الخميس 20 يونيو 2024

جولة عبر آثار مصر الخالدة (7)

مقالات29-1-2022 | 12:14

تمثالي «ممنون»

في محيط من فضاء متسع تمثله خضرة الحقول المزروعة، وبعيدا عن المناطق السكنية، وعلى جانب الطريق المؤدي إلى المعابد الملكية ومقابر الملوك الموجودة بجبانة طيبة، يقف تمثالان عملاقان، يصل ارتفاع كل تمثال منهما 18 متراً، ويبعدان عن بعضهما حوالي 15 متراً، يمثلان الملك أمنحتب الثالث، الذي حكم مصر خلال الأسرة الثامنة عشر، في القرن الرابع عشر قبل الميلاد (حوالي سنة 1350 ق.م)، جالساً بينما يداه مبسوطتان على ركبتيه وناظراً تجاه الشرق نحو النهر.

 وقد نُحتّ شكلين قصيرين على مقدمة العرش إلى جانب ساقيه: هما زوجته تيي وأمه موت إم ويا. بينما تصور الألواح الجانبية إله النيل حابي.

هذان التمثالان العملاقان هما كل ما تبقى من معبد بُنيّ تخليداً لذكرى الفرعون أمنحتب الثالث، في مدينة طيبة الجنائزية غرب نهر النيل، شُيِّدا ليكونا حارسين عند مدخل معبده، حيث كان يُعبد فيه كإله على الأرض قبل وبعد رحيله عن هذا العالم. حينذاك، كان هذا المعبد الأكبر والأفخم في مصر القديمة، حيث كان يغطي مساحة إجمالية قدرها 86 فداناً، حتى أنه لم ينافسه في ضخامة حجمه المعابد الضخمة اللاحقة، أمثال: الرامسيوم لرمسيس الثاني أو مدينة هابو لرمسيس الثالث؛ حتى أن معبد الكرنك كان أصغر حجماً حينما كان قائماً في زمن أمنحتب.

وباستثناء التمثالين، لم يتبق سوى القليل من المعبد، الذي كان قائماً على حافة السهول الفيضية للنيل، فقد تسببت الفيضانات السنوية المتتالية في تآكل أساساتها.

التمثالان منحوتان من كتل من حجر الكوارتزيت، وهو حجر متحول عن الحجر الرملي شديد الصلادة، يرى البعض أنه تمَّ جلبها من منطقة الجبل الأحمر بالقرب من القاهرة ونُقلّت 675 كم براً إلى طيبة (الأقصر)، على أساس أنها كانت ثقيلة فلم يكن من المستطاع نقلها عكس تيار النيل. يتكون التمثال الجنوبي من قطعة واحدة من الحجر، لكن التمثال الشمالي به صدع كبير وواسع في النصف السفلي وفوق الخصر ويتكون من 5 طبقات حجرية.

تتكون هذه المستويات العليا من نوع مختلف من الحجر الرملي، نتيجة لمحاولة إعادة بناء لاحقة، تمت في عهد الإمبراطور الروماني سيبتيموس سيفيروس (145-211م). وربما تكون الكتل التي استخدمها المهندسون الرومان لإعادة بناء التمثال الشمالي قد جاءت من إدفو شمال أسوان بما في ذلك القاعدتان الحجريتان للتمثالين بارتفاع حوالي 4 أمتار.

كلا التمثالين متضرران تماماً، بحيث لا يمكن التعرف فعلياً على الملامح الموجودة فوق الخصر، ويُعتقد أنهما كانا في الأصل متطابقين، على الرغم من اختلاف النقوش والفنون الثانوية، فقد تعرض معبد أمنحتب بعد فترة وجيزة من بنائه، لزلزال شديد، أرَّخه المعهد الأرمني لعلم الزلازل مؤخراً إلى حوالي 1200 ق.م، والذي ترك التمثالين الضخمين فقط قائمين عند المدخل. وقد تسبب زلزال آخر في 27 ق.م في تضررهما أكثر، وبعد ذلك أعادت السلطات الرومانية بناءهما جزئياً.

كانت هذه التماثيل موضوعاً لعمليات ترميم وتنقيب مكثفة أجراها عالم الآثار الأرمني/الألماني هوريغ سوروزيان، الذي كشف أن المجمع يتألف من ثلاث بوابات، على واجهة كل منها تمثالان عملاقان، بينما يقع في الطرف البعيد مجمع معبد مستطيل يتكون من بهو محاط بالأعمدة. حتى الآن استُرجعّت أربعة من التماثيل، بينما تنتظر ثمانية منهم إعادة تجميعها، في حين يوجد حوالي 200 تمثال أو قطعة من التماثيل في متحف الأقصر، بعضها معروض والبعض الآخر في انتظار الترميم.

الاسم العربي الحديث للمكان، حيث التمثالين وبقايا المعبد القديم، هو كوم الحيطان، لكنه معروف بالاسم الروماني "معبد ممنون"، و"تمثالي ممنون". 

وممنون هذا الذي ينسب إليه المكان، والذي يعني اسمه الصامد أو ذو العزم، هو ابن إييوس إلهة الفجر وبطل من أبطال حرب طروادة الشهيرة في الأساطير الإغريقية، وهو ملك إثيوبيا الذي قاد جيوشه من إفريقيا إلى آسيا الصغرى للمساعدة في الدفاع عن مدينة طروادة المحاصرة، لكنه قُتل على يد أخيل.

وسبب ارتباط هذا الاسم بالتمثالين يرجع إلى ذلك صوت النحيب الذي كان يصدر التمثال الشمالي في الفجر وتمَّ ربط هذا الصوت بنحيب أم ممنون عليه وأنينها كل صباح. ويرجع البعض هذا الصوت إلى ما حدث للتمثال في عام 27 ق. م، وما سببه الزلال الذي تعرض له من تحطم وانهيار من الخصر إلى أعلى وتصدع النصف السفلي.

بعد هذا التصدع، اشتهر النصف السفلي المتبقي من ذلك التمثال بأنه "يغني" أو يصدر "نحيباً" في أوقات مختلفة، دائماً في غضون ساعة أو ساعتين من شروق الشمس وعادةً عند الفجر مباشرةً. وتذكر الروايات أن أقدم ذكر لذلك جاء في تقرير المؤرخ والجغرافي اليوناني سترابو، الذي ادَّعى أنه سمع الصوت خلال زيارته للتمثال في عام 20 ق. م، وقال سترابو أنه بدا كأن الصوت "مثل نفخ في آلة"، بينما شبهه الجغرافي اليوناني باوسانياس (110-180 م) بانكسار "وتر القيثارة"، لكنه وصفه أيضاً بأنه كقرع سبائك النحاس أو مثل صفير.

أصبحت أسطورة "صوت ممنون" والحظ الذي اُشتُهر بجلبه لمن يسمعه، إضافة إلى قدرات التمثال التنبؤية معروفة داخل مصر وخارجها، فجاء سيل متدفق من الزوار، منهم محافظو أقسام مصر الإدارية، وحكام منطقة طيبة، والقضاة، وبعض الأباطرة، مثل: هادريان، وسبتيموس سيفيروس لزيارة التمثال والاستماع إلى صوته. وحفر الشعراء على قاعدتي التمثالين، وعلى ركبتي كل منهما، أبيات من الشعر تخلِّد ذكرى زياراتهم للتمثالين، وغيرهم من السائحين والزائرين الذين خلدوها سماعهم أو عدم سماعهم لغناء ممنون.

وتعود آخر إشارة موثوقة سُجِّلت للصوت إلى عام 196م، العصر الروماني ولاحقاً في عام 199م قرر الإمبراطور سبتيموس سيفيروس، وبحسن نية منه، أن يعيد بناء التمثال المكسور، فاصلح النحاتون جسم التمثال ورأسه بعد طبقات من الأحجار، فكانت النتيجة كمن أراد أن يكحِّل العين فأعماها، فقد توقف الصوت وكفَّ النحيب، وأصبح ممنون تمثالاً صامتاً كغيره من التماثيل ولم يعد يصدر أصواتاً بعد ذلك، غير أن اسمه بقي ليذكرنا بظاهرة غريبة في التاريخ. 

ظهرت تفسيرات مختلفة لهذه الظاهرة؛ منها من يرجعها إلى فعل بشري، إلا أنه ثبت أنها ناتجة عن أسباب طبيعية، حيث كان الحجر يصدر ذبذبات صوتية عن طريق فعل داخلي ناتج عن التغيرات الفجائية لانخفاض الرطوبة وارتفاع درجات الحرارة وتبخر الندى داخل الصخور المسامية عند الفجر، وقد سمعت أصوات مماثلة في معبدي إدفو والكرنك.

أما ما ذكر من إشارات عن وجود الصوت في أوائل العصر الحديث أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر، لم يكن سوى تلفيقاً، إما من قبل الكتَّاب أو ربما من قبل السكان المحليين الذين كرسوا هذه الظاهرة.