رجل عجوز يترنح نفسيًا، قبل أن يكون جسديًا، في فترة ما بعد المعاش، يملك منزلا متواضعا، وليس لديه سيارة، وينتقل في هذه السن بالمواصلات.
رجل مثله كثير، في الطبقة المتوسطة أو الدنيا، واحد من ضمن ملايين المصريين بشكل عام.. لكن تفصيليًا، هو رجل مختلف، في ثقافته، وشياكته، وحسمه الهادئ، لا المبالغ فيه.
قابلته على أحد المقاهى، في لقاء عابر، تبادلنا حديثا غير معتاد، وسط احتساء فناجين القهوة، خلفيته الزوايا السياسية والفلسفية في القصص القرآنى، بل والعلاقات بين معايير الشخصية القرآنية والشخصية الفرعونية.
عناوين ملفتة من شخصية هادئة من أيام الزمن الجميل، لم تدنسها المتغيرات والتطورات السلبية، التى طالت الشخصية المصرية بشكل عام، كغيرها.
وفوجئت أن هذا اللقاء الذي كان على الطاولة القريبة من طاولتى بالمقهى التراثي، الذي تظهر منه بالكاد، رأس أحد الأهرامات، كان بين سماسرة ووسطاء من أجل عمل ما متعلق بالمقاولات.
لاحظت ذلك من أحاديثهم الجانبية، ذات الأرقام والنسب والوقائع المقاولاتية، والتى كانت تقطع حديثي مع هذا العجوز المختلف، والذي كانت بدايته تناحرات فكرية ممزوجة ببعض الإسقاطات الفكاهية، مع أصدقاء كانوا على طاولتى، رأى باختلافه أن يعلق عليها، فقدرنا هذا منه.
فوجئت أن هذا العجوز، الذي ترك بيته، وعرفت بعد ذلك إنه بالعباسية، ليسعى على رزقه، طامحا في صفقة عابرة في الهرم، تسند البيوت المأزومة.. وهذا النشاط زاد بشكل ملحوظ خلال الفترة الأخيرة على خلفية التطورات التى تشهدها البلاد، ليسند بيته من ضربات الزمن بأى شكل من الأشكال، ويلملم جراح نفس تطالها الآلام بعد المعاش.
لم أتوقف بين فكرة السعى بعد المعاش، ولا حتى الجلوس مع أنواع مختلفة من البشر عنه، كانوا لا يدركون كلمة واحدة مما يقولها هذا الرجل الذي عرفت اسمه، فيما بعد، وهو أستاذ عبد الحميد، بل كل هذه التناقضات معا، والتى لا يمكن أن يجمعها شخص عادى، هذا السمسار المثقف، المسؤول الحكومى سابقا.
تلقفتنا الدنيا كالعادة، وتوهنا في ضرباتها، ولطمتنا أمواجها، لكن كنا نلتقي بين حين وآخر، في أجواء سلبية وأخرى إيجابية، زادت ملاحظاتى عليه، وتعقدت تأويلاته لآرائي، التقينا كثيرا، واختلفا قليلا.
وكما دخل حياتى، في ومضة، اختفي في ومضة، عندما علمت بالمصادفة خبر وفاته، وأنا أحكى عنه متباهيا لأحدهم، صدمنى بقوله، لقد رحل أستاذ عبدالحميد.
وبعدما جمعت قواى، وصلبت شتاتى، فلقد اعتدت على الأخبار المخزنة والمواقف الصادمة، ترحمت عليه، وقلت طبيعي أن يرحل، فكان غريبا عن هذا المجتمع بملامحه البغيضة في الغالب.
رحمك الله يا عم عبدالحميد، والذي حتى لا أعرف اسمك الثانى، وكم من عم عبد الحميد بيننا، ولا نحتفي بهم، وننتظر حتى يرحلون.
«احموا كل عم عبد الحميد بينكم»