يطل علينا الرئيس مراراً وتكراراً مشيداً بدور المرأة المصرية في أكثر من موقف ومناسبة سواء فردية أو جماعية، فالمرأة المعيلة، والمطلقة، والأرملة، هي من النماذج القوية الصارخة التي تعكس حجم الصمود فيما وراء قصص وحكايات البطولة التي تلعبها الأنثى المصرية بجدارة واستحقاق، الأمر الذي جعلها مؤهلة لتبوء العديد من المناصب الحيوية استمراراً لدورها في الحياة كمصدر خصب، وأيضاً مصدر صلب.
وهي قصص لم يتهيأن لها أصحابها ولم يتخيرن إياها، بل أجبرن على ممارسة قوة التحمل والجلد والصبر الطويل، وهي صفات كان من المفترض أن يتولاها الرجل منفرداً من باب تكريم كل أنثى في حياته سواء أم أو زوجة أو أخت أو إبنة عملاً بمعايير القوامة المذكورة في القرآن الكريم، أو من باب الميل إلى تولي المسؤولية بالفطرة، وتطبيق كل مظاهر المحبة والرحمة والود في العلاقة بين طرفي المعادلة.
لكنها الحياة التي أرادت تبدل الأدوار في كثير من الأحيان غصباً لا طواعية، وهي ذاتها الحياة -التي للأسباب سالفة الذكر- أهلني لها والدي رحمات الله وسحائبه عليه، فقد كان منذ نعومة أظافري يعاملني وكأنني نصفين من ذكر وأنثى، نصفي الأنثوي المستقى من عطاء وحنان أمي، ونصف ذكوري مصدره هو بكل تفاصيل لتحمل المسؤولية والتصدي للمواقف والاعتماد على الذات وخدمة الآخر وعدم توقع الرد.
هو نفس توجهه الذي أخبرني به في أول يوم جامعي لي، فقد أطلعني لأول مرة عن مغزى إصراره لإلحاقي بمدرسة خاصة مشتركة، لا إسلامية ولا راهبات، بهدف خوضي لبروفة حياة مصغرة بها الذكر والأنثى استعداداً وتمهيداً للحياة الكبرى، فما إذا التحقت بالجامعة لا أصدم ولا أنزلق خلف الأهواء وأحلام البنات المراهقات في استجداء العاطفة من أي شخص يحمل صفة ذكر.
وقد يكون هذا التوجيه عير المباشر منه قد جعلني أتعايش وأتأقلم مع فكرة التعامل مع الآخر بشكل متوازن لا تسوده أي مشاعر بخلاف الصداقة المحترمة، أو أي مسمى للعلاقة الإنسانية التي يكسوها الاحترام المتبادل، بل وعلى العكس فلم أوقف حياتي لاختيار فتى الأحلام من بين أيٍ منهم، فقط لأنني كنت أرى الأمور بمعايير أكبر من عمري الحقيقي وفقاً لتوجيهات والدي وتنشئته لي.
وزاد من تلك المشاعر التي حملتها بين جيناتي لوالدي الذي لطالما أخبرني بأنني أشبهه كثيراً في تفاصيل شخصيته، أن منحني الثقة وحمّلني مسؤولية السفر بمفردي للشرق الأقصى في منحة دراسية حصلت عليها من الحكومة الماليزية، وسخّر لي الظروف من حولي وهيأني نفسياً للتفاعل وتولي مسؤولية نفسي لأول مرة بعيداً عن مرمى بصره وحضن أمي، والتي أتصور أنها كانت من أثرى تجارب حياتي التي أعدت فيها اكتشاف نفسي بالتجربة العملية.
تلك التفاصيل الدقيقة هي التي تجعل من رقة الأنثى يكسوها خشونة صفات التحمل والصبر والوقوف لضربات الزمن منفردة، دون حائط سد ولا مانع عتيد ولا حصن قوي، لكنها في ذات الوقت تصبح مؤهلة لزمن لا يعلمه إلا الله، حيث أصبح من الصعوبة بمكان القول بأن صفات الأنثى يمكن اختزالها في الرقة والهدوء والأصل الطيب وكفى، بل أصبحت ملزمة بتحصين نفسها بمزيد من الصفات الذكورية من باب ضمان الاستمرار في الحياة، دون دهس أو اضطرار للتواكل والاعتماد على الآخر، بما يمثل مهانة صارخة لكرامتها أو إحساس بالعجز نتيجة الاحتياج للآخر دون محالة.
فكما أن الحصول على رخصة قيادة السيارة هو بداية الاستعداد للقيادة في شوارع الحياة، فبداية التمكين تأتي من التحصين، وبداية التأهيل تأتي من التمهيد، والاعتماد على النفس هو رأس هرم الكرامة والتسلح بالقوة الذاتية في مواجهة تقلبات البشر، والاستعداد لكل مفاجآت الزمان.
حصنوا بناتكن بمنحهن الثقة لا التواكل