله الشبراوي (دار الكتب والوثائق القومية: فهرس الموسيقي والغناء العربي القديم علي أسطوانات، القاهرة 1998، جزء1، ص16)، لم يدقق الشيخ أبو العلا كثيرا عند تلحين هذه القصيدة، ولعل تركه للتدقيق يرجع إلي إحكام الشيخ الشبراوي لموسيقي أشعاره الداخلية، تلك الموسيقي التي تنشأ من استخدام الشاعر لحروف متحركة وأخرى ساكنة في بنية شعره، يخلق تواترها موسيقى الشعر التي يعرفها متذوقه قبل ناظمه، مما يقوم دليلا عليه الأبيات التالية، التي تمثل مطلع القصيدة (خليل المصري ومحمود كامل: أم كلثوم، منشورات اللجنة الموسيقية العليا، القاهرة 1979):
وحــقـك أنت المنى والــطلب
وأنت الــمـُراد وأنـــت الأرب
ولي فيك يــــا هاجِري صبوة
تـحير فـي وصفِها كـــل صبّ
أبيت أُســـــــامِر نجم الســــما
إذا لاح لي في الدُجى أو غـرب
وأُعرِض عن عاذِلي في هواك
إِذا نمّ يـــــا مُهجتي أو عـــتب
عندما انتقلت أم كلثوم قرابة عام 1920 للإقامة بالقاهرة، تعهدها الشيخ أبو العلا محمد بالرعاية والتدريب، فأعطاها مجموعة من قصائده، منها قصيدة "وحــقـك أنت المنى والــطلب" التي لحنها الشيخ من مقام هزام، فسجلتها أم كلثوم عام 1926 بمصاحبة فرقة موسيقية على أسطوانة، كانت الفرقة التي سجلت معها أم كلثوم القصيدة مكونة من خمسة عازفين على العود والناي والقانون والكمان والرق، وعن الأثر الذي أحدثه غناء أم كلثوم للقصيدة، قال الناقد كمال النجمي إنها: "افتتحت عهدا جديدا في غناء القصيدة العربية" (كمال النجمي: الغناء المصري: مطربون ومستمعون)، وما كان للأستاذ النجمي أن يطلق ذلك الحكم على القصيدة، لو أنها لم تدرك عصر الأسطوانة الذي لم تلحق به قصائد أخرى للشيخ الشبراوي، تغنت بها أصوات غنائية عاشت قبل ظهور الأسطوانات.
الإمام العروسيّ
هو الإمام الشيخ أحمد بن موسي بن داود، ولقب بالعروسيّ لانتسابه لقرية منية عروس، مركز أشمون بمحافظة المنوفية، والإمام العروسيّ هو الشيخ الحادي عشر في قائمة شيوخ الجامع الأزهر، وهو أيضا والد الإمام محمد بن أحمد العروسيّ الذي أقر عام 1818 شيخا للجامع الأزهر، ليكون بذلك الشيخ الرابع عشر من شيوخ الأزهر، والشيخ أحمد بن موسي بن داود هو كذلك جد الإمام العشرين في سلسلة شيوخ الأزهر، وهو الإمام الشيخ مصطفي محمد العروسيّ، الذي تولي مشيخة الأزهر عام 1864. ونقل علي مبارك عن الشيخ العروسيّ من ترجمة الجبرتي الذي بدأ الجبرتي بقوله: "هو الإمام العلامة والحبر الفهامة الشيخ أحمد بن موسي بن داود، أبو الصلاح العروس الشافعي الأزهري، ولد ببلده سنة ثلاث وثلاثين ومائة وألف، وقدم الأزهر، فسمع علي الشيخ الملوي الصحيح بالمشهد الحسينيّ، وعلي الشيخ عبد الله الشبراوي الصحيح والبيضاوي والجلالين، وعلي السيد البليدي البيضاوي في الأشرفية، وعلي الشمس الحنفي الصحيح مع شرحه للقسطلاني ومختصر ابن أبي حمزة والشمائل وابن حجر علي الأربعين والجامع الصغير، وتفقه علي كل من الشبراوي والعزيزي والحنفي والشيخ قايتباي الأطفيحي والشيخ حسن المدابغي وغيرهم". من ذلك يقف القارئ للجزء السابق من ترجمة الإمام العروسيّ علي أسماء شيوخه وما شرحوا له من كتب وعلي المواقع التي شهدت دروس البعض من هؤلاء الشيوخ خارج الأزهر.
وعن اختيار الإمام العروسيّ شيخا للأزهر قال علي مبارك: "لما توفي الشيخ أحمد الدمنهوري شيخ الجامع (توفي 10 رجب 1192هجري، 4 أغسطس 1778)، واختلفوا في تولية الشيخ، فوقعت الإشارة إليه (الشيخ العروسيّ)، واجتمعوا بمقام الإمام الشافعي رضي الله عنه، واختاروا المترجم (الشيخ العروسيّ) للمشيخة، فصار شيخ الأزهر على الإطلاق، ورئيسه بالاتفاق، يدرس ويعيد ويملي ويفيد"، ومن مؤلفاته التي نقلها علي مبارك عن الجبرتي: "شرح علي نظم التنوير في إسقاط التدبير للشيخ الملوي" وهو شعر، و"حاشية علي الملوي علي السمرقندية".
كثيرة هي المواقف التي شارك فيها الإمام العروسيّ، وعبرت عن الإقدام والشجاعة وحسن السياسة، وسوف نعرض لموقف يؤكد هذا القول، حدث ذلك الموقف يوم الثلاثاء الثاني من ذي القعدة سنة 1202 (4 أغسطس 1788)، عندما ثار جماعة الشوام وبعض المغاربة بالأزهر بسبب الجراية (وهي المقرر من الرواتب أو الخبز)، فأغلقوا باب الجامع ومنعوا الشيخ العروسيّ من الخروج. يقول الجبرتي: "فرجع إلي رواق المغاربة وجلس به إلي الغروب، ثم تخلص منهم وركب إلي بيته"، فلما كان اليوم التالي خرج الثائرون من طلبة الأزهر إلى السوق، وأمروا التجار بغلق دكاكينهم، وعندما ذهب الشيخ مع بعض شيوخ الأزهر إلى الحاكم العثماني للبحث عن حل للمشكلة، طلب منه الحاكم تسليم مثيري الفتنة من طلبة الأزهر ليؤدبهم وينفيهم، فرفض الشيخ ذلك الطلب، وامتنع لأيام عن دخول الأزهر، وذهب لإلقاء دروسه في المدرسة الصالحية التي أنشأها الملك الصالح نجم الدين أيوب عام 640 هجري بخط بين القصرين، ولم يلبث الأمر إلا قليلا، حتى تدخل ناظر الجامع: علي بك الدفترادار ونجح في حل المشكلة.
هذه المواقف أضفت علي الإمام العروسيّ مهابة وقبولا لدي العامة والخاصة، وضاعف من ذلك ما أثر عن الشيخ من خصال قال عنها الجبرتي: "وكان رقيق الطباع، مليح الأوضاع، لطيفا مهذبا، إذا تحدث نفث الدرّ، وإذا لقيته لقيت من لطفه ما ينعش ويسر". إن عالما كالإمام العروسيّ تبوح ترجمته وأخباره المتناثرة في مصادر التاريخ بموسوعيته، لا بد وأن يقرض الشعر على جاري عادات مثقفي عصره، وهو ما يتضح لقارئ ترجمته التي أثبتها الجبرتي بالجزء الرابع من تاريخه، حيث سجل نماذج من قصائد نظمها الإمام العروسيّ، وكانت جميعها من قبيل التقريظ والمدح لشيوخ العصر وأعلامه، والبيتان التاليان من قصيدة في تاريخ الجبرتي نظمها الإمام في مدح (الأستاذ عبد الخالق وفا) أحد علماء العصر، وفي حديث الجبرتي أنه عبد الخالق بن أحمد بن عبد المطلب بن محمد بن تاج العارفين، والمنتهي نسبه إلي سيدي عبد القادر الحسني الجيلي المصري ويعرف بابن نبت الجيزي:
شموس لها أفق السعادة مطلعُ
أبت في سوى برج السعادة تطلعُ
معارج فضل ليس يرقى سنامها
سوى مفرد في عزه ليس يشفع
لم تبح المصادر التاريخية أو الأدبية التي أرخت للعصر الذي عاش فيه الإمام العروسيّ، بأكثر مما أثبت الجبرتي في تاريخه من مقطوعات من قصائد أو أبيات نظمها الإمام، وقد نقل الجبرتي عن الإمام العروسيّ: "وسمعته مرة يقول: ما زلت أنظم الشعر حتى ظهر الشيخ قاسم الأديب ببلاغته، فعند ذلك تركته". وبالرغم من أن أحدا لا يعلم الآن هل ترك الإمام العروسيّ ديوان شعر كالذي خلفه أستاذه الإمام الشبراوي أم لا؟ إلا أن الأمر المؤكد في شأن شعره، يتمثل فيما رواه الجبرتي عن توشيح نظمه الإمام العروسيّ وطبقت شهرته الآفاق، وقال الجبرتي عن ذلك التوشيح: "ومما ينسب إليه (للإمام العروسيّ) هذا التوشيح:
ماس غصن البان زاهي الخد وتثنّي معجبا
بين أفنان النقا والرند وأثيلات الرُّبا
خلت بدرا فوق غصن مائس
قد أمالته نُسيمات الصّبا
وهو مشهور غاية الإشهار في الأغاني والأوتار، فلا حاجة إلي ذكره بتمامه". ومما يؤسف له حقا اكتفاء الجبرتي بهذين البيتين فقط من ذلك التوشيح، الذي لم تسفر جهود البحث عن بقيته عن أي شيء، ولكنهما يكفيان مع ما أثبت الجبرتي من شعر الإمام العروسيّ، لبيان صدق موهبته وجزالة شعره، الذي تميز بالسهولة والرصانة وقلة التكلف في ألوان البديع، مما كفل له الذيوع علي ألسنة الناس وحناجر أهل الغناء.
لقي الإمام العروسيّ وجه ربه يوم 21 شعبان 1208 (24 مارس 1794)، وخرجت جنازته من الجامع الأزهر في مشهد حافل، ورثاه الشاعر إسماعيل بن سعد الشهير بالخشاب (توفي 1230هجري)، بأبيات منها:
إمام هدى للهدي كان انتدابه
فلا كان يوم فيه قامت نوادبه
أغرُّ سني شمس الضحى دون وجهه
وفوق مناط الفرقدين مراتبهْ
تلك كانت شذرات من سيرتيّ إمامين جليلين من شيوخ الجامع الأزهر الشريف، تكشف للقارئ الآفاق الرحبة لما تجمل به أولئك الأعلام من شعر رائق رددته الألسن والحناجر، وما زال البعض منه يصافح الأسماع حتى أيامنا، ليكشف زيف وضلال البعض من دعاة آخر الزمان، ممن لم تستوعب آذانهم الصم قيم التسامح والمحبة التي تبوح بها سير الرعيل الأول من شيوخ الأزهر العظام.