الأربعاء 1 مايو 2024

لا تنظروا للسماء!

مقالات12-1-2022 | 11:44

ماذا يمكنك أن تفعل إذا علمت أن مذنبًا ضخمًا سيصطدم بكوكب الأرض بكل قوة وستنتهي البشرية على يديه، هذه هي الفكرة الرئيسية للفيلم الأمريكي الجديد للمخرج آدم مكاي "لا تنظروا للسماء"، المخرج -الذي هو في الوقت ذاته مشارك في كتابة السيناريو – والذي سخر فكرة الفيلم لانتقاد كل شيء.

 الحياة الأمريكية بكل تفاصيلها كانت في مرمي نيران أسلحة السينما الثقيلة، الساسة البلهاء الذين يسحقون الجميع في مقابل الحفاظ على مناصبهم، ورجال الأعمال الذين يكدسون الأموال تلالًا ويتركوننا حفاة عراة، والعلم الذي أحيانًا كثيرة ما يتم استغلاله بشكل تجاري محض فيتنكر للقيم الإنسانية وينتصر للغة المادة، والإعلام الذي تناسى دوره التنويري المفترض وتقلد منصب كبير آلهة الجهل والسطحية، ونحن البشر أجمعين تناسينا أنفسنا وتجاهلنا انسانيتنا وعرقلنا عقولنا عن التفكير؛ فأصبحنا مادة سائلة في أيادي الكثيرين يشكلونها علي هواهم أو علي مقاس لغة المال والأعمال، بينما نحن مقتنعون بكل تلك المظاهر البراقة شكلًا ، الخداعة جوهرًا، ولا نبالي، تسير الحياة بنا ونحن على يقين بامتلاك الحقيقة لكن الحقيقة ذاتها هي أبعد ما يكون عن حوزتنا، نحن لا نملك سوى تلك الحقائق التي يمررونها بقصد ما ولغاية محددة تصب في مصالحهم وأرصدة بنوكهم، السراب هو كل ما نملك، لا حقيقة مطلقة، ولا حتى حقيقة جزئية، كل ما نملك هو قبض الريح، شيء هلامي نسير على هداه فنصطدم بجدران وعوازل وتنتهي رحلة حياتنا قبل امتلاكنا لليقين.

الفيلم خالِ من الجماليات السينمائية المعتادة، مصنوع وكأنه مقال سياسي من النوع الكوميدي الساخر، لا يوجد سوى الأصوات الصارخة، الكل يصرخ في وجه الآخر، السوداوية والكآبة اللتان يبثهما الفيلم كافيتان لقيام ثورات تغير الواقع الاجتماعي والاقتصادي والعلمي والسياسي، الفيلم ذاته بدا وكأنه منشورًا ثوريًا من جهة ورسالة مباشرة ضد الواقع من جهة أخرى.

إن الإسقاطات المباشرة للفيلم واضحة وضوح المذنب المدمر ذاته، فرئيسة أمريكا تشير إلى إدارة الرئيس السابق ترامب بشكل كلي والمرشحة الرئاسية المنهزمة هيلاري كلينتون بشكل جزئي، ورجل الأعمال هو تركيبة من كل من إيلون ماسك، جيف بيزوس، بيل جيتس، ستيف جوبز ومارك زوكربيرج، أما اصطدام مذنب بكوكب الأرض يشير للتغيرات المناخية وتأثيرها المدمر على الكوكب، وغيرها الكثير والكثير من الإسقاطات التي يمكننا استنتاجها أو فلنقل أنها لا تحتاج إلى استنتاج لأنها تفرض نفسها فرضًا على المشاهد، فهل كان ذلك أحد المظاهر السلبية التي قتلت حاستي الحدس والتنبؤ اللازمتين لاستكمال عملية اللذة والاستمتاع.

هل نحتاج إلى إعادة رسم مخططات حياتنا؟، أم نحن بحاجة لتغيير قناعتنا؟

هل كل ما يبث في أذاننا ليل نهار هو الحقيقة المجردة أم الحقيقة الموجهة؟

ماذا نفعل حيال تحكم التكنولوجيا الكامل على مسارات تفكيرنا؟

أسئلة كثيرة بحجم كوكب الأرض ذاته تفرض نفسها بعد مشاهدة هذا الفيلم، الدعوة لمراجعة كل شيء، التشكيك في كل شيء، متى ننتهي من سطحيتنا التي تستهلك وتستنزف كل جهودنا دونما طائل يذكر؟، متى تستعيد عقولنا المهملة قوتها وفاعليتها؟، متى نكون نحن البشر العاديون أصحاب قرار؟، متى نعود لطبيعتنا البسيطة وفطرتنا التي جبلنا عليها؟، لماذا لا نتواصل مع الآخرين تواصلًا إنسانيًا مجردًا من كل ماديات الحياة حتى لا نعيش فرادى وحتى لا نموت وحيدين؟.

عندما يتيقن المرء من موعد وفاته المحتمة فماذا هو فاعل، أن سيناريو الفيلم كان تقليديًا للغاية عند تعرضه لمعالجة تلك المسألة الوجودية، فالأغنياء اخترعوا سفينة فضاء وهربوا بها من كوكب الأرض المتوقع فنائه بينما الآخرون لم يجدوا سوى الدين ليتمسحوا به في لحظاتهم الأخيرة، وكأن الدين ما خلق إلا من أجل استدعائه وقت الانتكاسات الكبرى، الاحتماء بالسماء دائمًا ما يحدث كردة فعل أخيرة ويائسة من أجل استجداء الميتافيزيقا علها تكون طوق النجاة، لكن المؤكد أن نهاياتنا المحتمة نحن من نقوم برسم خيوطها وتعبيد طرقها.

لا تنظروا للسماء حتى لا تنكسر رقابكم وتضعف أبصاركم، كونوا قانعين بالقليل الذي تملكونه وانسوا تطلعاتكم وارموا طموحاتكم في مكب النفايات، تلك دائمًا هي صيغة الأمر التي تستخدمها السلطة لتخويفنا، الخوف يا سادة على الدوام هو الوسيلة الأكثر نجاعة للتركيع والمهادنة، إن فكرة السيطرة علي الشعوب من خلال إشاعة الذعر بينها دائمًا ما تؤتي ثمارها.

تبقى روعة الفن من خلال إمكاناته المتعددة لطرح الأسئلة الكبرى وإثارتها وبلورتها وإلقائها في وجوهنا، فتثير دهشتنا رغم بداهتها، ونحاول الذهاب في رحلة للبحث عن إجابات مقنعة، تلك الرحلة التي غالبًا ما تفشل لكننا بتشبعنا الزائف بفكرة سيادتنا على الكون والطبيعة نكرر الرحلة تلو الرحلة علنا نجد خلاصنا أو نمتلك يقيننا، وسنظل.

Dr.Randa
Dr.Radwa