منذ أن سكنت في المدينة الجامعية لطلاب جامعة القاهرة في بين السرايات بعد معاناة طويلة ومارثون، وصل إلى أعلى مستوى لأثبت لرئيس شئون الطلبة بقصر العيني، أني مصري وأن سيناء جزء من مصر.. وطبعا لم يقتنع بكلامي واعتبره مجرد هذيان أو هراء إلى أن جاءت تأشيرة الدكتور صوفي أبو طالب، طوق نجاة بعد عامين من المعاناة.. ولكني منذ أن سكنت في هذه المنطقة التي يطلق عليها بين السرايات، لم أجد سراية واحدة، والمعروف أن السراية هي قصر منيف تحيطه حديقة وجراج وخدم وحشم، لكني حاولت جاهدًا أن أبحث عن هذا الوهم ولكن عبثا.. فلم تكن هذه المنطقة كما نراها الآن فلا تجد فيها مكتبة إلا بالكاد وكانت تكتب على الآلة الكاتبة، وربما تكون هي ماكينة جوتنبرج.. أما لو بحثت عن ماكينة تصويرمستندات ووجدتها فأكيد أبوزيد خالك "أبو زيد الهلالي" فالشارع هو مجرد مطعم فول وطعمية بكراسي خشب بدائية وبقال من العصر الحجري وعم سيد الترزي الرجالي ومحل مكوجي ومطعم آخر أكثر تطورًا، تجد فيه البطاطس المقلية والباذنجان وأكثر من قهوة بلدية فإذا حالفك الحظ ودلفت إلى داخل الحي تجد الشوارع الضيقة والحارات، والتي تشبه معظم أحياء مصر الشعبية، ولعلي نسيت محل الكباب الذي يبيع الطرب والحواوشي وغالبًا مصدر اللحوم هي الجمعية الاستهلاكية التي تقع في الشارع المجاور.
أما الفاكهة والجائزة الكبرى فهي محل الفطاطري.. فلم يكن اختراع البيتزا قد زارنا ولا كنتاكي ولا أي من الاختراعات الأمريكية ولا الكافيهات وعندما قاربنا على التخرج كان هناك ومبي في ميدان الجيزة، حيث الهمبرجر والكابتشينو.. وعندما كنا نريد أن نخرج من هذه الدائرة الخانقة تحملنا أقادمنا أنا وصديقي عباس نصر، لنمشي الهوينا إلى حي الدقي حيث شاورما رضوان وسمسمة وفرن الجهاد ولكن تركيزنا كان دائما على سوبر ماركت سعودي وتقريبًا كان هذا أول فرع في مصر في ميدان المساحة، ولم يكن هذا لأننا نريد التسوق لشراء الشيكولاتة ولا الجمبري، لكن للحصول على كيلو سكر قوالب حيث كانت دائمًا الأزمة طاحنة في كل المواد التموينية، نحن نتحدث عن عصر السبعينيات من القرن الماضي، وكانت بطاقة التموين هي جواز المرور إلى الحياة ورئيس الجمعية الاستهلاكية هو الإمبراطور الذي تنحني له كل رؤوس الإشهاد.. فإذا فشلت المهمة ننطلق إلى شارع سليمان جوهر، حيث سوق الخضر والفاكهة لشراء مستلزمات خلطة "الفول"، وأذكر أنني كنت مع صديقي ودفعتي "ص. ح"، وهو يسكن في حي مصر القديمة الأكثر عشوائية في التاريخ في بيت جده الذي كان يهتز كلما مر الأتوبيس في الشارع.. وكنا في طريقنا إلى أحد الزملاء لاستعادة بعض مذكرات الدروس الخصوصية وكان الوقت يميل إلى الغروب ونحن نمشي في المنطقة ما بين الدقي والعجوزة، وقد أقبلت أيام الربيع فسمعنا زقزقة العصافير وارتشفت أنفاسنا رحيق الزهور التي أينعت وإحسسنا أننا في عالم آخر فهمس لي صديقي.. المفروض ميسمحوش للي زينا يدخل هنا إلا الباسبور وتأشيرة.. كده خطر علينا.. وانفجرنا ضحكا ونحن نتهكم على أنفسنا.. أما امتداد بين السرايات كان منطقة أبو قتادة والتي يفصلها عنا مزلقان السكة الحديد لقطار الصعيد، وما أدراك ما أبو قتادة فمن فرط العشوائية آنذاك كان يمكنك أن تسلم على جارك في المبنى المقابل، دون أن تترك شقتك، ولا يمكن لأي سيارة مهما كانت صغيرة الدخول في حاراتها، ومن المؤكد أنهم هم الذين اخترعوا التوكتوك قبل الهند.. وكانت زيارتنا لأبو قتادة، نظرًا لأن الجامعة دشنت أكثر من مبنى كامتداد للمدينة الجامعية، بحيث أنها تستقبل فيها المستجدون، وهكذا كنا نعبر المزلقان ومن هنا إلى هناك ونزور بعض الزملاء من بلدياتنا كما لو كنا نسعى بين السيدة والحسين.. وتشاء الأقدار أن يكون توزيعي في عام الامتياز بعد التخرج في مستشفى بولاق الدكرور، فلا أبرح بين السرايات والتي كان يسميها أقراني اسم آخر.. والمستشفى يقع على ضفاف أبو قتادة ومزلقان السكة الحديد وتلتصق بقسم البوليس الذي كان يورد إلى المستشفى أشكال وألوان ومدينة المبعوث وهي تقريبًا اول كمباوند نسمع عنه حيث خصصته جامعة القاهرة للأستاذة العائدين من البعثات الخارجية.. ثم الطريق إلى صفط اللبن وناهيا وكرداسة في وسط الزراعات الكثيفة قبل أن تغزوها الخراسانات.. فلم يكن الكوبري الذي يعلو السكة الحديد موجودًا.. فقد خرجنا من المدينة الجامعية طلبة لندخل "الصين الشعبية" وهو الاسم المتداول لحي بولاق الدكرور، حيث يقطنه الملايين، فلم أبعد بعيدًا عن حي بين السرايات المزعوم وكأنني أطبق المثل الذي كانت تقوله امي" كمن خرج من السجن وقعد على بابه" وما أن بدأت العمل في المستشفى وقع اختيار مديرها المتميز والذي جعلها قبلة لكل أطباء مصر من الشمال والجنوب"المرحوم د.اسماعيل كامل" حيث كانت تضاهي كبرى المستشفيات التعليمية..اختارني الامتياز الإداري لاسكن في المستشفي واقضي فيها عاما كاملا بنيت فيها جسورا من العلم والتدريب والعلاقات مع كل الاطباء الأساتذة والاستشاريون والنواب وبالطبع كل من ورد إليها من أطباء الامتياز...ولأن مرتب طبيب الامتياز وقتها كان "ثروة كبيرة" تقدر بخمس وأربعون جنيها بالكاد كانت تكفي وجبة العشاء في المكان اياه القابع في بين السرايات حيث كان لنا اشتراك في وجبة الغداء في المستشفى وحسب ايامي جراح ونواح ووعودا كما تقول كوكب الشرق فمازال الطريق طويلا تكليف ثم خدمة عسكرية ثم نائب ثم ماجستير فستظل تبيت على الهوى واظله حتى تنال به كريم المأكل... ولايخفى عليك كم يأتي علي من نوبتجيات الامتياز وهم يحملون مالذ وطاب ويحملون معهم امانيهم وخططهم للمستقبل ومعظمهم من سكان حي المهندسين والدقي والعجوزة والمعادي ومن خريجي مدارس اللغات والتي كنا لانعرفها اصلا الا مارحم ربي من المعذبين في الأرض من أبناء المحافظات القابضين على الجمر والذين يشاركونني غرفة الامتياز...وكنت اتعايش معهم طوال صحبتهم واعيش معهم أحلامهم الوردية التي يفرضها حديث الليل الطويل في النوبتجيات.. ولكن ما أن اختلي بنفسي...وكأنني اسمع... وكنت اذا سألت القلب يوما تولى الدمع عن قلبي الجوابا...ولكن عزائي أن لدي اصرار ورصيد من المحبة والعلاقات وقسط وافر من التدريب وثقة الاطباء الكبار التي كانت تدفعني للأمام دفعا...وتمضي الايام بتفاصيل تستحق أن نحكيها في حديث الذكريات واعذرني ايها القارئ العزيز على هذه الصراحة فالبساط احمدي ولا احب ان اردد كلمات الجميلة وردة الجزائرية " اكدب عليك" وان كنت احبها لكن الصدق هو أقرب الطرق إلى القلوب.