تمتلك مفردات اللغة سحرًا خاصًا، فالألفاظ والتعبيرات اللغوية تشحذ القلوب بالعواطف، وتملأ العقول بالأفكار التي تستأثر بفكر المرء ووجدانه، وتدفعه دفعًا نحو مسارات معينة، ينجذب إليها وكأنه منوم مغناطيسي بفعل تلك الكلمات والعبارات، واللغة العربية زاخرة بألفاظ وتعبيرات تخلب اللب، وتُذْهِب العقل وتُغَيِّب الوعي.
إن من أبرز العقبات التي تحول بيننا وبين فهم حقائق الواقع المعيش ومواجهته، هو أننا نستعيض عن الأقوال بالأفعال. فنحن في مجتمعاتنا العربية نتوهم أن القول يُغني عن الفعل؛ لذلك تجدنا نبالغ في استخدام العبارات الإنشائية المشحونة بالعواطف والانفعالات، فنرى أحدهم يقف مخاطبًا الجماهير المحتشدة وهو يهتف بحماس شديد:
«على القدس رايحين شهداء بالملايين»؛ وتردد الجماهير وراءه بأصوات هادرة:
«على القدس رايحين شهداء بالملايين»
ويتوهم الخطيب والجماهير معه أن القدس هكذا تحررت!!
قس على ذلك الكثير مما يحدث ويدور في حياتنا.
كثير منا يردد الآية القرآنية الكريمة: «وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ» (آية 105 التوبة)، مبرهنًا على أهمية العمل، لكن الألسن تلوك الآية وتحرك اللسان في الحلق مرددًا لها دون ترجمة عملية واقعية لمعناها ومغزاها. نتشدق بالآية ولا نحقق ما تدعونا إليه من إنجاز الأعمال.
وكذلك ترانا نردد نهارًا وليلاً أن «التفكير فريضة إسلامية» وأن القرآن يدعو إلى التفكر والتأمل والتبصر وإعمال العقل، ونستشهد – في هذا الصدد – بآيات قرآنية كريمة وكثيرة:
«وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12 النحل)، «فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» ﴿١٧٦ الأعراف﴾، «كَذَٰلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ﴿٢٤ يونس﴾، «إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ﴿٣ الرعد﴾، «إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ﴿١١ النحل﴾، «وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» ﴿٤٤ النحل﴾، «فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ﴿٦٩ النحل﴾، «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ﴿٢١ الروم﴾، «إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ﴿٤٢ الزمر﴾، «إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ» ﴿١٣ الجاثية﴾، «وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ» ﴿٢١ الحشر﴾، «كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ» ﴿٢١٩ البقرة﴾، «كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ» ﴿٢٦٦ البقرة﴾، «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ» ﴿١٩١ آل عمران﴾، «قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ» ﴿٥٠ الأنعام﴾، «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» ﴿١٨٤ الأعراف﴾، «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ» ﴿٨ الروم﴾، «أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَىٰ وَفُرَادَىٰ ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا» ﴿٤٦ سبإ﴾، «إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ» ﴿١٨ المدثر﴾.
وحين يُعْمِل أحدنا عقله ويشرع في التأمل والتفكير، ويتوصل إلى نتائج تبدو للنظرة السطحية أنها تتعارض مع الكتاب والسنة، تقوم الدنيا ولا تقعد. وإذا تأملت عقلية أغلب من يتشدق بأن القرآن الكريم يحث على التفكير وإعمال العقل، تجده أبعد ما يكون عن التفكير العقلي، ويستريح غاية الراحة للخرافات والخزعبلات.
في بلادنا العربية تسحرنا الكلمات والعبارات، وندعي – مجرد ادعاء – أننا عمليون نقدر العمل، وندعي، خلافًا للحقيقة، أننا نرجح كفة الفعل على القول، وكثيرًا ما نستشهد ببيت شعر لأبي تمام، يقول فيه: «السَّيْفُ أَصْدَقُ إِنْبَاءً مِنَ الكُتُبِ في حدهِ الحدُّ بينَ الجدِّ واللَّعبِ».
نردده إعجابًا وافتتنانًا بالحكمة العظيمة التي يتضمنها، متوهمين – لمجرد ترديدنا لهذا البيت – أننا أصبحنا عمليين، مفضلين العمل على القول، في حين أننا كثيرًا ما نتوقف عند حد الإعجاب ببلاغة الشعر، أي نظل أسرى لسحر الكلمات!! إننا مبدعون في صياغة العبارات اللغوية المبهرة، وكثيرًا ما تكون تلك العبارات مضللة، عبارات مثل: «العالِم الجهبذ» و«الزعيم الملهم» و«القامة الشامخة»، و«القمة المضيئة»، ونمنح هذه الألقاب لكل من هب ودب دون حسيب أو رقيب. والشائع بيننا إطلاق صفة «العلماء» على رجال الدين أو الدعاة أو الوعَّاظ، في حين أنهم في الأعم الأغلب، لا صلة لهم بـ«العلم» Science بمعناه الدقيق، وهو «العلم التجريبي» على نحو ما يتمثل في «علم الفيزياء» و«علم الكيمياء» ... إلخ، أو «العلم الرياضي» المتمثل في العلوم الرياضية المختلفة «الحساب» و«الهندسة» و«الجبر» ... إلخ. أما من يرى أن «العلم» يقتصر على أصول الدين وتفسير القرآن والشريعة والسنة... إلخ، ويمنح رجال الدين لقب «علماء»، فإنه يخضع لسحر الكلمة، ولا يكلف نفسه عناء البحث والتقصي عن معنى كلمتي «علم» وعلماء» ومغزاهما.
ومن ثمَّ يسلم المرء في مجتمعنا العربي بكل ما يقول به رجال الدين في بلادنا – حتى وإن كان كلامًا فارغًا من المعنى – أليس ما نطق به «علماء»؟!.
إننا كثيرًا ما نضفي على الألفاظ معاني ليس لها صلة بها، فمثلاً شاع في وسائل إعلامنا مصطلح «خبير استراتيجي»، وحلَّ الخبراء الاستراتيجيون ضيوفًا على البرامج الحوارية «التوك شو» التي تعرضها القنوات التلفزيونية. ما أن ينطق المذيع بأن لديه ضيفًا وهو خبير استراتيجي»، حتى تشرئب الرؤوس انتظارًا للمعلومات والآراء والأفكار الخطيرة التي سوف يدلي بها الضيف العالم ببواطن الأمور، في حين أن هذا الضيف لا تزيد معلوماته عما لدى أغلب المشاهدين، كل ما هنالك، أن وسائل الإعلام عندنا تمنح بعض ضيوفها ألقابًا توهم المشاهد بأهمية البرامج المقدمة وحيويتها، كأن تروج للضيف بأن الأستاذ الدكتور فلان، ولأننا نبجل «الأستاذ» ونقدر الألقاب وخصوصًا لقب «دكتور»، فإن إدراكنا أن الضيف «دكتور» يجعلنا نتوهم أن وراء الأكمة ما وراءها، إذ قد يكون هذا الضيف الحامل للقب «دكتور» أجهل مما نتصور، ولا صلة له حقيقةً بموضوع البرنامج، لكن هكذا تخدعنا الألفاظ وتضللنا حينًا، وتأسرنا وتسحرنا حينًا آخر. علينا ألا ننزلق لشِراك اللغة، وهى كثيرة.