إن من كرامة هذه الأمة على ربها أن جعل لها مواسمَ الخير المتعددة؛ وذلك حتى يظلَّ العبدُ في معيَّةِ ربِّهِ دائمًا بالإقبال عليه بألوان العبادات والطاعات المختلفة، وحتى يفيضَ الله عز وجل عليه بالخير الوفير، فلا نكاد نخرج من موسم حتى ندخل في آخر، ولننظر إلى كلام سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فعَنْ أَنَسٍ (رضي الله عنه) قَالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم): (إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ فَقِيلَ:كَيْفَ يَسْتَعْمِلُهُ يَا رَسُولَ اللهِ ؟ قَالَ: يُوَفِّقُهُ لِعَمَلٍ صَالِحٍ قَبْلَ الْمَوْتِ) [أخرجه الترمذي].
فالله عز وجل إذن أراد بهذه الأمةِ كلَّ الخير، فهو (عز وجل) يُوَفِّقُها إلى العمل الصالح في هذه المواسم التي نتقلب فيها، ومن هذه المواسم: هذا الزمان الشريف "شهر رمضان"، ولا شك أن شهر رمضان فيه الكثير من النفحات والرحمات والروحانيات، تنشغل فيه الجوارح بالإقبال على الله (عز وجل) صيامًا وقيامًا وذكرًا وتلاوةً للقرآن، وغير ذلك من ألوان العبادات المختلفة.
فالعاقل هو الذي يدرك شرف هذا الزمان الذي يعيش فيه، وهو الذي يدرك قيمة وقدر الليالي التي تمر عليه الآن، وإذا كنا نعيش هذا الزمان الشريف من شهر رمضان، فينبغي أن يلتزم المسلمُ فيه منهجًا مستقيمًا مع الله، ومع رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، ومع الناس، ومع نفسه، ومع أجناس الكون كله بمزيد انسجام معها في طاعة وعبادة لله سبحانه وتعالى.
ومن الأمور التي ينبغي أن يكون عليها المسلم في رمضان استثمار هذه العشر الأواخر بمزيد إقبال على الله (عز وجل) بالقيام والوقوف بين يديه، فقد حثَّ النبي (صلى الله عليه وسلم) على ذلك، وبيّن عظيم ثواب ذلك فعن أبي هريرة (رضي الله عنه) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) مَنْ قَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) [ متفق عليه].
ومن منهاج المسلم فيها أيضًا: أن يُقبِلَ على الله (عز وجل) بكثرة الدعاء وأن يستثمر هذه المنحة التي للصائم عند فطره، فالمتأمل للقرآن الكريم بعمقٍ، سيجد أن الله عز وجل بعد أن تكلم عن فرض الصيام في شهر رمضان في قوله تعالى:{شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 184]، ومعلوم أن الصيام يكون في نهار رمضان، تكلّم بعد ذلك عن ليل رمضان بقوله تعالى:{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ .... الآية} [البقرة:187]، وقد جاء بين فرض الصيام في نهار رمضان، والكلام عن ليل رمضان قوله تعالى:{وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} [البقرة :186]؛ مما يفيد في لقطة دقيقة وإشارة لطيفة أن موقع هذا الدعاء بين النهار والليل، أي: عند الإفطار، وهو ما بيّنه رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فعن عَبْدِ اللهِ بْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ (رضي الله عنهما) قا: قَالَ رَسُولُ اللهِ (صلى الله عليه وسلم) :(إِنَّ لِلصَّائِمِ عِنْدَ فِطْرِهِ لَدَعْوَةً مَا تُرَدُّ ). [أخرجه ابن ماجه]، فلا يُضَيّع المسلمُ الدعاءَ في رمضان وخاصة في وقت الإفطار لتأكيد القرآن والسنة لذلك.
وعن أبي هُرَيْرَةَ (رضي الله عنه) قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم) ثَلاَثَةٌ لاَ تُرَدُّ دَعْوَتُهُمُ الإِمَامُ الْعَادِلُ وَالصَّائِمُ حَتَّى يُفْطِرَ وَدَعْوَةُ الْمَظْلُومِ تُحْمَلُ عَلَى الْغَمَامِ وَتُفْتَحُ لَهَا أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَيَقُولُ الرَّبُّ وَعِزَّتِى لأَنْصُرَنَّكَ وَلَوْ بَعْدَ حِينٍ) [أخرجه الترمذي وأحمد].
ومن منهاج المسلم كذلك في هذه العشر: الاجتهاد بألوان العبادات المختلفة، فعَنْ عَائِشَة رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَجْتَهِدُ فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ مَا لاَ يَجْتَهِدُ فِي غَيْرِهِ" (رواه مسلم).
قال الملَّا علي القاري رحمه الله في شرح هذا الحديث: "والأظهر أنَّه يجتهد في زيادة الطاعة والعبادة (ما لا يجتهد في غيره) أي: في غير العشر رجاء أن يكون ليلة القدر فيه، أو للاغتنام في أوقاته، والاهتمام في طاعته، وحسن الاختتام في بركاته" [مرقاة المفاتيح]، وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها قَالَتْ: "كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ الْعَشْرُ أَحْيَا اللَّيْلَ، وَأَيْقَظَ أَهْلَهُ، وَجَدَّ وَشَدَّ الْمِئْزَرَ" [أخرجه البخاري ومسلم]، وقد قال الإمام النووي رحمه الله: "اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي مَعْنَى (شَدَّ الْمِئْزَرَ)، فَقِيلَ: هُوَ الِاجْتِهَادُ فِي الْعِبَادَاتِ زِيَادَةً عَلَى عَادَتِهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَيْرِهِ.
وَقَوْلُهَا (أي السيدة عائشة): (أَحْيَا اللَّيْلَ) أَيِ: اسْتَغْرَقَهُ بِالسَّهَرِ فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِهَا، فَفِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ أَنْ يُزَادَ مِنَ الْعِبَادَاتِ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ مِنْ رَمَضَانَ وَاسْتِحْبَابُ إِحْيَاءِ لَيَالِيهِ بِالْعِبَادَاتِ.
ومن منهاج المسلم أيضًا في هذه العشر: تحري ليلة القدر: فليلة القدر المباركة هي إحدى ليالي العشر الأواخر من شهر رمضان التي يُسَنُّ فيها الاجتهاد في العبادة؛ لما ثبت من فضل عظيم لمن أدركها وقامها؛ حيث قال تعالى: إِنَّآ أَنزَلۡنَٰهُ فِي لَيۡلَةِ ٱلۡقَدۡرِ 1 وَمَآ أَدۡرَىٰكَ مَا لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ 2 لَيۡلَةُ ٱلۡقَدۡرِ خَيۡرٞ مِّنۡ أَلۡفِ شَهۡرٖ 3 تَنَزَّلُ ٱلۡمَلَٰٓئِكَةُ وَٱلرُّوحُ فِيهَا بِإِذۡنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمۡرٖ 4 سَلَٰمٌ هِيَ حَتَّىٰ مَطۡلَعِ ٱلۡفَجۡرِ، وقال (صلى الله عليه وسلم) "مَن قامَ ليلةَ القَدرِ إيمانًا واحتسابًا غُفِرَ له ما تَقدَّمَ مِن ذَنبِه". [أخرجه البخاري ومسلم].
فقم بإعداد خطة مُحكمة تتضمن اغتنام هذه الليالي بين قيام وتلاوة قرآن وذكر (ومن ذكر الله تعالى: التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، والحوقلة) واستغفار ودعاء وصلاة على سيدنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وغيرها من ألوان الطاعات، مع اغتنامٍ للثُّلُثِ الأخير من الليل بكثرة الدعاء والتوجه إلى الله (عز وجل) بالسؤال والاستغفار؛ لأن هذا الوقت من أفضل الأوقات في استجابة الدعاء، وهو وقت السحر ووقت النزول الإلهي؛ فإنَّه سبحانه وتعالى يتفضل على عباده ليقضي حاجاتهم ويُفرج كرباتهم، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ يَقُولُ: مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ، مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ، مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ". [أخرجه البخاري ومسلم].