الجمعة 19 ابريل 2024

وثائق الدعاية السوداء

مقالات24-5-2022 | 14:52

منذ تأسيس الدولة الوطنية المصرية وهى تتعرض لحملات ممنهجة من الدعاية السوداء وبتعريف بسيط لمفهوم هذه الدعاية فهي أحد أفرع الحرب النفسية وتعمل على نشر الشائعات والأكاذيب والتشكيك وتكمن قوة هذه الدعاية في إيهام المتلقي أن ما يعرض عليه حقيقة مؤكدة لا تقبل الاحتمالات رغم أنها إفك محض ومجهولة المصدر.

تهدف هذه الدعاية الشريرة ومن يحركها إلى تحقيق عدد من الأغراض بعضها ثابت والآخر متغير حسب وقت بث هذه الدعاية، غرضها الثابت الذى تعمل عليه دائمًا هو التشكيك في مفهوم وجود الدولة الوطنية في حد ذاته فتتجه إلى اختراع مفاهيم جديدة لتنظيم حركة المجتمع أو استدعاء مصطلحات تاريخية انتهى مفعولها، بالنسبة للجديد تبث مفاهيم الليبرالية والحريات بلا حدود وأن من يقف أمام تحقق هذه الحرية المزعومة هو وجود الدولة التي تمثل عقبة رئيسية أمام ليبرالية المجتمع وحريته المنشودة.

الحقيقة أن الغرض الذى تبحث عنه الدعاية السوداء ومن يصنعها ليس الحرية والليبرالية بل هو الفوضى التي ستكشف عن وجهها القبيح  بمجرد صدام المجتمع المسحور بأوهام الحرية مع الدولة التي تنظم حركة هذا المجتمع، وظيفة الدعاية السوداء هنا تقديم سموم الفوضى إلى المجتمع المستهدف في كأس الحرية المزعومة فيتناوله غافلا عن السم .

يمكن لنفس الدعاية السوداء استدعاء مصطلحات تاريخية سياسية وتغليفها بدعاية دينية والدين منها براء مثل الخلافة ومن أجل هذه الخلافة يجب أن يتوارى مفهوم الدولة الوطنية.

يبقى الهجوم من الدعاية السوداء ومحركيها على مفهوم الدولة هو الثابت أما المتغير فيرتبط بأى منجز تقوم الدولة الوطنية بإنجازه لمجتمعها فتتوالى حملات التشكيك ونشر الشائعات حول هذا المنجز من خلق حالة من عدم الثقة وعدم الاستقرار بين الدولة والمجتمع، لا تتوقف حملات الدعاية السوداء مادامت الدولة الوطنية موجودة وتحقق النجاح.

رغم وضوح هذه الحرب العلنية في فعلها وأغراضها والسرية في تفاصيل من يحركها ومجهولية مصادرها إلا أن هناك من لا يصدق في وجودها من الأساس معتبرًا أنها مبالغات فلا توجد دعاية سوداء أو محركين لها بل هى أوهام تدور في مخيلة المقتنعين بوجودها.

أعتقد أن المشككين في وجود حروب الدعاية السوداء عندما يطلعون على التقرير الذى نشرته الجارديان البريطانية قبل أسبوع سيغيرون رأيهم لأن حروب الدعاية السوداء موجودة وبالوثائق.

ارتبط التقرير الذى نشرته الجارديان بعمل بحثى كان يقوم به دكتور روري كورماك أستاذ العلاقات الدولية بجامعة نوتنجهام من أجل كتابه الجديد وأثناء بحثه عثر على عديد من الوثائق البريطانية تم الكشف ورفعت السرية عنها ولكن لم يتم دراستها بشكل مفصل وعندما بدأ هذه الدراسة اكتشف حجم عمليات الدعاية السوداء التي صنعتها الحكومة البريطانية ووجهتها إلى الشرق الأوسط وإفريقيا وبعض دول أسيا وكان غرض هذه الدعاية زعزعة الاستقرار من خلال تشجيع التوترات العرقية والطائفية وبث الفوضى والتحريض على العنف في الدول المستهدفة ولم تكتف هذه العمليات بما سبق فقد كان لها غرض رئيسي آخر وهو نشر الأفكار المتطرفة في البلاد الإسلامية وكان لمصر نصيبا كبيرا من هذه العمليات التي كشفتها الوثائق.

حسب تقرير الجارديان وأبحاث دكتور كورماك حول الوثائق المكتشفة فعقب الحرب العالمية الثانية أنشأت حكومة حزب العمال البريطانية وحدة أطلق عليها قسم أبحاث المعلومات وعرفت اختصارًا بـ (IRD) وكان غرض هذه الوحدة مواجهة الدعاية الشيوعية التي يقوم بها الاتحاد السوفيتي ضد الغرب وتحديدًا بريطانيا ولم تكتف الوحدة بمواجهة الاتحاد السوفيتي ودعايته بل امتد عملها للدول التي ترى أنها خطرًا على  المصالح البريطانية وتغطى الوثائق المكتشفة الفترة من الخمسينات حتى السبعينات، استخدمت هذه الوحدة كافة الأساليب العجيبة من أجل شن حملات الدعاية السوداء من اختلاق موضوعات صحفية مزيفة واستخدام صحفيين لترويج ما تريده وإنشاء منظمات وهمية تصدر تقارير تبدو موثقة ومراكز بحثية تنشر دراسات تؤكد ما تريده وكان الأخطر إنشاء جماعات دينية واستخدام جماعات أخرى وعلى رأسها جماعة الإخوان الفاشية  لنشر دعايتها السوداء من أجل زعزعة الاستقرار والفوضى في الدول المستهدفة.

مدت أجهزة الاستخبارات البريطانية هذه الوحدة بالمعلومات التي تستطيع من خلالها صناعة الزيف وبدأت تشرف على عملها الذى لا يتوقف في نشر سموم الدعاية السوداء، أخطر ما قامت به هذه الدعاية استخدام الدين لتحريض المجتمعات ضد الدولة وتشغل مصر الجزء الأكبر في هذه النقطة وحسب الوثائق المكتشفة كانت هذه الدعاية الموجهة إلى مصر عقب حرب 1967 وامتدت بعدها ويأتي وصف ما قامت به هذه الوحدة ودعايتها ضد مصر في الجارديان " انتشرت مثل هذه الدعايات على نطاق واسع بمصر في السنوات التالية حيث اكتسحت فكرة عودة الدين الدولة الاستراتيجية الرئيسية ".

هناك عملية دعائية كشفتها هذه الوثائق وتقدم دليلا واضحًا على حجم الزيف الذى يمكن أن تصنعه الدعاية السوداء فقد أنشأت هذه الوحدة تنظيمًا دينيًا متطرفًا وهميًا باسم " رابطة المؤمنين " وكان أغلب ما يوجهه هذا التنظيم المصنوع في بريطانيا إلى مصر متهمًا المجتمع بالابتعاد عن الدين وأن كل المصائب التي حلت بالأمة نتيجة العلاقة بالاتحاد السوفيتي الملحد وأنه يجب عودة حكم الدين ومن ناحية أخرى فالأجهزة الاستخباراتية البريطانية لم تكتف بالتنظيم المتطرف الوهمي الذي يبث دعايته ولكن كان هناك عمل على الأرض من أجل إطلاق تنظيمات دينية متطرفة حقيقية على الأرض غرضها تقويض استقرار الدولة وإن كانت الوثائق اقتصرت تغطيتها على عمليات الدعاية.

بالتأكيد هذا التحريض كان الغرض منه إخراج السوفيت من الشرق الأوسط ولا مانع من استخدام أي وسيلة  حتى لوكان الدين لهذا الغرض بل أن هذه الدعاية عملت على نشر الخرافة وتغييب العقل النقدي حتى لا يبحث المجتمع بعقلانية في أسباب تعرضه لانتكاسة بل فتحت أمامه الطريق للتطرف وهنا تحقق غرضين مطاردة أعدائها من السوفيت والعمل على نشر الفوضى في المجتمع المصري.

عندما نأتي لعلاقة الفاشيست الإخوان بهذه الحملات الدعائية السوداء الموجهة ضد مصر وهو ما كشفت عنه الوثائق فالحقيقة أن هذه العلاقة لا تثير الدهشة بالنسبة لأى متابع للتاريخ الأسود للفاشيست وجماعتهم فتاريخيًا أسست الاستخبارات البريطانية الجماعة الفاشية الإخوانية لغرضين أولهم خارجي من أجل استخدام الدين لوقف التمدد السوفيتي في الشرق الأوسط عقب الثورة البلشفية في روسيا ثم تأسيس الاتحاد السوفيتي في 1922، الغرض الثاني داخلي خاص بمصر نتيجة ثورة 1919 وتشكل الحركة الوطنية المصرية وتمسكها بمفهوم الدولة الوطنية فكانت الجماعة الفاشية هي المخلب القذر للاستعمار بكل أشكاله من أجل زعزعة استقرار الدولة الوطنية المصرية.

حسب الوثائق تم استخدام الفاشيست الإخوان وأسلوبهم في عمليات التحريض ضد الدولة باسم الدين والدين منهم براء وذلك عقب حرب 1967 وقبلها استخدمتهم نفس الدعاية البريطانية السوداء أثناء تواجد القوات المصرية في اليمن من أجل الضغط على القيادة المصرية لإخراج هذه القوات وتستطيع بريطانيا بعدها ممارسة سطوتها في الخليج العربي والتحكم في منابع البترول.

يبقى أمران الأول خاص بالبحث فما قام به الباحث البريطاني الدكتور كورماك في النهاية له أهدافه الخاصة ببحثه سواء إصدار كتاب أو عمل دراسات وهى بالتأكيد لن يكون محورها الرئيسي مصر وما تعرضت له من حملات دعاية سوداء لذلك يجب أن يكون هناك جهد بحثى مصري تقوم به المراكز البحثية الوطنية المصرية وما أكثرها في جامعاتنا لدراسة هذه الوثائق حتى تكتشف هذه الأمة حجم حرب الزيف الشرسة التي واجهتها طوال تاريخها ومازالت تواجهها، إن دراسة هذه الوثائق بطريقة علمية ودقيقة ثم نشر ما توصلنا إليه من نتائج ستجعلنا نحصن العقل المصري أمام حروب الدعاية السوداء وما تبثه ليل نهار من أكاذيب وشائعات خاصة مع ظهور وسائط السوشيال ميديا التي مهدت كل الطرق أمام انتشار هذه الدعاية الشريرة.

يتعلق الأمر بالمدة الزمنية لهذه الوثائق وعمل هذه الوحدة التي يقال أنها توقفت عن العمل في 1977 ولكن تقرير الجارديان يقول إنها استمرت في العمل لأكثر من عقد بعد ذلك، لكن الحقيقة أن كافة ما نراه حولنا ونلمس أثره من دعاية سوداء وأكاذيب وشائعات موجهة لمفهوم الدولة الوطنية يؤكد أن هذه الوحدة مازالت تعمل وإن تغيرت الأسماء والأساليب.