الخميس 16 مايو 2024

هذا الشهيد


د.قدرية سعيد

مقالات21-3-2022 | 20:03

د.قدرية سعيد

إنها ملحمة مصرية عن بطولة من بطولات الشعب المصري، لم تحظ بالاهتمام الكافي من المؤرخين والكتاب رُغم أنها تركت بصمة عظيمة لثورة أبناء الصعيد في إحدى قرى محافظات الوجه القبلي أثناء ثورة 1919. 

إنها المصادفة التي قادت الكاتبة إلى التعرف إلى أحفاد أسرة الشهيد الدكتور خليل أبو زيد، الذين لا يزالون يعيشون في نفس البلدة "ديرمواس" بمحافظة المنيا، تعيش في ذاكرتهم الأحداث التي توارثوها جيلا بعد جيل، لا تزال لامعة ما بين قصر العمدة (أبو زيد علي) وبين شريط القطار الذي شهد أحداثًا دامية راح ضحيتها مئات من الفلاحين الثوار. 

نال خليل الدكتوراه في الزراعة من جامعة لندن وعاد إلى مصر مباشرة والثورة على الأبواب في أواخر عام 1918، كان متابعا لتردي الأحوال في مصر وخاصة في الصعيد ومعاناة الفلاحين واغتصاب أراضيهم الزراعية بل والتهجم على نسائهم. 

عاد خليل أبو زيد، استقبله أهالي القرية على محطة القطار، إنه ابن العمدة (أبو زيد علي) الرجل المحبوب والمجامل في بلدته، استقبله حسني صديق الصبا والطفولة الذي تزوج  بـ "الست شكر" التي تكبره بخمسة عشر عاما، الأرملة التي ورثت أراضيَ زراعية عن زوجها وأبيها، تعرف كثيرا عن مشاركة زوجها في الأعمال الفدائية ضد الإنجليز، الست (الجدعة) التي تؤوي عندها (عايدة)، تلك الشابة التي قتل الإنجليز أباها المسن أمام عينيها، وقاموا باغتصابها، حملت من الإنجليزي طفلا أسمته على اسم زوجها الراحل (محمود). 

أشاع بعض الباشوات الكارهين للعمدة أبو زيد أن ابنه الدكتور خليل عاد من لندن ليزيح (كوكسن باشا) مدير الري في الصعيد ليأخذ مكانه مستغلا حب الأهالي له وكراهيتهم الشديدة لمدير الري الإنجليزي الذي يمنع عنهم المياه كيفما يشاء ويوفرها لأراضي الباشاوات، فكانت تجف زراعات البسطاء ويؤثر الجفاف على المحاصيل بالخسارة المادية، فيضطرون إلى الاستدانة وبيع حُليّ زوجاتهم ويزدادون فقرًا وسُخطًا على مدير الري الإنجليزي . 

في يوم استطاع أحد الصبية أن يقتل كوكسن باشا، وتم القبض على خليل أبو زيد بتهمة القتل وتم إيداعه السجن لأن له مصلحة في إزاحة كوكسن عن هذا المنصب، لكن التحقيقات عجزت عن إثبات التهمة التي أراد الإنجليز تلفيقها له. 

يعرف الصديقان خليل وحسني أن أمامهما مهامًا كثيرة، فقد بدأ سعد زغلول ورفاقه في تشكيل حزب الوفد أملا في الذهاب إلى مؤتمر الصلح بباريس لعرض مطالب الأمة المصرية على الدول الأوروبية، لكن المندوب السامي في مصر يعترض على سفر سعد بحجة أنه لا يمثل الشعب المصري؛ وأتت فكرة جمع التوكيلات لإنابة سعد ورفاقه في مؤتمر الصلح، وكان الأمر يحتاج إلى بعض الحيل والسرعة لإتمام جمع التوقيعات وإرسالها إلى القاهرة قبل وقوعها في أيدي الإنجليز، وكان خليل على وعي بأهمية الصلات المهمة والضرورية بينه وبين مندوبي سعد زغلول في كل محافظات مصر، ونجح خليل وأتم المهمة باقتدار مع كل أهالي ديرمواس والقرى المحيطة بهم.  

عندما علم الإنجليز بنجاح المصريين في جمع التوقيعات قاموا بالقبض على سعد زغلول ورفاقه وتم نفيهم إلى جزيرة مالطا وهنا بدأت الثورة.

اجتمع خليل مع أهالي ديرمواس، كان الجمع في ( مسجد أولاد محمود) وبداخله كل الفئات الاجتماعية، الشباب والرجال، المحامين والفلاحين، شيخ الجامع والقس المسيحي، أقسم المسلمون على المصحف وأقسم المسيحيون على الإنجيل أن يكونوا يدًا واحدة وأن يرسلوا وفدًا بقيادة خليل أبوزيد تأييدًا وتضامنًا مع الثورة في القاهرة ولكي يضموا صوت الصعيد ومطالبته بالإفراج عن سعد وتحقيق الاستقلال التام. 

نتيجة اضطراب حركة القطارات كانت هناك صعوبة في السفر إلى القاهرة، لكن خليل علم بتحرك القطار القادم من أسيوط ومتجهًا إلى القاهرة ويحمل "بوب" مأمور السجن الإنجليزي وسبعة ضباط آخرين، وهنا تم الإعداد لمظاهرة كبيرة تزعمها خليل لمطالبة الراكبين بالقطار بنقل مطالبهم إلى المندوب السامي البريطاني؛ وعندما وصل القطار إلى محطة ديرمواس أحاطته الجموع الغفيرة من الفلاحين والطلاب والشيوخ والأعيان، وحاول خليل أن تكون المظاهرة سلمية حتى لا يتعرض أحد للأذى وأن المطلوب نقل رسالة الصعيد إلى القاهرة، لكن الأمور فلتت ولم تعد المظاهرة التي ضمت أكثر من أربعة آلاف متظاهر قابلة للسكون أو الهدوء، خرج الأهالي يحملون ذكريات أليمة عبر سنوات طوال من ظلم الإنجليز والاعتداء على النساء وجر الفلاحين وتجنيدهم للمشاركة في الحرب وهم كارهون، وإجبار الفلاحين على بيع القطن بثمن بخس وغيرها مما تكبدته القرى والنجوع من قسوة السجون وتعطيش التربة الزراعية. 

جاء قطار الإنجليز يحمل "بوب" وسبعة ضباط إنجليز، لم يستطع سائق القطار تجاوز محطة ديرمواس، فقد وقف الأهالي أمام القطار وعلى جانبيه فوق القضبان، ونجحت الحشود في إيقاف القطار، كان حسني يعلم بأن ناظر المحطة هو المتحكم الوحيد في السماح للقطار بالتحرك بعد توقفه من خلال "أسطوانة" بحوزته تجعله يأذن من خلالها لسائق القطار بالتحرك ومواصلة السير، لذا فقد ترجّى ناظر المحطة أن يعطي الأسطوانة لخليل حتى يقف القطار ويستطيع محادثة الضباط.

تسلم خليل الأسطوانة وأسرع للصعود إلى القطار، لكن الأحداث خرجت عن السيطرة رُغم محاولات خليل بالتحدث إلى الأهالي للتهدئة، إلا أنهم اندفعوا ضربًا على عربات القطار، وهنا أسرع خليل ونادى على السائق وألقى إليه بالأسطوانة، لكن اندفاع الناس الجارف حال دون وصولها إليه.   
صعد الأهالي يمسكون الفئوس والعِصيّ والحجارة، انهالوا بالضرب على الضباط السبعة ومديرهم "بوب"، كما أطلق الضباط الرصاص على الأهالي، سقط الكثيرون بين قتيل وجريح، قتل "بوب" وضباطه السبعة، وتناثرت الدماء على القضبان وفوق الأحجار و"الزلط"، ودماء على الأرصفة، ثم كانت الرصاصة التي قتلت حسني صديق العمر. 

تهشمت "زلع العسل" التي كان يرصّها تاجر على محطة القطار في انتظار قطار البضائع لنقلها إلى التجار في القرى المجاورة، تحولت "الزلع" إلى قطع من الحجارة واختلط  العسل بالدماء السائلة. 

نجحت الثورة في تراجع الإنجليز، وعاد سعد زغلول وذهب إلى مؤتمر الصلح، إلا أن الدول الأوروبية تكتلت لرفض المطالب المصرية بتحقيق الاستقلال خاصة بعد تراجع الرئيس الأمريكي ويلسون عن مبادئه الأربعة عشر والتي تضمنت حق الدول في تقرير مصيرها وحقها في رفض سيطرة دول أخرى على أراضيها، تضامن ويلسون مع إنجلترا وكل الدول الحاضرة في مؤتمر باريس ضد الحركة الوطنية المصرية. 

حالة من انعدام الوزن وفقد السيطرة أصابت القيادات الإنجليزية، يدورون حول أنفسهم لا يعرفون نقطة البداية الصائبة ولكنهم يدركون ضرورة التهدئة المؤقتة للإعداد لمرحلة الانتقام. 

بعد حادث القطار الدموي بعدة أيام، ورُغم خطورة الموقف، تجمعت أعداد غفيرة في مسجد (أولاد محمود) ينتظرون فيه كلمة الدكتور خليل، حيث صمت الجميع عند دخوله مع والده العمدة، وقف في وسطهم وبصوت يجلجل في صحن المكان: اسمعوا يا أهل بلدنا إن ما حدث ليس هينًا، الأمور الآن في أيديكم إذا اتحدنا جميعا وكنا يدًا واحدة فلن يستطيع أحد إثبات أي شيء ضدنا، أما إذا كان بيننا خائن، وهو ظن أستبعده، سيجرنا ويجر نفسه من قبلنا إلى محاكمات لا نعرف مصير أهلنا فيها. 

ترددت كلمات الوعيد من الحضور لأي خائن قد يجهر للإنجليز بمعلومات قد تسبب هلاك الفلاحين وبيوت الأهالي ممن شاركوا في ثورة القطار يوم 18 مارس 1919، وأمسك خليل بالمصحف والإنجيل معا وقال: على كل مسلم أن يقسم على القرآن وعلى كل مسيحي أن يقسم على الإنجيل بأن نكون جميعا يدًا واحدة، فلا نخون العهد ولا يشي أحد بأحد ولا نحنث بالقَسَم ولا يشهد أحد منا على أحد؛ ارتجّت جدران المسجد تهتف بحياة خليل ويرددون القَسَم الذي أقسمه على المصحف والإنجيل. 

كان خليل يعلم بأن العدو قوي وخبيث ووقح لا يفهم إلا منطق القوة، لذا فقد بدأ على الفور في تنشيط جبهة العمل الفدائي بمساندة الشباب الموثوق بوطنيته ومعهم (نور المراكبي) الذي نجح في قتل كوكسن باشا مدير الري الإنجليزي، وبمعرفة "الست شكر" تم استخدام الخرابة الخلفية للمشغل، قاموا بتصنيع القنابل اليدوية والمفرقعات وحفظها في أقراص معدنية خفيفة، هذا ما تعلمه خليل من خلال تواصله مع شبكة الخلايا السرية الوطنية التي أزعجت الإنجليز وتسببت لهم في خسائر جسيمة، وبسبب انحصار أعداد الجنود بشكل مؤقت في ديرمواس وخارجها، هاجم خليل ومعه الشباب تلك الوحدات ونقلوا أعدادًا لا بأس بها من البنادق وهي الوسيلة الأكثر سهولة في تلك المواقف.  

وبدأت العاصفة المتوقعة، أسابيع قليلة وتفجرت قضية ديرمواس، أصرت إنجلترا على عقد محاكمة عسكرية حازمة، لمحاكمة المتورطين في قتل الإنجليز في قطار الصعيد، لكن من أين لها بالقوائم من الأهالي المشاركين في تلك الأحداث؟ كان هناك واشٍ، إنه "حزين" الرجل العميل للإنجليز والمكروه من بلدته، والحقود من محبة أهالي ديرمواس لعمدتهم أبو زيد علي وولده خليل وكل أبنائه، كان واشيًا بتسجيل أسماء المشاركين في الحادث وتسليمها للإنجليز، حاول أثناء جمهرة الأهالي حول القطار أن يقنع خليل بالاحتفاظ بالأسطوانة حتى يتسبب في تعطيل القطار لكن خليل رفض ذلك، ومع ذلك سجلت صحف العالم بمبالغة قوية عن "الشيطان الصعيدي الذي قفز إلى القطار أثناء سيره، وأوقفه بعد أن أخذ أسطوانة تحريك القطار عِنوة وعن مقتل الضباط الإنجليز رميًا بالحجارة، بلد اختلط فيها الدم بالعسل، مشهد ليس له مثيل في ثورات العالم". 

تم حصار ديرمواس بأقدام ثقيلة وهدير محركات آليات لا حصر لها وصيحات عسكرية ومعدات أخرى من سيارات ومصفّحات وعربات حاملة للمدافع، وأصر خليل على المواجهة، بلغت جرأته بالنزول إلى الطريق والتوجه إلى قيادة هؤلاء الإنجليز والجنود، أخذ يتحدث إليهم بإنجليزية لا تقل إتقانا عن إنجليزيتهم، ذكر لهم اسمًا زائفًا له، أكد لهم أنه درس في لندن ويرغب في العودة إلى هناك من جديد، وعندما وثقوا بحديثه أخرج قائدهم قائمة من جيبه تحوي أسماء المطلوبين للقبض عليهم وكان عددهم مائة وخمسين شخصًا، وعلى رأس القائمة اسم خليل أبو زيد. استكمل خليل خداعه بأن أمسك بيده القائمة وقرأها في بطء مع نظرة ابتسامة للقائد الإنجليزي مع كل لحظة تمر فيها عيناه على الأسماء المسجلة التي أراد أن يحفظها عن ظهر قلب. 

استطاع خليل أن يكسب ثقة الضابط الإنجليزي الذي طلب أن يأتي إليه في وحدته العسكرية ليرشده عن أماكن المطلوبين، أبلغه خليل قائلا : لا تقلق سيدي مؤكد سوف يعود هؤلاء ويقبعون في بيوتهم، أما الآن فهم إما خارج البلد أو منتشرون في الحقول، سوف أبلغكم في المساء على أكثر تقدير.
على الفور أرسل خليل عن طريق نور المراكبي والعاملات في مشغل شكر إلى كل المطلوبين في قائمة الإنجليز بالخروج فورًا والاختفاء خارج ديرمواس.

توسل العمدة أن يخرج خليل من البلدة بينما سيظل هو في مكانه نظرا لمرضه وعدم قدرته على الرحيل، خرج خليل مع جموع من الشباب، نصح إخوانه بألا يختبئوا في مكان واحد، فتفرقوا ما بين الجبال وتل العمارنة وترحيب البدو واستضافتهم لأهل ديرمواس، لم تهدأ الآلة العسكرية التي عادت وبقوة، هاجمت بيت العمدة وألقوا القبض عليه بعد أن وشَىَ "حزين" أن ابنه خليل هو المتهم الأول، علم خليل وإخوته بالخبر، أشار بيده: أيها الرفاق، ليس أمامنا طريقان نختار أحدهما بل أمامنا طريق واحد أو على الأقل أمامي أنا وإخوتي طريق واحد لا بديل عنه، لن نستطيع أن نترك والدي رهينة يدفع ثمنها من صحته الضعيفة، لن يتردد الإنجليز بقسوتهم في تعذيبه إذا طال به الوقت وهو معهم، سوف نذهب توًا ونسلم أنفسنا وليكن مصيرنا ما يكون، لن نتراجع عن التضحية بأنفسنا من أجل والدنا الذي أوجدنا في الحياة وأحسن تربيتنا. وافق على الفور إخوة خليل بتسليم أنفسهم، بل صاح أغلب الحضور ممن يمتّون إليهم بصلة القرابة ومن الذين يعرفون فضائل العمدة على أسرهم : وهل أنتم فقط أبناء أبو زيد علي ؟! ونحن؟ ألسنا أبناءه؟ 

توجه الجميع إلى مركز القيادة البريطانية في أسيوط، وما كادوا يقتربون منها حتى صاح خليل "عاشت مصر حرة"، فردد الجميع الهتاف بأعلى صوتهم.

خرج الضباط الإنجليز والجنود يستطلعون الأمر في دهشة بالغة، كانت المفاجأة حين رأوا الشاب الذي كان يتحدث الإنجليزية بطلاقة ليلة هجومهم على ديرمواس، الشاب الذي توقعوا أن يكون مرشدا لأماكن الثوار، الشاب الذي أطلعوه على قائمة المطلوبين لتسليم أنفسهم، رأوه أمامهم ومن ورائه جمع كبير من المطلوبين، أتوا جميعا لتسليم أنفسهم، سأله الضابط باللغة الإنجليزية الذي أطلعه من قبل على قائمة المطلوبين : ما اسمك؟ أجابه خليل باللغة الإنجليزية : اسمي خليل أبو زيد ابن العمدة أبوزيد علي، نطالب جميعا بالإفراج عنه لأن اسمه غير موجود بالقائمة ثم إنه رجل مريض لا يستحق الحبس أو الإهانة، بعد جهود مضنية من المحامين تم الإفراج عن العمدة أبو زيد علي. 

عقدت المحكمة، وما كاد الثوار المتهمون يظهرون في القفص حتى وقف جميع من في القاعة يصفقون لهم بكل حماس غير عابئين بالحراسة المشددة أو بالوجوه الحمراء لأعضاء هيئة المحكمة، ردد المناضلون من خلف القفص : عاشت مصر حرة ، وردد الجميع الهتاف بصوت اهتزت له قاعة المحكمة. 

أكدت المحاكمة العسكرية أن الأحكام الغليظة على الثوار كانت مُعدّة من قبل، كان هناك مائة وخمسون شاهد نفي، بينما هناك واحد وخمسون شاهد إثبات، بل تأكدت توقعات الثوار بخيانة "حزين" فقد كان شاهد إثبات في القضية، كانت شهادته ضد خليل مدعيًا أن المظاهرة كانت من تدبيره وأنه تعمد انتزاع الأسطوانة من ناظر المحطة لمنع القطار من التحرك بسرعة ومواصلة طريقه إلى القاهرة.

كان (40) رقم خليل في القضية التي حوكم فيها من خلال المحكمة العسكرية، وقد اختل في حضرتها ميزان العدل، فقد بذل المحامون قصارى جهدهم في الدفاع عن هؤلاء المناضلين، وأهم ما استندوا إليه في دفاعهم تضارب الأقوال في شهادة الشهود، ثم إثبات أخذ الأسطوانة في حد ذاته ليس جريمة تستحق العقاب وأن الجماهير هي التي عطلت القطار حتى لو أن أحدًا لم يأخذ الأسطوانة، فلن يستطيع القطار السير ومواصلة رحلته إلى القاهرة بسلام. 

قضت المحكمة بالإعدام شنقا على واحد وخمسين شخصا منهم رقم (40 )، تحول دوار العمدة إلى مأتم، فقد حكم على ثلاثة من أبنائه بالإعدام، ثم أتى تخفيف الحكم على اثنين منهم وظل حكم الإعدام قائما على رقم (40 ) إنه الدكتور خليل أبو زيد. 

سافر العمدة بمساعدة أصدقائه الأوفياء من الأعيان لمقابلة المندوب السامي لتخفيف الحكم عن خليل، احتاج الأمر إلى بعض الوقت حتى نجح العمدة في مهمته بعد أن قدم لفافة من الساتان متخمة بالأموال والذهب، وقّع الحاكم الإنجليزي على ورقة موقعة ومختومة بالموافقة على تخفيف الحكم من الإعدام إلى المؤبد. 

كان العمدة في سباق مع الزمن، وصل إلى السجن  في الثامنة صباحا وقدم أوراق تخفيف الحكم عن ابنه خليل إلى المأمور، لكنه أخبره بتنفيذ حكم الإعدام منذ ساعتين.

لقد شهد الجميع لخليل أنه هتف حين تنفيذ الحكم : نموت نموت وتحيا مصر .. عاشت مصر حرة.

رفضت السلطات الإنجليزية تسليم جثمان خليل إلى أسرته حتى لا تؤجج المشاعر بثورة جديدة وقد تتحول مدافن الشهداء إلى أيقونات ومزارات جماعية قد تتصاعد في اشتباكات بعد إخماد الثورة بالآلة المسلحة وبالإعدامات الجائرة. 

ولا يزال مسجد (أولاد محمود) مضيئا يجلجل أذانُهُ في كل موعد، ولا يزال قصر أو دوار أبو زيد بك علي حاضرًا شامخا يحكي الحكاية على مر السنين، مطالبا بفتح غرفه المغلقة التي سوف تفتح أبوابها ذات يوم، وربما لن تفتح أبدا.